header

فنون تشكيلية
Plastic Arts |
Arts plastiques

 
معارض تشكيلية
Exhibitions, Expositions
مقالات، دراسات، بحوث
Articles, Etudes et Recherches | Essays, Research
 

الفن أفريقانيــــــــة. كوم

حسن موسى


من اخترع الأفارقــــــــة؟

الحلقة الخامسة

صلاح الاثنولوجيا في اصلاح الآيدولوجيا
 




إن ساغ لي أن أعارض "جان كلير" بـ "جان هيبير مارتان" ـ رغم قناعتي بأن كلاهما خرجا "من معطف "ميشيل ليريس"، الأب الروحي للأثنولوجيا التقدمية في فرنسا، فذلك لأن معارضة الواحد بالآخر تتيح لي رسم خارطة اللبس المفهومي الذي يربط فن الأفارقة بما اصطلح الأوروبيون على تسميته بـ "الفن".

أقول "الأوروبيون" وأنا أتحدث عن شخصيتين فرنسيتين لأن الصورة السائدة لهذا "الفن الأفريقي المعاصر" تدين بالكثير لمؤسسات الرعاية الفرنسية الرسمية وشبه الرسمية وذلك منذ عهد الاستعمار.

طبعا الأمر أكثر تشعبا وتركيبا من تبسيطي البائن. لكن الفن الأفريقي المعاصر عبر تشعبه وتركيب علائقه يطرح ـ بوصفه اختراعا أوروبياـ خصوصية مـُنغـّصة كونه أيضا أداة استبعاد تسحر المستبعَـد ين قبل المستبعدين .فمن جهة "جان كلير"، الذي يلعب دور حارس الهوية الأوروبية للفن، فالأمور تبدو بسيطة لمن يرغب في تبسيطها. يعني غير الأوروبيين ناس مختلفين وغرباء على مفهومنا للجمال وليس في مقدورهم فهم ما نحن بصدده منذ قرون. أذا سمحنا لهم بالولوج في حرم ثقافتنا الأوروبية فقد يلحقون بنا الضرر مثلما قد يلحقون الضرربخصوصيتهم الثقافية. وبالتالي علينا أن ندعم حصوننا واستحكاماتنا ولنكثر من اجراءات الضبط والتمحيص على الحدود الثقافية بين عالمنا وعالمهم.

وضمن هذا المشهد لا يكتفي "ج. كلير" بإسداء النصح إزاء ما يجب اتخاذه من إجراءات، بل هو ينخرط بحمية في الجدال الدائر حول موضوع الهوية الثقافية. وهو جدال يواجه فيه "ج . كلير" خصم حميم من وزنه هو "جان هيبير مارتان" الذي يقف "كراع" في الاثنولوجيا و"كراع" في الصناعة المعارضية. و"مارتان" يطرح نفسه في الحلبة كـ"نقيض /مكّمّل" مستديم لـ "كلير". وجدير بالذكر أن كلاهما موجود في الساحة الثقافية الفرنسية بشكل مستديم خلال العقدين الأخيرين على الأقل. "ج . كلير" كناقد فني ومتحفي، و"ج .هـ . مارتان" كمتحفي مختص بالفنون غير الأوروبية.

في مقدمة كاتالوغ معرض "سحرة الأرض" يعرّف "مارتان" حدود المناقشة ـ لعناية "كلير" غالبا ـ بوصفها مناقشة حول هوية فن أوروبي غايته استيعاب فنون المجتمعات غير الأوروبية. و في أسلوب المناظر المطبوع بنبرة الناطق الرسمي الثقافي يطمئن "مارتان" السلطات السياسية التي خوّلته ليتولى عنها مشقة تدبير اشتباهات الشأن الفني المعاصر بين إشكاليات السياسة وعلم الجمال.

يكتب "مارتان" في مقدمة كتالوغ معرض "سحرة الأرض" ".. إن الادّعاء الرائج بعدم وجود الإبداع التشكيلي إلا في العالم الغربي أو في المجتمعات المتأثرة جدا بالغرب ليس سوى أثر باق من النزعة الاستعلائية لثقافتنا. ناهيك عن أولئك الذين يعتقدون حتى اليوم بأن امتلاكنا للتكنولوجيا يجعل ثقافتنا أفضل من غيرها من الثقافات. وحتى أولئك الذين يصرحون بلا مواربة بأن لا مجال للمفاضلة بين الثقافات فهم يجدون صعوبة كبيرة في قبول فكرة أن أعمال فنية من العالم الثالث يمكن أن توضع على قدم المساواة مع الأعمال الفنية لحركاتنا الطليعيات. هذا الموقف يدل على أن المقاومة في مجال التشكيل أقوى منها في مجالات ثقافية أخرى كالموسيقى والمسرح والفنون الاستعراضية أو الأدب."

Jean-Hubert Martin, Magiciens de la Terre, Paris, Ed. Ce,tre Georges Pompidou, 1989, p.8

وضمن تكاملهما النقدي يبذل كل من "كلير" و"مارتان" ـ كل بطريقته ـ يبذلان لقرائهما صورة لأوروبا باعتبارها طبق الغرب، ثم يسعى كل منهما ـ كل بطريقته ـ لترميم الحدود بين الثقافة الأوروبية والثقافات غير الأوروبية، ولو شئت قل بين المجتمعات النامية [سمّها المتحضرة] والمجتمعات المتخلفة [وسمّها البربرية]. فمن جهته يقوم "ج . كلير"ـ في دور الأوروبي مالك الكون ـ يقوم بصيانة الحدود السياسية القائمة ويسقطها على واقع حركة الثقافة المعاصرة، ليقوم بعد ذلك بنفي ثلثي الإنسانية خارج التقليد الثقافي الأوروبي. كن نفي غير الأوروبيين خارج التقليد الثقافي الأوروبي ما عاد ممكنا في العالم المعاصر الذي يتميز بكون التقليد الثقافي الأوروبي النصراني فيه قد تمكن، ضمن منطق اقتصاد السوق، تمكن من أن يفرض مراجعه وأحكامه على أزمنة وأمكنة كل الضالعين في ثقافة السوق، يعني علينا كلنا على إطلاق العبارة. وسواء كنا أفارقة أو سيويين أو أوروبيين أو أمريكيين فنحن نتغذى كلنا من نفس التقليد الثقافي، تقليد ثقافة السوق الرأسمالي وعلى ضروراته ندبر أمور ديننا ودنيانا. بلا شك فـ "جان كلير" أدرى بكون معاصريه، أفغانا كانوا أو جزائريين، غير قابلين للنفي خارج التقليد الثقافي المعاصر الذي يدعي الأوروبيون ملكيته. وبالتالي لا يبقى أمامه الا العمل على ترميم وصيانة الهوية الجمالية الأوروبية في بعدها الذي لا تطاله يد غير الأوروبيين، بعد "الماضي المجيد" لثقافة أوروبية سابقة على عهد التماس والتمازج مع المجتمعات غير الأوروبية. أن ثقافة أوروبا قبل الرأسمالية تصبح عند "جان كلير" مساحة ذات حظوة خاصة تسوّغ له أن يسقط عليها تمّيز الهوية الثقافية الأوروبية بالتعارض مع غيرها. وهي المساحة الوحيدة التي يمكن عليها رسم حدود ثقافية بين أوروبا وغير أوروبا، ولو شئت قل بين الحضارة و البربرية. ففي الزمان والمكان قبل الرأسماليين، قبل اكتشاف "الدنيا الجديدة"، قبل الثورة الصناعية، قبل الاستعمار، قبل التجارة الكبيرة العابرة للقارات، كان في وسع أوروبا أن ترى نفسها في مرآة الآخرين ككيان غربي متميّز وكامل بلا قسمة أو نزاع في المواريث والغنائم. كان بوسع الأوروبيين أن يعبروا ببراءة حقيقية عن دهشتهم الكبيرة أمام "الآخر" على نحو التساؤل الشهير "كيف يمكن للمرء أن لا يكون أوروبيا؟" وفي هذا المشهد يمكن لـ "جان كلير" أن ينتقد ـ وعن حق ـ عواقب الضلال النيوكولونيالي على ثقافات ما قبل رأس المال في المجتمعات غير الأوروبية، و في نفس الوقت ينتهز فرصة هذا الالتباس النيوكولونيالي ليتمركز ـ وعن باطل ـ كأفضل حراس الثقافة الغربية في وجه البرابرة الوافدين من العالم الثالث.

وإذا كان "جان كلير" يسعى لبناء الأسوار العالية لتحصين الثقافة الأوروبية وفصلها عن الثقافات الأخرى، فإن "جان هيبير مارتان" يتبع أسلوبا مغايرا فحواه صيانة حدود الآخرين على مزاعم المساواة والتعارض والتساند على حق الأصالة. "جان هيبير مارتان" يرى غير الأوروبيين كأنداد قابلين للمقارنة وللمعارضة مع الأوروبيين. بل هم قمينون برد النظرة التي يلقيها عليهم الأوروبيون بنظرة ندية معاكسة. وفكرة "رد" النظرة الأوروبية في نظري[الضعيف]، ليست منزّهة تماما من شبهات العرقية، بالذات حين يحاول الأفارقة رد النظرة الأوروبية العرقية بنظرة افريقية عرقية معاكسة. وقد وجدت هذه الفكرة الغريبة بعض الصدى في شعار"عكس البخار" أو"رد البخار"«reversing the steam» «Renverser la vapeur» الذي رفعه منظموا معرض أول بينالي في جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتايد فكأنهم يبشرون العالم بأبارتايد معاكس.

إن منطق "مارتان" ـ والذي لا يقل تعقيدا عن منطق "كلير" ـ إنما يعتمد على فكرة "عرقنة" الثقافة الأوروبية مثلها مثل غيرها من الثقافات غير الأوروبية التي لا يراها الأوروبيون الا "مـُعَـرقنة. وأنا أستخدم عبارة "عرقنة الثقافة " في معنى اختزالها إلى أصل عرقي "اثني" Ethniciser وفكرة "عرقنة" الثقافة الأوروبية تسوّغ لـ "مارتان" تأسيس مفهوم المساواة بين كافة الثقافات بلا استثناء على طموح إنساني نبيل فحواه تحقيق وحدة الأعراق والثقافات المتعددة سعيا إلى اليوتوبيا العالمية [وقيل "العولمية"]. وفي هذا الأفق تكتسب كل ثقافة مشروعيتها من رغبتها في الاندغام في اليوتوبيا الأوروبية، تحت رعاية أوروبا، التي، باسم حظوتها التاريخية الموروثة من عهد الاستعمار، ترى نفسها بشكل طبيعي كصاحبة المبادرة[اقرأ "مالكة المبادرة"] ومن ثمّ فهي تعطي نفسها حق احتكار إدارة المشروع الطوباويي وتعريف الشروط التي يتحقق على هديها.

وعرقنة أوروبا بذريعة النظر المعكوس الصادر من طرف غير الأوروبيين هي فكرة قديمة عزيزة على "ميشيل ليريس"، الأب غير الشرعي للفن الأفريقي المعاصر. وكان" ليريس" قد أطلق ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم "النظر الراجع" لمعالجة الوضعية المذنبة للباحث الاثنولوجي المبعوث إلى المستعمرات من قبل مؤسسات السوق الرأسمالي. وفي خصوص علاقة الباحث الاثنولوجي بالدولة الاستعمارية يقول "ليريس" في كتابه "خمس دراسات في الاثنولوجيا" "مهمتنا الاثنولوجية ما هي إلا تكليف من طرف الدولة. ونحن آخر من يتبرّأ من عواقب السياسات التي تمارسها الدولة وممثلوها على هذه المجتمعات التي اخترناها نحن كموضوع للدراسة".

Michel Leiris, Cinq Etudes d’Ethnologie, Paris, Denoël/Gonthier, 1969, p.87

ورغم ذلك فـ "جان هيبير مارتان ـ كما سنرى ـ "لا يتّبع خطى الأب الروحي للفنأفريقانية الفرنسية بإخلاص "الحافر على الحافر". إن فكرة "ميشيل ليريس" ـ اذا صرفنا النظر مؤقتا عن طموحها الانساني الطوباوي ـ تبدو، من منظورعلاقة الاثنوغرافيا والاستعمار، فكرة ثورية "مخرّبة" بقدر ما هي فكرة مغرقة في الغشامة السياسية. ولا عجب فمن غير "ميشيل ليريس" ـ الاثنولوجي والشاعر السوريالي ـ من غيره قمين باطلاق مثل هذه الفكرة السوريالية التي تطعن في مبدأ الاثنوغرافيا كمبحث استعماري وتجعل الرجل يبدو كمجنون على شجرة مشغول بقطع الفرع الذي يجلس عليه.

يقول "ليريس" "اذا نظرنا للاثنوغرافيا كأحد العلوم التي ينبغي أن تساهم في تأسيس فكرة انسانية حقيقية، فنحن، بلا شك، نصاب بالحسرة على كون هذا العلم الاثنوغرافي يبقى آحادي الجانب. أعني أنه اذا كانت هناك اثنوغرافيا غربية تدرس ثقافات الشعوب الأخرى فان العكس غير موجود ".."و من وجهة نظر معرفية فهناك نوع من اختلال في التوازن يزيّـف منظور البحث ويؤمّن على ميلنا الاستعلائي. وهكذا تجد حضارتنا نفسها بعيدا عن متناول الفحص والدراسة الذين يمكن أن تباشرهما تجاهها هذه المجتمعات التي نجعل منها موضوعا لبحثنا".

وهكذا يبدو أمر "ليريس" في حقيقته أمر اصلاح طموح، اصلاح مزدوج يستهدف صيانة الكفاءة المنهجية للعلم الاثنولوجي مثلما يستهدف صيانة الكرامة الانسانية لطرفي الظاهرة الاثنولوجية. و في هذا المشهد يطرح "ليريس" مفهوم "قسمة العلم الاثنوغرافي" بالتساوي بين الفرقاء. وذلك في مطلع الخمسينات كما يشهد بذلك خطابه أمام "جمعية العاملين العلميين، قسم العلوم الإنسانية" والمعنون "الاثنوغرافيا أمام الاستعمار".

و فكرة "القسمة" العادلة في مشهد "ليريس" تقوم على "أن يتم تدريب باحثين اثنوغرافيين في البلدان المستعمـَرة و اتاحة الفرصة لهم كي يبعثوا عندنا في أوروبا ليدرسوا ويبحثوا في أساليب حيواتنا". لكن "ليريس" الشاعر الألمعي والمناضل التقدمي المعادي للاستعمار [الـ "واقع من السما سبع مرات"]، أدرى بأن الأمر، أمر القسمة العادلة، ليس بالبساطة التي يبدو عليها، كون مجمل العلائق بين المستعمِـرين والمستعمَرين تبقى ملغومة بواقع الهيمنة وأحكامه. ولذلك فهو يقول مستدركا "المشكلة هي أن هؤلاء البحّاث سيعملون وفق المناهج التي علمناهم إياها وأن الاثنوغرافيا التي سينتجونها تبقى أسيرة نظرتنا ومناهجنا"

Leiris pp. 106-111

ما العمل؟

ترى هل يستقيم هجران الاثنولوجيا لانقاذ الأفارقة؟

"كـُـس أم" الاثنولوجيا إن كانت صيانتها تمدّد من واقع قهر العباد في أفريقيا أو في واق الواق..[وعبارتي لا بد ستخدش حياء الأخ الدكتور محمد عبد الرحمن أبوسبيب الباحث العاكف على فن الأفارقة في بلاد تموت من البرد حيتانها. لكن انت حياءك دا يا زول، هو الفنأفريقانية بتاعتك خلّت فيه حاجة يخدشوها؟؟]، طبعا دا رأيي أنا، لكن رأي "ليريس" شنو؟ "ليريس" أكبر طموحا مني، فهو ينوي إنقاذ الأفارقة بالاثنولوجيا. ربما لأن الرجل على يقين من كون وجود الأفارقة نفسه يستحيل في خاطر الأوروبيين خارج المبرر الاثنولوجي. فالأوروبيون لا يرون الأفارقة إلا داخل إطار النظر الاثنولوجي. وعليه ففكرة هجران الاثنولوجيا تروّع الخواطر الأفريقانية في أوروبا وفي أفريقيا معا. فمن جهة أولى، هي تروّع خاطر باحثي الاثنولوجيا الأوروبيين والسلطات الأوروبية التي بعثتهم وخوّلتهم تفسير أقوام القارة، كون هجران إطار النظر الاثنولوجي يموضع القوم أمام صورة لا تطاق لقارة تخلّقت و تتخلّق كل يوم في ظلام الفشل الانساني للنسخة الأوروبية المسيحية لحداثة رأس المال. ومن الجهة الثانية ففكرة هجران الاثنولوجيا تروّع خواطر كل الأفارقة الذين تعلموا أن ينظروا لقارتهم بمنظار اثنولوجي أوروبي. وبما أن لا أحد يرغب في هجران صورة إفريقيا الاثنية "المعرقنة" ذات المنافع الأنية العديدة، لا يبقى أمام "ميشيل ليريس"، بصفته كاثنولوجي إنساني تقدمي ومعاد للاستعمار، لا يبقى أمامه سوى أن يتولى مهمّة مداواة الاثنولوجيا من مرض الاستعمار. هذه" المهمة المستحيلة" ستشغل "ليريس" لغاية نهاية حياته الحافلة. والحق يقال، فقد حاول "ليريس" مخارجة هذه الهدية المفخّخة المسمّاة بـ "علم الاثنولوجيا" والتي عهدت بها اليه السلطات الاستعمارية، حاول مخارجتها من حقل ألغام الشرط الاستعماري، متجنبا المزالق والفخاخ الكثيرة الأخلاقية والمنهجية والسياسية، التي تتربّص بهؤلاء وأولئك من الرجال والنساء المقيمين على طرفيي ممارسة متحقّقة في مشهد المجتمع الطبقي المعاصر. أن الاثنولوجيا غير الأوروبيةـ والاثنولوجيا بطبعها غير أوروبيةـ ليست سوى مرآة أوروبية اخترعتها أوروبا لتتأمل على أبعادها الأفريقية أو الأسيوية الخ، أحوال صورتها وصيرورتها بين تناقضات الوهم والحقيقة. لكن هذه المرآة العجيبة تتميز بكونها ذات وجهين، وعلى وجهها المعاكس يمكن لغير الأوروبيين مشاهدة صورة أوروبا وصيرورتها من زاوية نظر مخالفة مثلما يمكنهم رؤية صورتهم وصيرورتهم هم أنفسهم في هذه المرآة التي يبذلها لهم الأوربيون لأسباب بعيدة عن البر المسيحي اياه. وحين أقول أننا نملك فرصة مشاهدة صورة أوروبا وصيرورتها في نفس الوقت الذي نملك فيه فرصة مشاهدة صورتنا وصيرورتنا في مرآة الاثنولوجيا الأوروبية فهذا لا يعني أن الأوروبيين محرومين من مشاهدة الصورتين والصيرورتين في آن معا. لكن النظر يبقى رهين المصلحة. وقد تعود الأوروبيون على فكرة أن لا مصلحة لهم في النظر نحو الآخرين وهي بلا شك "عوجة كبيرة" عواقبها لا تخص الأوروبيين وحدهم. وفي هذا الأفق تبقى مهمة "إنقاذ" الاثنولوجيا من عقابيل الثقافة الاستعمارية أصعب المهام التي تصدى لها الرجل. فـ"ليريس" يفترض "أن تدريب عدد كاف من الاثنولوجيين من أهل المستعمرات" .. "يمكن أن يكون نافعا على أساس أن هؤلاء البحّاث الخارجين من المجتمع المستعمَر، بقدر ما ينسلخون عن عاداتهم ـ وهم فاعلون لا محالة ـ فهم قمينون، على الأقل، بحفظ شيء أكثر حياة من ثقافة ذويهم في الذاكرة وذلك لكونهم يشاركون الناس موضوع بحثهم نفس التجربة المعاشة". وهكذا يخلص "ليريس" إلى نتيجة متواضعة وبعيدة عن طموح "القسمة" الطوباوية الأولى. ومع استحالة توفر الأثنولوجيين الوافدين من المستعمرات ليدرسوا المجتمع الأوروبي على شرط المساواة في النظرالاثنولوجي، فان "ليريس" ينصح بأن يتولى الاثنولوجيون المحليون من رعايا المستعمرات أمور البحث الاثنولوجي وسط ذويهم من "السكان الأصليين"، يعني "من دقـنـُه وافتل لـُه"، ولا يهم كثيرا ما إذا كان هؤلاء البحاث الـ "أصليون" سيطبقون على مجتمعات ذويهم المناهج الاثنولوجية التي درّسها لهم الأوروبيون. هذا المنطق يردنا ـ رغما عن أنف إنسانية "ليريس" ورغما عن معاداته للاستعمار وتقدميته ـ إلى شعار "فرز المويات" العزيز على الجنرال "ديغول" و"جان كلير" ومن لف لفهم من العنصريين على تباين الألوان. ومن الآن فصاعدا سيتمكن الاثنولوجيون الأوروبيون من أن يواصلوا طبخاتهم الأوروبية فيما بينهم دون أن يتطفل عليهم اثنولوجي من بلدان العالم الثالث. وعلى كل حال فالبحاث الأثنولوجيون من أهل العالم الثالث سيكونون في شغل شاغل عن ما يحدث في اثنولوجيا الأوروبيين بحكم انقطاعهم المفترض لتدبير اثنولوجيا ذويهم.

وهكذا ينمسخ "ميشيل ليريس" بقدرة قادر إلى نفق سريّ يستطيع "جان كلير" التوسل به ـ تحت أرض التناقضات الظاهرة ـ للقاء غريمه الحميم "جان هيبير مارتان" وبالعكس. يصبح "ميشيل ليريس" مناسبة للقاء الأخوة الأعداء كلما شعرت أوروبا بأن هناك خطر يتهددها من الخارج، وبالذات من جهة الثقافات غير الأوروبية. ذلك أنه حين يتطلّب الأمر التعاطف مع المعذبين في الأرض فليس هناك أفضل من التلويح براية "القسمة" الطوباوية مع "سحرة الأرض" من كل الألوان. وهذه الصنعة يحذقها "جان هيبير مارتان" أكثر من غيره في فرنسا المعاصرة التي لا يغمض لها جفن عن مراقبة مصالحها في العالم الثالث الأفريقي، في هذا الوقت الذي بدأ الخصوم الأمريكان يتحسسون فيه موضع قدم لهم في القارة المظلمة، وبالذات في بعض مناطق النفوذ الفرنسي. [ساحل العاج، الكونغو..]. أما حين يتعلق الأمر بترميم الهوية الأوروبية في بلد كايطاليا التي لم يعد عندها ما تخشى فقدانه في المستعمرات السابقة أو في أي مكان من العالم الثالث، فان السلطات الايطالية تجد في شخص الفرنسي "جان كلير" ـ أول مدير غير ايطالي لمعرض بينالي البندقية ـ خير مدافع عن هوية ثقافية أوروبية عمادها الماضي الفني المجيد لايطاليا، بالذات في هذه اللحظة التاريخية الراهنة التي انمسخت فيها شعوب العالم الثالث إلى جحافل بربرية تهدد بتدمير كنوز الحضارة الأوروبية كما دمّر الطالبان الأفغان آثار الحضارة الآسيوية في حادثة تماثيل "بوذا باميان" وكما يدمر المتعصبون الإسلاميون مظاهر الحضارة الأوروبية كوجه في الجهاد ضد البدع و الضلالات.

واليوم، انقضى أكثر من نصف قرن من الزمان منذ أن أطلق "ليريس" قولته المشهودة بضرورة القسمة العادلة للنظر الأثنولوجي. لكن لا أحد يفهم لماذا لا يزال جل الاثنولوجيين الأفارقة عاجزين عن انتاج اثنولوجيا تعانق أولويات الواقع الأفريقي؟ لماذا لم يفلح الأفارقة في تأسيس اثنولوجيا فاعلة وجهة التنمية الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي والسياسي؟ هذا سؤال الإجابة عليه تتجاوز سعة هذه الورقة المتفائلة. لكن يبقى أن الممارسة الاثنولوجية في تحليل نهائي ما، هي شكل من أشكال التعبير عن علاقة الهيمنة المادية على أزمنة و أمكنة الآخرين. وصاحب المبادرة الاثنولوجية إنما يتخذها وسيلة لاحكام هيمنته على الآخرين مثلما يتخذ منها دليلا على واقع هذه الهيمنة. أقول ربما كان تقاعس الأفارقة عن إنتاج اثنولوجيا أفريقية يتفسر بكون الممارسة الاثنولوجية تظل غير واردة خارج إطار الصراع بين مصالح السوق الرأسمالي الذي ليس للأفارقة فيه ناقة ولا جمل.

"مصالح السوق" هذه العبارة السحرية التي تفتح مغاليق الاشكالية الفنأفريقانية على هاوية سوء التنمية كانت ضمن متاع "ليريس" النقدي منذ زمن طويل. كان "ليريس" على يقين من أن الاثنولوجيا لا تفلت من قانون مصالح السوق. وكان يعرف أن إحتمال تخلّق اثنولوجيا إنسانية تحت شرط السوق هو أمر مستحيل مثلما كان يعرف أن مساعي الخلاص الفردي للبحاث الاثنولوجيين تنطوي على مخاطر التهلكة الأكاديمية. نعم كان "ليريس" يعرف "..ان الباحث الاثنولوجي الذي يجاهر بتضامنه التام مع الناس موضوع بحثه"..."انما يعرض نفسه ببساطة لخطر أن تسحب منه السلطات التخويل الذي منحته له كباحث..". وفي مواجهة هذا النوع من المخاطر تنمسخ أرض البحث الاثنولوجي إلى ساحة حرب طبقية لا يطيقها سوى البحّاث من أهل المراس أو من ذوي الروح الاستشهادي. و رغم يقيننا بأن "ميشيل ليريس" ليس "شي غيفارا" الاثنولوجيا الا أننا نظلم الرجل لو اختزلناه لمجرد "نفق سرّي" لمنفعة عملاء السلطات التجارية والسياسية، وذلك لأن الرجل بفطنته وبرهافة حسه الشعري والسياسي وبتاريخه الشخصي الحافل بالمواقف المشرفة في النضال ضد الاستعمار، دون أن ننسى مواقفه الأثنولوجية الأفريقانية التي لا تنجو من اللبس المفهومي العرقي، أقول أن "ليريس" بكل ما يمثله إنما ينطرح كنصب لسوء الفهم في مسار الحوار المستحيل بين الأوروبيين و"أفارقتهم" الذين اخترعوهم اختراعا من وحي مصالحهم. بل أن الرجل لينفع أيضا كنصب لسوء الفهم المستديم في حوار "بعض "الأفارقة"المتأوربين" وذويهم من "السكان الأصليين".

ميشيل ليريس كان على يقين من كون الأفارقة قد تحولوا عن الميراث الثقافي للأسلاف ـ ولو شئت قل "انمسخوا" ـ بشكل حاسم لا رجعة فيه، وذلك تحت ضغوط حضارة السوق الرأسمالي الغربي التي استوعبتهم في هامشها الاثنولوجي المتحفي الذي يسع كل أهل الحضارات البائدة بدون فرز. وفي كتابه "أفريقيا الشبحية" الذي يحكي وقائع "حملة داكار/جيبوتي"، سجل "ليريس" أبلغ الشهادات عن البذاءات العرقية البالغة العنف التي لجأت لها الدولة الاستعمارية بسبيل اخضاع أهل القارة وتربيتهم على قبول نظام الهيمنة.

وفيما وراء التعقيد والتركيب اللاحق بمواقف "ليريس" الأفريقاني فان هناك سؤال يبقى بلا إجابة حول دوافع "ليريس" الشاعر المتمرد الذي تفتح في قلب الحركة السوريالية أيام عزّها الفني والسياسي. ما الذي يجعل هذا الشاعر العارف بالأدب وموسيقى الجاز والناقد الفني الذي كان بين أصدقاءه نفر من سدنة الحداثة الفنية في القرن العشرين، ما الذي يجعل صديق "ماكس جاكوب" و"جان دوبوفييه" و"أندريه ماسون" و"خوان ميرو" و"تريستان تزارا" و"بابلو بيكاسو"، ما الذي يجعله ينخرط في مغامرة الاثنولوجيا الأفريقانية في رفقة الفسالة من موظفي الإدارة الاستعمارية؟

وحتى بعد عودته من حملة "داكار/ جيبوتي"، في مطلع الثلاثينات، فهو يسجل نفسه كدارس في "معهد الاثنولوجيا بجامعة باريس". ومن حينها سيكرّس "ليريس" جل جهده لمشروع اصلاح الاثنولوجيا وانسنتها حتى ولو أدّى به الأمر لتأييد مبدأ الكفاح المسلح لتحرير الشعوب المستعمرة وهو موقف نادر في أوساط الاثنولوجيين الفرنسيين وحتى في أوساط المثقفين عامة في تلك الأيام. يكتب "ليريس" في "خمس دراسات في الاثنولوجيا": "إن كان للباحث الاثنوغرافي أن ينشط في دعم أهل المجتمعات المستعمَرة فان الخدمة التي يمكن أن يؤديها، سواء من خلال التعبير بصراحة عن معاداته للاستعمار، أو من خلال تقديم علمه وخبرته للمناضلين من أجل الحرية، ليست بذات بال في مشهد المستعمَر. وذلك لأن التحرر المادي ـ الذي هو شرط أساسي لمواصلة كل دعاوى المشروع التحرري ـ لا يتحقق إلا عن طريق وسائل أكثر عنفا وأشد نجزا من ما هو في متناول يد البحّاث والعلماء".

ولعل أكثر جوانب شخصية "ليريس" إثارة للاعجاب ـ وللعجب ـ هو قدرته على التطور وتجاوز حظ النفس التي تربت في شعاب الأنانية العرقية الأوروبية وامتيازات الاستعمار. إذ بين اللحظة التي كان الاثنولوجي الأفريقاني يكيل فيها الصفعات لخادمه السوداني "ماكان"، أثناء مرور حملة "داكار/جيبوتي" بجنوب السودان في مطلع الثلاثينات [أنظر "مرآة أفريقيا"]، واللحظة التي يعلن فيها موت الاثنولوجيا أمام الاستعمار في مطلع الخمسينات، فان "ليريس" يكمل دورة كاملة من التحولات الفكرية والسياسية والنفسية جعلته يكتب ـ في مطلع الستينات إبان حرب الجزائرـ مدافعا عن حق الباحث الاثنولوجي في التمركز "كمحام طبيعي" للشعوب المستعمرة. ومواقف "ليريس" التقدمية أدت به للوقوف أمام "مجلس تأديب إداري" عقده "المجلس الوطني للبحث العلمي" [سي.ان.ار.اس]. كان المجلس، الذي يعتبر أهم مؤسسة بحثية رسمية في فرنسا يأخذ على "ليريس" توقيعه لوثيقة سياسية معارضة لسياسة فرنسا الاستعمارية اشتهرت بـ "بيان المئة وواحد وعشرين" وفحواها حث الشباب الفرنسي من مجندي الخدمة العسكرية الإلزامية على العصيان ومعارضة الحرب الاستعمارية في الجزائر. ["مرآة أفريقيا"].

وعلى الرغم من موقفه الناقد للاثنولوجيا فان "ليريس" لم يفكر لحظة في هجران الاثنولوجيا. وربما يتفسر هذا الموقف بكون الرجل الذي اكتشف العالم غير الأوروبي كما اكتشف الاثنولوجيا، معا ضمن ملابسات الاستعمار، كان يرى في اصلاح الاثنولوجيا وأنسنتها فرصة للتمركز بعدل ضمن الزمان والمكان الذين يتقاسمهما مع "الآخرين". وأظن أن المنطق الذي أسس عليه الرجل موقفه من العالم يمكن أن يحال لتجربته الفنية كسوريالي وتجربته الاثنولوجية الشخصية كأفريقاني، وهي تجربة ساعدته على تجاوز أغلب رفاقه من الفنانين السورياليين الذين وقف اهتمامهم بالعالم عند تخوم العصيان الفني الطليعوي ضمن التقليد الأوروبي. ذلك إن كانت العلاقة مع أهل العالم غير ممكنة خارج الاثنولوجيا فمن باب أولى اختراع اثنولوجيا جديدة تسع فداحة المشروع الثوري الطوباوي الذي يقوم في مشهد "ليريس" على مصالحة ـ وقيل تهجين ـ الثقافة التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة. وبين حدب الباحث الاثنولوجي على الثقافة التقليدية وتوجس الفنان السوريالي من التكنولوجيا الحديثة يورّثنا "ليريس" مشروعه الطوباوي في شكل هدية مسمومة سيتلقفها بفرح كبير رهط الفنأفريقانيين الفرنسيين من نوع "جان هيبير مارتان" ليبنوا عليها الإطار الآيديولوجي للصناعة المعارضية المتخصصة في الفن المعاصر غير الأوروبي.

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco