الديمقراطية وثقافتها: مداخل متعددة للنقاش الجزء الثاني

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

الديمقراطية وثقافتها: مداخل متعددة للنقاش الجزء الثاني

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

أعزائي وعزيزاتي المساهمين والمساهمات، في بوست "الديمقراطية والثقافة ومناهج النقد: قضايا متنوعة للنقاش"، والمتابعات والمتابعين له. هكذا وصلتُ بعد استشاراتٍ عديدة إلى "إصدار" جزء ثانٍٍ من البوست مع تغيير "طفيفٍٍ" في العنوان. ومع ذلك فلا أزال على غير اطمئنان العنوان الجديد. وقد أجري عليه بعض التعديلات مستقبلاً. وعلى أية حال فإن بابي يظل مفتوحا على مصراعيه لمناقشة أية اقتراحات في صدد تحسين العنوان.

مع جزيل شكري مقدماً

بـــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في السبت يونيو 06, 2009 6:55 pm، تم التعديل 11 مرة في المجمل.
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

وهذه هي المفاجأة التي تحدثتُ عنها في الجزء الأول من البوست، والتي ذكرت أنها تتعلق بنصوص لعلم من أعلام فلسفة الأنوار جرت العادة على الاستشهاد به كمرجع بلغت مقولاته الغاية في معاني التسامح والقبول بالآخر المختلف باعتباره مماثلاً ونداً. ولعل أشهر مقولاته على الإطلاق هي: "إنني أخالفك الرأي لكنني على استعدد أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن حقك في التعبير عن رأيك".

فولتير نعم. صاحب هذه المقولة "المجيدة" التي تُمثل في وعي وضمائر الكثيرين والكثيرات من الديمقراطيات والديمقراطيين المخلصات والمخلصين بحق، جوهر فكرة الديمقراطية.

ومع ذلك فإن فولتير هو صاحب أول النصوص التي سأقوم بإنزالها هنا، والتي تطرح سؤالاً جوهرياً حول هذا المخالف في الرأي الذي يعتد فولتير بحقه في التعبير عن رأيه للدرجة التي يعلن بها عن استعداده لدفع حياته "ثمناً" له. وأنا أتحمل كامل مسئولية ترجمتها. وهذا هو المقتطف الأول من مقاله (غير الشهير): "مقال في أخلاق الأمم وأفهامها":

"فيما يتعلق بالاختلاف بين الأجناس البشرية فليس من الممكن إلا لشخصٍ أعمى أن يشك في أن البيض، والزنوج، والهوتنتوس، واللابون، والصينيين، والأمريكيين [الأصليين]، هم أجناسٌ مختلفةٌ تماماً، وليس هناك من رحالةٍ مستنيرٍ مرَّ في طريقه بلايدن ولم يشاهد ذلك الجزء من الغشاء المخاطي لأحد الزنوج، جففه وحفظه رويتش. وقد اشترى منه القيصر بيير العظيم
(Pierre le Grand ) كل البقية الباقية من ذلك الغشاء، وقام بنقله إلى كابينة الأشياء النادرة ببطرسبورغ. وهذا الغشاء أسود اللون؛ وهو الذي يقوم بوظيفة نقل وحفظ هذا السواد الموروث عند الزنوج، والذي لا يفقدونه إلا في حال الإصابة بمرض يؤدي إلى تمزيق هذا النسيج الجلدي، ويسمح للشحم بالتسرب من خلايا الزنجي، تاركاً على بشرته بقعاًً بيضاء. إن عيونهم المستديرة، وأنوفهم المنبطحة، وشفاههم الغليظة دائماً، وآذانهم المشكَّلة بصورةٍ مختلفة، وصوف رؤوسهم، ومستوى ذكائهم، يضع بينهم وبين الأجناس البشرية الأخرى اختلافاتٍ خرافية. ومما يؤكد أنهم لم يكتسبوا هذا الاختلاف بفعل المناخ، هو أن زنوجاً وزنجياتٍ تم ترحيلهم إلى بلادٍ باردة، ظلوا يواصلون دائماً إنتاج حيواناتٍ من جنسهم".

بـــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الثلاثاء مايو 09, 2006 11:53 pm، تم التعديل مرة واحدة.
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

أجريتُ تعديلات مهمة على مقدمتي لنص فولتير أعلاه. أرجو مراجعته. من جانب من سبق لهم ولهن قراءته.
مع الشكر والمعذرة.

بــــولا
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

قبل أن أورد مقتطفات أخرى من نص فولتير "مقال في أخلاق الأمم وأفهامها"، رايت أن أورد فقرةً أخرى من نفس المقال يعيد يكرر فيها ما ورد في الفقرة أعلاه بصورةٍ أكثر تفصيلاً. وإعادة فولتير المفصلة لهذه الفقرة تحمل دلالاتٍ هامة أناقشها فيما بعد.

"عندما يتوغل المرء في ما وراء نهر السنغال فإنه يصاب بالدهشة من أن يرى أن الناس جميعاً هنا، في جنوب النهر سود البشرة تماماً، بينما تغشى سواد بشرتهم مسحة رمادية في الجزء الشمالي من النهر. إن العنصر الزنجي هو نوعٌ من البشر مختلفون عنا، مثل اختلاف الكلاب السبلينية عن الكلاب السلوقية. إن الغشاء المخاطي، هذه الشبكة التي وضعتها الطبيعة بين الجلد والعضلات، هو أبيضٌ عندنا، أسود عندهم، ونحاسي اللون في أنحاء أخرى. وكان [عالم التشريح الشهير] رويتش هو أول من قام بتشريح زنجي على أيامنا، وقد كان ماهراً بحيث تمكن من انتزاع كل الشبكة التي يمثلها هذا الغشاء. وقد اشتراه منه القيصر بيير العظيم (Pierre le Grand ) ، وقام بنقله إلى كابينة الأشياء النادرة ببطرسبورغ. إلا أن رويتش احتفظ بعينةٍ منه، أتيحت لي رؤيتها، وهي تشبه الغاز الأسود. إن هيئة عيونهم لا صلة لها بشكل عيوننا. والصوف الأسود النابت على رؤوسهم لا يشبه شعورنا على الإطلاق."

بــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة مايو 29, 2009 3:00 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

يواصل فولتير انطلاقاً من تأكيده المشدد على الاختلاف البيولوجي بين الزنوج والبيض، الذي أكد أنه ليس اختلافاً ناتجاً عن الظروف المناخية، قائلاً:

"وبإمكان المرء أن يقول إنه إذا كان ذكاءهم لا يختلف من حيث النوع عن ذكائنا، فإنه متخلفٍ عنه بفارقٍ عظيم. فهم لا يملكون القدرة على التركيز الشديد؛ وقدرتهم على التركيب والترتيب والتصنيف ضعيفة جداً. ويبدو أنهم لم يخلقوا لكي يمتلكوا القدرة على مميزات فلسفتنا ولا مساوئها. وهم السكان الأصليون لهذا الجزء من إفريقيا، مثل الأفيال والقرود؛ وهم محاربون أشداء وقساة في الإمبراطورية المغربية، وفي أغلب الأحيان يتفوقون على الفرق العسكرية لهؤلاء السمر ذوي البشرة النحاسية، الذين نسميهم بيضاً (يعني المغاربة): ويعتقدون أنهم ولدوا في غينيا لكي يُباعوا للبيض ليخدموهم. وهناك صنوفٌ متعددةٌ من الزنوج؛ فزنوج غينيا؛ وزنوج أثيوبيا، وزنوج مدغشقر، وزنوج الهند ليسوا متماثلين(...) ولا تعرف الأقوام السوداء التي ليس لديها سوى القليل من التجارة مع الأمم الأخرى، أي نوعٍ من العبادة. إن أولى درجات البلادة هي أن لا يفكر المرء إلا في الحاضر وفي حاجات الجسد ورغائبه".

وهذه هي حال الزنوج في نظر فولتير مما يتبدى في نصه.

بـــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة مايو 29, 2009 3:07 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
Muhammad Jalaal Haashim
مشاركات: 131
اشترك في: الخميس سبتمبر 08, 2005 6:06 am

مشاركة بواسطة Muhammad Jalaal Haashim »

[align=justify]الأخ الأستاذ عبدالله بولا؛ لك التحية يا صديقي ولتسمح لي بأن أضيف هذه الكلمات التي ألقاها الرئيس السادس عشر لأمريكا أراهام لينكولن (محرر العبيد) لما قاله فولتير (الترجمة من عندي):

"... عندها سأقول إنّني لستُ - كما لم أكن أبدا - من محبّذي ومنادي المساواة الاجتماعية والسياسية بين عرق البيض وعرق السود (تصفيق)؛ كما إنّني لست - ولم أكن أبدا - من المحبّذين لمشاركة الزنوج في هيئات المحلّفين أو كناخبين؛ ولا لتأهيلهم حتّى يشغلوا الأعمال المكتبية الإدارية؛ ولا للسماح لهم بالتّزاوج مع البيض؛ كما أقول بالإضافة لذلك إن هناك فرقا فيزيقيّا بين أعراق البيض وأعراق السّود وهو فرق أومن بأنّه سيحول للأبد بين أن يعيش العرقان مع بعضهما البعض في مساواة اجتماعية وسياسية. وطالما أنّهما لن يتمكّنا من العيش في ظلّ مساواةٍ ما بالرغم من بقائهما مع بعضهما البعض عليه لا مناص من أن يتميّز العرق الأبيض بوضعية التّفوّق والسّمو والاستعلاء".

(الكلمة التي ألقاها في تشارلستون في يوم 18 سبتمبر 1858م بولاية إلينوي وذلك ضمن مناظرة لينكولن-دوقلاس).

MJH
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

عزيزي محمد،
أصدق تحياتي،
إضافتك في الصميم. فالموضوع أصلاً عن مزاعم وخطابات الديمقراطية "المَتْلُوتَه"، (أي التي يخالطها الخداع والحيلة)، ومزاعم التحرر والتحرير، و"احترام الآخر" الكاذبة التي ينسبها سدنة مؤسسات الاستغلال الطبقي لأنفسهم ويجود بإضفائها عليهم أيضاً (من باب اغتراب الوعي المتمثل في تقمص الإيديولوجية السائدة)، الذين واللاتي يسحقهم نير الاستغلال والاضطهاد الطبقي والعرقي. ومن هذا الباب يأتي التمجيد الأسطوري المطلق لرموز طبقاتٍ مستغِلة من أزمنةٍ مختلفةٍ، لديها من وراء دعاوى "التحرير" وحقوق "الإنسان"، مآرب لئيمة. وليس لها أي قدرٍ من الإيمان بمبادئ ومعاني التحرير الكبيرة، تحرير الذات وتحرير المجتمع، والعلاقات الإنتاجية والإقتصادية والثقافية إلخ، من عاهات الاستغلال والظلم والتسلط والتحقير، ومن الوعي الزائف المغترب، سوى "أحكام الوقت" ومصالح الطبقة، في سياق التطور التاريخي الموضوعي، والذي يفرضه عليها، في جانبٍ كبيرٍ منه، وعي الطبقات والجماعات العرقية والثقافية المضطهدة بما يقع عليها من الضَيم والظلم، ومقاومتها.
وهكذا أصبح لنكولن هو "محرر" "العبيد"، وأصبح فولتير هو الرمز المطلق لاحترام الآخر المختلف(!!!) وشاعت هذه المسلمات الأسطورية اللاتاريخية، حتى بين الذين واللاتي أناخ عليهن/عليهم نير الظلم والاضطهاد والتحقير قرونَ عددا. ولم يسائلها عن مكنوناتها الماكرة أحد منهم/منهن، إلى أن جاءت طلائع أجيال العصاة ممن هيأت لهم ولهن ظروف معقدة، منها الذاتي والموضعي رؤيةً ثاقبةٍ هتكت أستار وأقنعة التبعية وطرحت مشروع مساءلةٍ جذرية لمثل هذه المسلمات والرموز المقدسة "المستقرة".

جزيل شكري لك على هذه الإضافة الهامة.
وسوف ترى فيما يلي أعاجيب جمة من "أفهام" فولتير عن الشعوب "غير الأوروبية"، و"أفهام" غيره من فلاسفة و"مثقفي" عصر "الأنوار"، وما تلاها من عصورٍ روجت فيها الرأسمالية الليبرالية إيديولوجية حيازتها "الحِكِر" للديمقراطية وحقوق الإنسان.

مع خالص مودتي

بــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة مايو 29, 2009 3:23 pm، تم التعديل 6 مرات في المجمل.
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

يواصل فولتير:
"إن معظم الزنوج والكافْر، بتسكين الفاء، (Les Cafres بالفرنسية، وهي مأخوذة من العربية، وتعني الذين لا دين لهم بسبب تخلفهم)، غارقين في نفس هذا الجهل، وسيظلون أسرى له لزمنٍ طويل. فمعرفة وجود إلهٍ صانعٍ، مثيبٍ ومنتقم، إنما هي ثمرة العقل المثقف. ولذا فإن كل الشعوب كانت، خلال عدة قرون مضت، في الوضع الذي عليه اليوم سكان الكثير من السواحل الجنوبية لإفريقيا، وسكان العديد من الجزر، ونصف سكان أمريكا (الأصليين). إن هذه الأقوام ليس لديها أي فكرةٍ عن إلهٍ واحدٍ، خلق كل شيء، وحاضرٍ في كل مكان، وموجودٍ بذاته في الأزل والأبد. ومع ذلك فينبغي أن لا نعتبرهم ملحدين، إذ أنهم لا ينكرون وجود الكائن الأعلى، بل لا يعرفونه، وليس لديهم أدنى فكرةٍ عن وجوده."

ويواصل فولتير في مقالٍ آخر بعنوان "مقال في أفهام الأمم وفي وقائع التاريخ الأساسية، من شارلمان إلى لويس الرابع عشر" نفيه لإرجاع علاقة الاختلافات بين "الأقوام" إلى التاريخ والظروف البيئية، والاقتصادية، ليؤصل له في الطبيعة الفيزيائية وابيولوجية، بقوله:
"إن الغشاء المخاطي لدى الزنوج، الذي تأكد أنه اسود اللون، وألذي يرجع إليه السبب في سواد بشرتهم، هو الدليل القاطع على أنه يوجد في أصل أي جنسٍ من الأجناس البشرية، مثلما هو الحال في النباتات، مبدأٌ مؤسس يجعلها تختلف عن بعضها بعضاً. إن الطبيعة قد أخضعت لهذا المبدأ تلك الدرجات المختلفة من الذكاء وتلك الخصائص التي تتميز بها الأمم، والتي نادراً جداً ما تتغير. ومن هذا المدخل فإن الزنوج هم عبيد البشر الآخرين. إننا نشتريهم في سواحل إفريقيا مثلما نشتري الحيوانات" (...) وقد علمتنا التجربة لمرةٍ أخرى أي قدرٍ من التفوقٍ يحظى به هؤلاء الأوروبيين على الأمريكيين (الأصليين) الذين بعد أن تمت هزيمتهم بسهولة في كل مكان، لم يجرؤوا أبداً على أي محاولةٍ للقيام بثورة، على الرغم من أنهم كانوا يشكلون أكثر من ألف شخصٍ في مواجهة كل واحدٍ من البيض".

بـــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة مايو 29, 2009 3:39 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »

عزيزي الأستاذ عبدالله بولا.. تحياتي ومحبتي..

تابعت الجزء الأول من هذا الخيط - الذي كان سيصبح خيطا ماراثونيا في منتديات الحوار السودانية الإسفيرية لو لم تتم تجزئته، علاوة على المحتوى المتميز - متابعة صامتة منذ البداية.. ورغم أن هذه الأيام هي إحدى تلك الأيام التي يتعذر فيها براح الوقت للمشاركة المكتوبة في النقاشات الإسفيرية، إلا أن موضوع "فولتير ولنكولن" جعلني أصر على تطويع شيء من الوقت للمشاركة هنا..

كنت في البداية أنوي الحديث بصفة عامة عن مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان عبر التاريخ، من أنها مفاهيم متراكمة عبر تجارب المجتمعات البشرية تاريخيا وليست مولودة معها، وعليه يصبح تقدير كل مرحلة من المراحل التي أوصلتنا لهذا المضمون المعاصر لهذه المفاهيم - وهو مضمون ناقص في حد ذاته، خصوصا بالنسبة لأجيال المستقبل - من الأهمية بمكان.. ويصبح نقدنا للتجارب السابقة في هذا المضمار مستوجبا للنظرة الإيجابية مع عدم إغفال النظرة السلبية.. كنت أنوي الحديث بسياقة الأمثلة منذ عهد بركليس أثينا، في خطبته الشهيرة (خطبة الجنازة) عن مفهوم الديموقراطية*، وكيف أن ديموقراطيتهم ليس فيها نساء وعبيد (بل إن النساء ربما كن في نظر بعضهم لسن بشرا أصلا)، ومن ثم أعرج على نقدك لكتابات محمد أحمد المحجوب في ورقة (شجرة نسب الغول) لتناول مفهوم الديموقراطية الحديثة حتى في تجليها الذي كان قريبا في النصف الثاني من القرن المنصرم.. وكانت النية، بعد ذلك، أن أتناول قضية فولتير ولنكولن من خلال الفقرات التي تكرمت وتكرم محمد جلال هاشم بإيرادها مترجمة، إذ أن المرحلة التي ينتمي لها فولتير ولنكولن هي، تاريخيا، في منطقة محصورة بين مرحلة بركليس أثينا ومحجوب السودان.. غير أني فطنت إلى أن زمني لن يسعفني في كتابة متوسعة بهذا الشكل، ولهذا قررت أن أحصر تناولي على إبراهام لنكولن، في مناظراته الشهيرة مع السيناتور دوغلاس في العام 1858، وهي نفس المناظرات التي ظهر بعدها لنكولن في ميدان السياسة الأمريكية، حيث لم يكن له قبلها صيت يذكر**.. إذ أرجو أن يكون تناولي للنكولن عاكسا طيبا لرأيي العام في الشخصيات التي تشبه لنكولن عبر المراحل التاريخية المتعددة.. هذا مع العلم أن لنكولن نفسه لم يكن ليحظى بهذه الشهرة المعاصرة - مقارنة بشخصيات تاريخية أخرى أجدر منه بالذكرى في هذا الصدد - لولا قوة الآلة الإعلامية الأمريكية..

صحيح جدا أن لنكولن لم يكن يرى أن هناك فرصة لتحقيق مساواة اجتماعية وسياسية بين البيض والسود في أمريكا (على الأقل في تلك المرحلة الفكرية من حياته)، وله في ذلك تصريحات كثيرة، خصوصا في مناظراته الشهيرة هذه مع السيناتور دوغلاس.. غير أنه أيضا، وبنفس الحماس، كان يرى أن للزنوج حق الحرية والاستقلال الاقتصادي وطلب السعادة تحت الدستور الأمريكي، وبخلفية مبدأية قوية لازمته طيلة سنين نشاطه السياسي.. أقتطف لكم هذه الفقرة من مناظرته الأولى من السيناتور دوغلاس، من نفس المصدر المذكور سابقا (ومعذرة عن عدم الترجمة لعدم توفر الوقت والثقة الكافية لفعل ذلك):

I will say here, while upon this subject, that I have no purpose, directly or indirectly, to interfere with the institution of slavery in the States where it exists. I believe I have no lawful right to do so, and I have no inclination to do so. I have no purpose to introduce political and social equality between the white and the black races. There is a physical difference between the two which, in my judgment, will probably forever forbid their living together upon the footing of perfect equality; and inasmuch as it becomes a necessity that there must be a difference, I, as well as Judge Douglas, am in favor of the race to which I belong having the superior position. I have never said anything to the contrary, but I hold that, notwithstanding all this, there is no reason in the world why the negro is not entitled to all the natural rights enumerated in the Declaration of Independence,—the right to life, liberty, and the pursuit of happiness. I hold that he is as much entitled to these as the white man. I agree with Judge Douglas he is not my equal in many respects,—certainly not in colour, perhaps not in moral or intellectual endowment. But in the right to eat the bread, without the leave of anybody else, which his own hand earns, he is my equal, and the equal of Judge Douglas, and the equal of every living man.

وفي نفس هذه المناظرة يتحدث لنكلولن عن أن ما سيسعى له، إذا تحصل على السلطة القانونية الممكنة لذلك، هو تحرير جميع العبيد وإرسالهم إلى ليبيريا ("وطنهم" على حد تعبيره).. وهو في الفقرة أعلاه يقول أنه ليس بصدد منع نظام العبودة في الولايات الجنوبية الأمريكية لأنه لا يملك الصلاحية القانونية لذلك، وهذا تكتيك سياسي دبلوماسي واضح.. كما أنه كان قد ذكر في خطاب آخر أن الولايات الأمريكية لن تستمير طويلا على منوال شرعية العبودة في بعض الولايات وعدم شرعيتها في ولايات أخرى، إذ أنه كان يرى أن الصراع سينتهى بانتصار أحد الطرفين لا محالة، فإما سيصبح الاستعباد شرعيا في أمريكا كلها، أو أنه سيلغى منها كلها، وقد كان واضحا في اختيار النهاية التي يفضلها ويسعى لها هو..

في كتابه (Forced Into Glory: Abraham Lincoln's White Dream)، يتحدث المؤرخ الأفرو-أمريكي الكبير، ليرون بانيت جونيور، عن أن الصورة الإعلامية للنكولن هي مجرد أكذوبة، وأن لنكولن لو كانت الأمور بيده لأبقى على نظام العبودة في أمريكا حتى يومنا هذا.. يقول ليرون في فقرة من كتابه:

If Lincoln had had his way, Oprah Winfrey, Martin Luther King Jr., Jesse Jackson Sr., Lena Horne, Muhammed Ali, Hank Aaron, Maya Angelou, Malcolm X, Rosa Parks... and even Clearence Thomas would have been born in slavery."

وأنا أرى أن ليرون لم يكن منصفا للنكولن، كما أننا اليوم لا نكون أنصفناه إذا نظرنا فقط إلى رأيه في تفوق "العرق الأبيض" على "العرق الأسود"، دون أن ننظر بعين الاعتبار إلى الموقف الأخلاقي الذي التزمه في كون أن الزنوج لهم حق الحرية وإن لم يكونوا في نفس مستوى البيض، حسب زعمه.. هذا بطبيعة الحال ليس تطبيلا للنكولن - أو حتى لفولتير - أو سواه، فهم عندي لا يستحقون حجم الهالة الإعلامية الموضوعة لهم اليوم، ولكني أرى أن هناك الكثير من الجوانب في شخصياتهم ومواقفهم تستحق الاحترام، خصوصا باعتبار المعيار الزمكاني للبيئة التي ظهروا فيها..

لا يكون من الإنصاف عندي أن ننظر للنكولن وكأنه فعل كل ما فعل "مكرها لا بطل"، بشكل يجرده تماما من الضمير الإنساني، على حساب أفكار ونظريات قد تدعي أن الضمير الإنساني عبر التاريخ لم يولد إلا بميلادها، وأنه لم يكن له وجود قبلها - حيث كانت جميع تصرفات الأشخاص محكومة بمصالح طبقاتهم - فهذه النظرة فيها الكثير من الإجحاف للإنسانية نفسها، عبر تاريخها الطويل، وتبخيس لما دفعته من دموع ودماء في قرون طوال من أجل أن نصل لما وصلنا له اليوم من مفاهيم متقدمة لحقوق الإنسان.. ويمكن أيضا أن نضيف هنا أن التاريخ لن يكون مقدرا لما يبذله الناس اليوم من أجل حقوق الإنسان إذا قدَر لنفس منهاج التناول التاريخي - هذا الذي يجرد أمثال لنكولن من أي مسحة وفاء ونبل - أن يطغى ويستمر.. نحن اليوم يا سادة، على سبيل المثال، نجد كثيرا من الناس لا يرى أي حرج في قتل الحيوان وأكل لحمه (ومنهم بعض أعتى المناضلين من أجل حقوق الإنسان)، فقط من أجل التلذذ بطعمه، ودون حاجة فيزيولوجية ملحة لذلك، إذ أن البدائل الغذائية أصبحت متوفرة في أقطار كثيرة دون تكلف (وهي نفس الأقطار التي يبلغ معدل استهلاك لحوم الحيوان فيها أقصاه، وبصورة مهولة، بخلاف من يأكلونه لعدم توفر البدائل في الأقطار الفقيرة الأخرى)، وكأن هذا الحيوان لا يحس ولا يشعر مثلنا، فماذا ستكون نظرة الأجيال القادمة لنا، بعد أن تصبح حقوق الحيوان أساسية وليست ترفا، كما ينظر لها البعض اليوم؟ أنا أرى أن الأجيال القادمة ستكون ظالمة لنا لو وصفتنا بالوحشية والتجرد من الإنسانية لهذا السبب فقط، وبدون أن تنظر لسيرورة التاريخ في تطوير مفهوم حقوق الكائن الحي وتكريمه.. ولنفس هذا السبب أرى أن من الإجحاف اليوم أن نجرد أمثال لنكولن من ثمرة كفاحهم الطويل - من أجل مبادئ آمنوا بها وتمثلوها في حيواتهم العامة والخاصة - بجرة قلم..

هذا بالطبع لا يعني إغفال النظر عن العوامل التي ساعدت في تشكيل وعي أمثال لنكولن بحقوق غيرهم من بني البشر، مثل زيادة الضغط والوعي من جانب الشعوب المضطهدة نفسها، وكذلك العوامل الاقتصادية التي سهلت طرح هذا الوعي، مثل الواقع الاقتصادي الذي أصبح يفضل الأجير على العبد في عملية الإنتاج لأن تكلفة الأجير أصبحت أقل صرفا ومسؤولية من تكلفة العبد.. كل هذه العوامل تتداخل مع بعضها لفرض الواقع الجديد، على ركام الأمس القريب، ومن هذه العوامل أيضا ضمائر أمثال لنكولن وأخلاقهم، واستجابتهم لنداء العدالة الممكنة بوازع إنساني.. لنكولن كان مخطئا عندما نظر إلى الزنوج بذلك الاحتقار، ولكنه كان نبيلا عندما أقر بحقهم في الحرية والاستقلال الاقتصادي مثل البيض، ونبله هذا كان من وازع نظرته لنفسه كإنسان ذي مبادئ يريد أن يحيا بها، لا أن يعيش فقط من أجل مصالح ضيقة قد تشبعه ماديا ولكنها لن تشبعه روحيا.. أكثر من ذلك يمكن أن نقول أن لنكولن نفسه لم يكن لينجح في استقطاب الدعم السياسي والاقتصادي لحملته في تحرير العبيد لو كان صرح لهؤلاء الأمريكان البيض بأنه يعتقد أن الزنوج مساوون له تماما في كل شيء.. لم يكن بمقدور لنكولن أن يحصل على الدعم الذي وجده وسط بني شعبه من البيض - وربما حتى من السود - لو كان صرح لهم بأمر كانوا يعتقدونه عكس البديهة تماما، من جراء ما تعودوا عليه وألفوه (تماما لو كان قال أن النساء مساويات للرجال تماما في مثل ذلك الزمان).. وعليه يمكن أيضا أن نقول أن لينكولن قد كان الشخص المناسب في الظرف المناسب، ولولا توفر الظرف لشخص مثله للظهور في ميدان السياسة الأمريكية لربما كانت تأخرت عملية تحرير العبيد في أمريكا لعدة سنوات أخرى، ولربما كان مارتن لوثر كينج، وجميع من ذكرهم ليرون أعلاه، قد ولدوا فعلا تحت نير الاستعباد..

ونظرة فولتير ولنكولن للسود في ذلك الزمان ليست مدعاة للتعجب في نظري، إذ أن الغريب في ذلك الوقت أن يتميز أناس بفهم إنساني عالمي يتساوى فيه جميع البشر (وقد كان هناك أناس بمثل هذا الفهم فعلا، ولكنهم كانوا قلة ومغمورون أينما كانوا، ولأي عرق انتموا).. الأفضل أن ننظر للنكولن وفولتير اليوم بشيء من الشفقة لجراء غياب هذا المستوى من الفهم الإنساني عنهم في ذلك الزمان، ولكن لن يكون من الأنصاف أن نحاسبهم حسابا عسيرا على نظرة عنصرية كانت متوفرة حتى بين السود أنفسهم تجاه بعضهم وتجاه الآخرين، فالنعرات العنصرية كانت سمة ذلك العصر، وقبله في تاريخ التاريخ.. ولعل ما يدعو للشفقة أيضا هو تشدقهما (فولتير ولنكولن) بأدلة ظناها علمية، لتبرير عنصريتهما.. لو كانا عاشا إلى اليوم لتعرضا للاكتشافات العلمية التي تقول بأن أفريقيا هي موطن الإنسان الأول، بجميع سحناته المتنوعة المعاصرة، كما أن التنوع الجيني في أفريقيا اليوم - كما كان منذ البداية - هو الأكبر والأكثر من جميع القارات الأخرى، وما التنوع الجيني الموجود في بقية العالم إلا جزء بسيط من التنوع الموجود في أفريقيا أصلا***، مما يجعل تصنيفهما التعميمي السطحي لكل السود في "قفة" واحدة دليلا على جهلهما المدقع بموضوع الإثنيات من أساسه، ولكنه على كل حال "جهل" بالنسبة لنا اليوم، وهو إنما كان "علما" بالنسبة لعصرهما.. لنفس هذا السبب عندما قال النبي الكريم (بلال منا آل البيت) اندهش الأعراب حد الصدمة، وكذلك فعلوا حين دعاهم للصلاة على النجاشي حين وصله خبر وفاته، هذا بالرغم من أن النجاشي كان ملكا ذي جاه وسلطان، وهم أعراب ليس لهم من جاه ولا مال مقارنة به (يعني مافي مجال للمقارنة الطبقية الاقتصادية هنا، وبرضو احتقروه لمجرد عنصره)..

وعند الاختصار، أرى أننا اليوم من الصعب جدا أن نتحدث عن المساواة الاجتماعية ومفاهيم الاستغلال الطبقي، بالصورة التي نتحدث بها اليوم، لو لم ننجح في احترام الجهد الذي بذله أفراد وجماعات عبر التاريخ الطويل للوصول بالمفهوم المجتمعي لمرحلة تسمح لنا بالحديث عن المساواة الاجتماعية والسياسية كحق طبيعي، كما نفعل اليوم.. المساواة الاجتماعية والسياسية ليست حقا طبيعيا في وعينا المعاصر إلا بسبب من عملية تفاعلية طويلة عملت في ترسيخ هذا الفهم ليصبح اليوم من المسلمات العالمية - بصفة عامة - عند الحديث عن الصورة المطلوبة للمجتمعات المعاصرة.. نحن البشر نتعلم أكثر علمنا بواسطتين: التقليد والخطأ، ولولا أخطاؤنا - الفكرية والعملية - لما عرفنا الكثير مما نعرفه اليوم، وهنا يكمن السر في قولة الأستاذ محمود محمد طه، في تعريفه السهل الممتنع للديموقراطية، حين قال أنها "حق الخطأ".. وهذا حديث آخر له شجونه..

ولك وللجميع خالص مودتي..

(معذرة إذا تأخرت في أي رد قد أكون مطالبا به في الأيام المقبلة، إذ أني أتوقع أن أكون في حالة سفر وانشغال متواصل، مما قد لا يسمح حتى بمجرد تصفح المنتدى هنا، أو بالتصفح دون المشاركة فيه على أحسن تقدير.. غير أني أعد بمحاولة المواصلة حالما توفرت لي السبل والدواعي)

_____________________

* بركليس - خطبة الجنازة
https://www.rjgeib.com/thoughts/athens/athens.html

** مناظرات لنكولن/دوغلاس
https://www.bartleby.com/251/

*** راجع مجلة الناشونال جيوغرافيك - عدد مارس 2006 - صفحة 60..
Conventional is neither neutral nor convenient
Muhammad Jalaal Haashim
مشاركات: 131
اشترك في: الخميس سبتمبر 08, 2005 6:06 am

مشاركة بواسطة Muhammad Jalaal Haashim »


[align=justify]الأخ الاستاذ قصي همرور؛ لك التحية والتقدير على هذا الردّ الضّافي. يا صديقي والله استمتعتُ بقراءة هذه المداخلة جيّدة السّبك, سلسة العبارة, قويّة الحجّة (شايفين الشولة كيف يا إدارة المنتدى؟). فأناقةُ الكتابة هذي شيء لا ينبغي أن نتعامل معه من باب الأمر العادي خاصّة هذه الأيّام في عصر الأسافير وما أدراك ما عصر الأسافير: السّلح على رؤوس القوم من على المنابر. يا صديقي أرجوك أن تواصل فتُكثر فتُتمّ ما بدأتَه هنا؛ وسأظلّ أترقّب مداخلاتك.

وبعد؛ فلنعد إلى الموضوع.

يا صديقي المسألة لا تتعلّق بفولتير أو بلينكولن والظروف الثقافية والشروط المعرفية التي كان يخضع لها زمانُهم؛ بل تتعلّق المسألة بالتّرميز فيما جرى عليه حالُ عصرنا الرّاهن. فلينكولن بحقّ يُعتبر صاحب واحدة من أقوى المرافعات التي تدحض خطاب التّميّز العرقي الأبيض (وبنفس حجّتك: لا أملك الوقت الكافي لإيرادها مترجمة - شايف عدم العدالة دي!). ومع هذا يكون من حق الأجيال القادمة (أي نحن) أن نحاكمهم أخلاقيّا متجاوزين للشروط المعرفية التي خضعوا لها في زمانهم والتي ربّما تكون قاصرة ومحدودة. وإلاّ فكيف يكون التّجاوز؟

لكن المسألة ليست محصورة في حقّنا هذا تكمن المشكلة في صورتها الملحّة في شكل التحايل والتفاف خطاب التّميّز العرقي على مثل هذه الرّؤى النّيّرة وذلك بترميز قائليها وإعلائهم على خلق الله في كلّ زمان ومكان وفي كلّ مقام. فهذا نفسُه يشي بفرضيات التّميّز التي نافح أمثال لينكولن لمناهضتها. ولك أن تتصوّر يا صديقي كيف يشعر المرء منّا من خلال معايشته اليومية في المجتمعات الغربية بسطوة هذه الفرضيات التي لا تزال تُغذّيها المؤسّسات الإعلامية الغربية فضلا عن مناهج التعليم ومختلف مناحي الأنشطة الثقافية والفكرية والأكاديمية الغربية حتّى.

على أيّ حال دعني أُكرّر لك رجائي في أن تتكرّم علينا بالمزيد من هذه المداخلات ؛؛؛؛

ودمتم جميعا ؛؛؛؛؛؛؛؛

محمد جلال أحمد هاشم
MJH
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

عزيزي قصي، أخلص تحياتي ومحبتي،

سعدت كثيراً بدخولك دائرة حوارات هذا البوست وبهذه المداخلة المتينة،
إلا أنني للأسف أيضاً أعاني، وبصفةٍ خاصة في هذه الأيام، من شحٍ لئيمٍ في الوقت. فقد بدأت دورة مراجعة نصوص مختلف فروع القانون مع ابنتي الكبرى فاطمة، وقد كنت غافلاً عن ذلك عندما قررتُ أن أفتتح هذا الجزء الثاني من البوست. ولو أنني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما فعلتُ ذلك. سوى أن السيف قد سبق العزل بمسافةٍ طويلةٍ في ما يبدو، ولم تعد من سبيلٍ للتراجع. إلا أنه ليس من سبيلٍ أيضاً لكثير توغلٍ وإطالة في دروب هذا الموضوع الوعرة. وإن كان لابد لي من التوغل فليكن ذلك في خطواتٍ قصيرةٍ متلاحقة بقدر الإمكان.
ولتسمح لي أن أجلو بعض الجوانب المنهجية في حديثي عن فولتير، وما قد يلحقه من حديثِ لبعض أقرانه من فلاسفة عصر الأنوار، وورثتهم من فلاسفة وإيديولوجيي الطبقة الرأسمالية "العضويين"، عن الحرية والديمقراطية والإخاء الإنساني كما يرونها من مواقع وعيهم الطبقي، إذا تيسر لي أمر الوقت. فقد بدا لي في تحليلك شيءٌ من الظن بأنني أصدر عن قراءةٍ لا تضع في اعتبارها ملابسات وفعل العوامل التاريخية في صناعة المفاهيم والرؤى والمواقف. ولا شك من أنني أتحمل مسئولية هذه الغفلة المنهجية إذ أنني سهوتُ عن نقل الفقرة المتصلة بمنطلقي المنهجي الأساسي: منطلق "القراءة السياقية". غفلتُ لا في معنى أني لم أشر إلى هذا المنطلق المنهجي أصلاً، وإنما أوردته في غير مكانه. فقد تمت الإشارة إلى ذلك في مداخلتي الأخيرة في الجزء الأول من البوست، وكنت أعتزم إيرادها بصورةٍ موسعة في مدخل الجزء الثاني سوى أنني غفلت عن ذلك. وقد جاءت الإشارة في نهاية الجزء الأول كما يلي:
"والأنكى من ذلك أنني أصابني وسواس في خصوص إنزال نص العَلَم والمرجع التنويري الذي وعدتُ به القراء والقارئات (...). وسواس من أن لا يكون النص مناسباً لافتتاحية الجزء الثاني (...) وأيضاً من أن لا أملك الوقت لمتابعة ما يثيره من قضايا معرفية معقدة تتصل بمفهوم القراءة السياقية
".
وأنا أرمي من وراء ذلك أن أطمئنك وأطمئن القارئات والقراء إلى أني لا أهمل ضرورة قراءة فولتير، وغيره من المفكرين، في السياق التاريخي بأبعاده المختلفة.
ومع ذلك فيبدو أن هناك اختلافاً بيننا في مفهوم ودلالات وآليات فعل السياق التاريخي و"طبيعة" مرجعياته. على الرغم من أني أتفق معك في الكثير مما جاء في مداخلتك القيمة.

مع عامر مودتي
بولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة يونيو 02, 2006 2:49 pm، تم التعديل مرة واحدة.
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

سأبدأ مناقشتي بقولك:
" إذ أرجو أن يكون تناولي للنكولن عاكسا طيبا لرأيي العام في الشخصيات التي تشبه لنكولن عبر المراحل التاريخية المتعددة.. هذا مع العلم أن لنكولن نفسه لم يكن ليحظى بهذه الشهرة المعاصرة - مقارنة بشخصيات تاريخية أخرى أجدر منه بالذكرى في هذا الصدد - لولا قوة الآلة الإعلامية الأمريكية."

أعتقد أنك قد وفقت تماماً في التعبير عن هذا المعنى وأوصلته بصورةٍ عالية الوضوح. وأنا أتفق معك تماماً أيضاً في معناه الكلي، سوى أنني أتحفظ على قولك "لولا قوة الآلة الإعلامية الأمريكية." فأنت لم تُشر بأكثر من ذلك إلى الطبيعة السياقية لآلة الإعلامية الأمريكية، التي تجعلها "تحتفي بلنكولن وتهمل من هم أجدر منه بالذكرى". هذا التحديد ضروري لمنطق ومنهج القراءة السياقية الذي دعوت إليه محقاً، والذي عبرت عن موافقتي التامة لك في شأنه. وأعتقد أنه لا يكفي في سياق دعوتنا لاعتبارات السياق التاريخي أن نكتفي من أمر طبيعة آلة الإعلام الأمريكية بما هو معروف "بالضرورة" من طبيعة السلطات المهيمنة عليها في زماننا. وسوف يتسبب هذا القول فيما بعد، في تقديري، في إرباك "الأولويات السببية" المتصلة بدوافع لنكولن، في تحليلاتك المبنية على اعتبارات السياق التاريخي، ومستويات فعلها وتأثيرها المتفاوتة والمتعددة والمتداخلة، في تصوري الذي سأوضحه في المداخلة التالية.

بـــولا
صورة العضو الرمزية
قصي مجدي سليم
مشاركات: 269
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:42 pm

مشاركة بواسطة قصي مجدي سليم »

الأعزاء (مغافر الفكر)
بولا،محمد جلال، همرور

معتذرا بعذر أخي همرور، ومتسببا بسببه الذي دعاه الى هنا، أحب أن أشارك (تبركا) بوجودكم في هذا الخيط الأنيق.
أجدني في البدء متفقا (جملة جملة، وكلمة كلمة) مع ما جاء في خطاب أخي همرور. ولهذا فسأختم مداخلتي هذه (بعد قليل) بجمل أنتقيتها من خطابه المشرق ومداخلته (السمينة).
وما أشار اليه أخي همرور ، هنا ، كنت بصدد إثارته من خلال خطاب (متهور) هممت بإرساله اليك (بولا) قبل خمسة أو ستة أعوام ، في تلك الأيام...كان هذا بعد قرأتي لورقتك عن الأستاذ محمود والتي نشرتها مجلة رواق عربي وما لفت إنتباهي في تلك الورقة كان قول لك ، أو كما قلت ، أو ما يستفاد من القول :
أنك لا تقبل حاجة الأفراد المسترقين تحت أي سياق أو حجة وردت .
وكان هذا رد على قول الأستاذ (أو كما قال) عن مراعاة الاسلام لحاجة الأفراد المسترقين قبل تحريمه للرق بصورة مباشرة في ذلك الوقت.
ما لفت نظري في ذلك الوقت هو ما ظننته (إهمالا) لأهم عامل وهو عامل الظرف التاريخي. ولكني وبعد أن كتبت لك زهاء عشرين صفحة قمت الى عملي وجعلته هباء منثورا.
السبب الاساسي لعملي ذاك هو عمر المقال الذي كتبت، فلقد وجدت أن مقالك قد كتب قبل حوالي خمس سنوات من قراءتي له، وقلت في نفسي أن خطابي هذا لا ينفع كخطاب.. قد ينفع كورقة نقدية، ولكن كخطاب !! لا أظن ذلك...
كان ظني حينها أنك لابد وقد تجاوزت خطابك – وبمراحل عدة. وأن جهدك الجهيد الذي أعلمه عنك قد أوصلك الى أبعد من تلك الورقة بسنوات ضوئية.
الان لا أزعم بأنني قد أحبطت في ظني السابق - فأنت كعهد الناس يك في تجدد دائم - ولكني أظن بأنني قد كنت مخطئا في ظني، إذ لم أحسب أن التجدد يستصحب معه الماضي دوما.
الان أيضا أرى أن ذات النقطة التي لفتت نظري بعثت هنا وبشكل ملحوظ. فإهمال عامل الزمكان الذي أشار له أخي همرور يطل من السرور والترحيب الذي قابلت به مداخلة أستاذي* محمد جلال.
* (لمحمد جلال هاشم فضل كبير عليّ لا أظنه يعلم به او يذكره ولكني أحب ان اسجل له هنا شكري وتقديري فله الفضل مع مجموعة لا أبخسها الفضل فيما فيه انا الان). جانب آخر لفت نظري، ومنذ سماعي لاولى محاضرات بولا بالقاهرة، هو أمر الصراع الطبقي!!.
إنه لا ينكر أمر الصراع الطبقي إلا أكمه أصم ، ومثله من لا يظن أن العوامل الإقتصادية من أهم العوامل التي تؤدي الى المشاكل الثقافية والفكرية والاخلاقية. ولكنيي لا أظن أن إرجاع كل صغيرة وكبيرة (وبالماركسيمتر)
الى الاشكال الطبقي أمر سليم. فالعالم لا يعاني من صراع طبقي بقدر ما يعاني من صراع أخلاقي تبدو مشاكل الطبقات فيه على السطح ولكنها لا تعدو كونها عرض لمرض لا أكثر. والطبيب الماهر – كما قال الاستاذ محمود- الطبيب الماهر هو الذي يعالج المرض لا العرض فقط.
عذرا لهذا الاقتضاب في طرح ما اراه .. وعذر خاص لسيدنا بولا فانا لم أقصد إهمال هذا البوست أو توأمه السيامي الذي فصل عنه ولكنها ظروف الحياة ومشاغلها .. ولعلي تعللت بأني كنت من اسباب افتتاح الاول بسؤالي عنك فركنت لهذا العذر الذي هو أقبح من الذنب.
لكم محبتي وسلامي وأرجو أن تعذروني فانا بصدد إنزال مقتطفات من مقال همرور الان.



هذا بطبيعة الحال ليس تطبيلا للنكولن - أو حتى لفولتير - أو سواه، فهم عندي لا يستحقون حجم الهالة الإعلامية الموضوعة لهم اليوم، ولكني أرى أن هناك الكثير من الجوانب في شخصياتهم ومواقفهم تستحق الاحترام، خصوصا باعتبار المعيار الزمكاني للبيئة التي ظهروا فيها.. همرور

ويمكن أيضا أن نضيف هنا أن التاريخ لن يكون مقدرا لما يبذله الناس اليوم من أجل حقوق الإنسان إذا قدَر لنفس منهاج التناول التاريخي - هذا الذي يجرد أمثال لنكولن من أي مسحة وفاء ونبل - أن يطغى ويستمر.. نحن اليوم يا سادة، على سبيل المثال، نجد كثيرا من الناس لا يرى أي حرج في قتل الحيوان وأكل لحمه (ومنهم بعض أعتى المناضلين من أجل حقوق الإنسان)، فقط من أجل التلذذ بطعمه، ودون حاجة فيزيولوجية ملحة لذلك، إذ أن البدائل الغذائية أصبحت متوفرة في أقطار كثيرة دون تكلف (وهي نفس الأقطار التي يبلغ معدل استهلاك لحوم الحيوان فيها أقصاه، وبصورة مهولة، بخلاف من يأكلونه لعدم توفر البدائل في الأقطار الفقيرة الأخرى)، وكأن هذا الحيوان لا يحس ولا يشعر مثلنا، فماذا ستكون نظرة الأجيال القادمة لنا، بعد أن تصبح حقوق الحيوان أساسية وليست ترفاهمرور

أنا أرى أن الأجيال القادمة ستكون ظالمة لنا لو وصفتنا بالوحشية والتجرد من الإنسانية لهذا السبب فقط، وبدون أن تنظر لسيرورة التاريخ في تطوير مفهوم حقوق الكائن الحي وتكريمه.. ولنفس هذا السبب أرى أن من الإجحاف اليوم أن نجرد أمثال لنكولن من ثمرة كفاحهم الطويل - من أجل مبادئ آمنوا بها وتمثلوها في حيواتهم العامة والخاصة - بجرة قلم..همرور

ولعل ما يدعو للشفقة أيضا هو تشدقهما (فولتير ولنكولن) بأدلة ظناها علمية، لتبرير عنصريتهما.. لو كانا عاشا إلى اليوم لتعرضا للاكتشافات العلمية التي تقول بأن أفريقيا هي موطن الإنسان الأول، بجميع سحناته المتنوعة المعاصرة، كما أن التنوع الجيني في أفريقيا اليوم - كما كان منذ البداية - هو الأكبر والأكثر من جميع القارات الأخرى، وما التنوع الجيني الموجود في بقية العالم إلا جزء بسيط من التنوع الموجود في أفريقيا أصلا***، مما يجعل تصنيفهما التعميمي السطحي لكل السود في "قفة" واحدة دليلا على جهلهما المدقع بموضوع الإثنيات من أساسه، ولكنه على كل حال "جهل" بالنسبة لنا اليوم، وهو إنما كان "علما" بالنسبة لعصرهما.. لنفس هذا السبب عندما قال النبي الكريم (بلال منا آل البيت) اندهش الأعراب حد الصدمة، وكذلك فعلوا حين دعاهم للصلاة على النجاشي حين وصله خبر وفاته، هذا بالرغم من أن النجاشي كان ملكا ذي جاه وسلطان، وهم أعراب ليس لهم من جاه ولا مال مقارنة به (يعني مافي مجال للمقارنة الطبقية الاقتصادية هنا، وبرضو احتقروه لمجرد عنصره) همرور
لو كنت فارسا: لعبأت نشابي بالفرح.. وصوبت نحو البشرية جمعاء.. لا أخطئ أحدا.
لو كنت ملاك موت: لصعدت عاليا عاليا.. وهويت الى الأرض أدق عنقي (عادل عبد الرحمن)
_________________
الفكر أكسير الحياة
(الأستاذ محمود)
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

عزيزي قصي (مجدي سليم)، أخلص تحياتي،
آسف للتأخير عليك وعلى محمد جلال وقصي همرور،
الواقع إنني كنت وما أزال في "أمراً ضيق" مما يلي الوقت، ولذا فأرجو أن لا يزعجكم تأخيري من وقتٍ لآخر.
سوى أن مداخلتك عجلت بمجيئي، هذه المرة، لما انطوت عليه من "تأكيدٍ" لافتقار منهجي للنظر إلى السياق التاريخي تارةً، وإلى كوني أصدر عن فهمٍ لوقائع السياق التاريخي والاجتماعي "يرجع كل صغيرة وكبيرة" إلى الصراع الطبقي "(وبالماركسيمتر) تارةً أخرى". وكان ذلك قد بدا لي مجرد "ظن وافتراض"، أو "ربما" قلتُ "توهماً" من جانبي، في مداخلة قصي همرور. إلا أنه استحال في مداخلتك إلى تأكيدٍ يكاد يكون عضوضاً. وأقول "يكاد" لأنك أعطيتني فضل القدرة على تجاوز "عدم اعتباري للسياق التاريخي في تحليل الوقائع الاجتماعية والفكرية والثقافية، الذي أفدت بأنه بدا لك سمةً أساسية في خطابي "منذ سماعك لأولى محاضراتي بالقاهرة". وذكرت أن هذا ما كنتَ "بصدد إثارته من خلال خطاب (متهور)" على حد تعبيرك:
"هممت بإرساله اليك (بولا) قبل خمسة أو ستة أعوام، في تلك الأيام...كان هذا بعد قرأتي لورقتك عن الأستاذ محمود والتي نشرتها مجلة رواق عربي وما لفت هو ال "السبب الاساسي لعملي ذاك هو عمر المقال الذي كتبت، فلقد وجدت أن مقالك قد كتب قبل حوالي خمس سنوات من قراءتي له، وقلت في نفسي أن خطابي هذا لا ينفع كخطاب.. قد ينفع كورقة نقدية، ولكن كخطاب !! لا أظن ذلك...
كان ظني حينها أنك لابد وقد تجاوزت خطابك – وبمراحل عدة. وأن جهدك الجهيد الذي أعلمه عنك قد أوصلك الى أبعد من تلك الورقة بسنوات ضوئية".

وأنا أشكرك على حسن ظنك بي، سوى أنني للأسف أود إفادتك وإفادة القارئات والقراء بأنني، فيما يتعلق بنصي الذي استشهدتَ به أنتَ دليلاً على "إهمال عامل الزمكان" في "محاضرتي بالقاهرة" ، وفي دارستي (عن مساهمة الأستاذ محمود في تجديد الفكر الديني)، و"الذي "أشار له (...) همرور"، على حد تعبيرك، فأنا لا أزال على جوهر منطلق فهمي للسياق التاريخي الذي عبرت عنه في تلك المحاضرة، وعلى غير اتفاق مع منطلق الأستاذ محمود الأساسي في فهم طبيعة السياق التاريخي ومحركاته، ومن ثَّم على غير اتفاقٍ معه في خصوص "تفسير" الرق في الإسلام، وعلى وجه التحديد بعض جوانبه المتصلة بالسياق التاريخي. وهذا يعاكس تماماً قولك بإهمالي للسياق التاريخي في تلك الدراسة. وأخشى أن يحبط أملك في قدرتي على " التطور" في الاتجاه الذي تتمناه لي والصيغة التي تتوقعها لتجاوزي ل"خطابي" الذي سبق لك "التعرف عليه"، "بسنين ضوئية". وأخشى أن أصدمك إذا قلتُ لك إن "خطابي"، الذي لم تكن له في أي يومٍ من الأيام أي علاقةٍ بما أسميته أنت ب"الماركسيميتر" (ولا علم بماهية هذا الماركسيمتر)، كان وما يزال، يتطور في الاتجاه المعاكس، لمفهوم السياق الذي ينطلق منه الأستاذ في تفسير الرق في الإسلام، وإليك النص الذي ناقشت فيه شروح الأستاذ لمسألة الرق في الإسلام، في الدراسة المذكورة، في "كامل" سياقه:
وقد أبديت آنفا أيضاً قلة قناعتي بمسوغات الرق في الإسلام كما جاءت في تحليل الأستاذ. فأقول أن الحجتين اللتين قدمهما الأستاذ في تفسير وضعية الرق في الإسلام ليستا في قوة منطقه المتصل بمفهوم الحرية في بعده المنطلق من الأخذ في الحسبان برقي معارف الأمم وشرائعها. فالحجة الأولى التي تتأسس على مفهوم المعاوضة لا تنسجم مع الحقيقة التاريخية من أن الأمم التي أخضعها السيف وأجاز استرقاقها "حكم الوقت"، كانت على قدرٍ كبيرٍ من التحضر والتطور في معارفها وعقائدها وأنظمتها الاجتماعية، مع الاعتبار التام لنسبية مستوى تطورها التاريخي مما كان يمكن أن يغني عن اللجوء إلى منهج للمعاوضة في غلظة الرق في منحى تدريجها إلى الدين الجديد و"ترويض" عقولها وقلوبها على القبول به. والشاهد إن الحضارة الإسلامية لم تقم، في وجوهها المشرقة بالذات من فنون وعلوم ومعارف، دون أن تستند إلى تراث الرقي و التحضر الذي كان لهذه الأمم، و لن يكون من الافتراء والهوى أن أقول أن الغالبية العظمى ممن ساهموا في تأسيس و تطوير هذه العلوم و المعارف هم من بين الذين وطئهم عار الاسترقاق والولاء. إن حجة الأستاذ الرئيسة في دواعي تطوير التشريع هي الارتقاء الحضاري، و ارتفاع مستوى الفهم والاستعداد للفهم لمطالب الدين الرفيعة، ولا أرى أن الاسترقاق كان حلاً مناسبا لتدريج أمم كان رقيها بالذات هو مصدر مساهماتها المتميزة في حضارة الإسلام. ولعلني أضيف أن "حجة" حكمة الاسترقاق بقرينة المعاوضة والمران على الطاعة لله بالتمرس والمران على الطاعة في حق من رفض أن يكون "عبداً للرب" فجُعل "عبداً للعبد جزاءاً وفاقا" لا تفسر، فيما لا تفسره، وهو أكثر من أن يستوعبه هذا الحيز، العناء النفسي الذي وقع على بعض ضحايا الرق من الصحابة الكبار مثل بلال وعمار، ممن كان بعض الأصحاب أنفسهم يعيرونهم بأصولهم في سورات الغضب. صحيح أن التشريع لا يد له في استرقاق بلال وعمار وأمثالهم، ولا يد له في مثل هذه التجاوزات، إلا أنهم عانوا من ظلال التمييز المضمر في الخواطر الخفية مما هو عندي متصل بحسم التشريع، أو التفسير، في موضوع الرق. ويبدو لي أن حجة "الحكمة" التي قضت "بالإبقاء على نظام الرق" بقرينة كون الإسلام "نزل على مجتمع الرق فيه جزء من النظام الاجتماعي"، وبأن هذا مما كانت تقتضيه "حاجة الأفراد المسترقين، وحاجة المجتمع، الاجتماعية والاقتصادية"،(29) تبدو لي أضعف من أختها. وسأستبعد من مناقشتي تمامًا "حاجة الأفراد المسترقين إلى الاسترقاق" في أي سياقٍ وردت وتحت أي حجة أتت. وأتوجه إلى الشق الثاني من الحجة فأتساءل عما إذا كان اقتصاد المجتمع العربي قبل الإسلام يتأسس على الرق بالصورة التي كان يمكن أن تؤدي إلى انهياره لو إن تشريع الرق في الدين الجديد كان أكثر حسماً، أو لنقل، أسرع تدريجا. لا يبدو لي أن آراء علماء تاريخ الاقتصاد السياسي المعاصرين تميل إلى تأكيد هذه الفرضية. و جملة القول عندي أن تبرير تشريع الرق عندي غير مقنع وهو بحاجة إلى قراءة نقدية أكثر تحرياً في وقائع التاريخ الفعلية في داخل دائرة المجددين ذوي المرجعية الدينية أساساً. ولا شك في أن ملاحظتي بصورتها هذه مبتسرة جدا وأتمنى أن تتاح لي فرصة أوسع لتطويرها بالحوار" (رواق عربي العدد الرابع، أكتوبر عام 1996).

أردت من ذلك أن أقول بأن اعتقادك و"ظن" قصي همرور "المتحفظ"، بأنني أهملتُ السياق التاريخي، أو أهم مافيه، أو أنه ليس وارداً أصلاً في عدتي المنهجية والمعرفية، أمرٌ لا أصل له في الواقع. وكل ما في الأمر أن السياق التاريخي، وأهم مافيه، في مفهومي ومفاهيم "المدارس" و"التيارات الفكرية" و"المناهج المعرفية التي ساهمت في تكويني الفكري، مخالفة في منطلقاتها الأساسية للمنهج الذي تصدران عنه أنت وقصي همرور، وبالأحرى منهج الأستاذ محمود مع كثير احترامي له، واتفاقي معه في كثيرٍ من تفاصيل "قضايا الوجود وأسئلته الأساسية"، من دون اتفاق في أصول المنهج. فأنا أصدر عن جانبٍ من التراثٍ الإنساني الفكري والمعرفي يشكل السياق التاريخي لحمته وسداه. السياق التاريخي الطليق من صفة الوجود الجاهز المسبق لوقائع التاريخ. وسأعود للتعليق على صفة فهم الوجود الطبقي، والصراع الطبقي "بالماركسيمتر"، التي ألمحت أنتَ بإلصاقها بخطابي. وإهمال دور "العوامل الثقافية والأخلاقية" مما بدى لي أن همرور قد لمح به. وهذا مما لا يقول به إلا من لا يعرف خطابي ومنهجي.

أود أيضاً أن ألفت النظر إلى دخولكما، قصي همرور وأنت، إلى مناقشة مقدمة موضوع البوست، قبل أن تكتمل. فأنا لم أُنزل حتى الآن أكثر من فقرتين من نص فولتير المتصل بموقفه من الرق ونظرته الدونية للزنوج. ولم أدلِ بأي تعليقٍ أكثر من قولي بأن صدور مثل هذا النص من علمٍ من أعلام عصر الأنوار وحقوق الإنسان، مثيرٌ للدهشة. وقد رتبتما علي تينك الفقرتين من المقدمة، من المدخل في الواقع وليس المقدمة، أحكاماً مفصلة تتصل بمنهجيتي، وربما بمنهجية الأستاذ محمد جلال، وبمنهجية ما أسماه قصي ب "أفكار ونظريات قد تدعي أن الضمير الإنساني عبر التاريخ لم يولد إلا بميلادها، وأنه لم يكن له وجود قبلها - حيث كانت جميع تصرفات الأشخاص محكومة بمصالح طبقاتهم". ومن ذلك أيضاً "إهمال عامل الزمكان الذي أشار له أخي همرور"، على حد تعبيرك، مما لا يقوم عليه دليلٌ في نص أي واحدٍ منا.
صورة العضو الرمزية
قصي مجدي سليم
مشاركات: 269
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:42 pm

مشاركة بواسطة قصي مجدي سليم »

العزيز بولا..
تحياتي وسلامي وكلنا تقدير لوقتك وجهدك ونرجو أن تقدر على قهر (الشواغل)
لن أرد على ما أبدته تقديرا لإتمام البوست كما قلت ولنا جميعا عودة بإذن الله
لك حبي وودادي
لو كنت فارسا: لعبأت نشابي بالفرح.. وصوبت نحو البشرية جمعاء.. لا أخطئ أحدا.
لو كنت ملاك موت: لصعدت عاليا عاليا.. وهويت الى الأرض أدق عنقي (عادل عبد الرحمن)
_________________
الفكر أكسير الحياة
(الأستاذ محمود)
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

عزيزي قصي (مجدي سليم)،
أخلص تحياتي،

جزيل شكري لك على هذه الاستجابة الراقية لدعوتي "للمَهَلة" حتى أكمل التقديم. على الرغم من أنني أنا أيضاً متلوم من جانبي في طرحي لموضوعٍ بمثل هذا التعقيد من دون أن أحسب حساب الوقت والظروف التي أكتب فيها. مع أنني كنتُ أتخوف مسبقاً من أن لا تكون اللحظة مناسبة. والمشكلة الأكبر إنني إذا ظللتُ انتظر اللحظة "المناسبة" فلن أكتب أصلاً. ومع ذلك فقد وقعت في "المحذور" المتصل باختيار الزمن الأفضل، نسبياً، للكتابة كأسوأ ما تكون الوقعة. فقد اخترت على وجه التحديد اللحظة غير المناسبة بصورةٍ مطلقة لأطرح فيها هذا الموضوع الشائك. وليس أمامي مع ذلك (كِتْرَتْ ال"مع ذالكات")، بدٌ من السير في طريق الورطة إلى نهايته.
أرجو أن لا أكون قد أغلظتُ في تعقيبي عليك، أو تجاوزتُ آداب الحوار بأي قدرٍ كان. وعلى أية حال فقد كان مرماي ومقصدي ـ إلى جانب توضيح ما بدا لي في مداخلتك أنتَ على وجه الخصوص، أنه تقديم غير موفق لمنهجي ورؤيتي للوجود والتاريخ، وبالتالي تصوري لموقع الأفكار والمعارف والوقائع في السياق التاريخي ـ أن أساهم أيضاً في تأسيس تقاليد للحوار والاختلاف في الرأي تقوم على مبدأ ضرورة المعرفة الجيدة بالمحاور المخالف. فقد جاء حديثك عن رؤيتي "الماركسيمترية" للصراع الطبقي، مخالفاً تماماً لجهود أربعين عاماً من السعي الفكري والبحثي في بيان خطل وضعف الأطروحات التي تحصر حركة فعل وفكر وتعبير الإنسان في بعد انتمائه الطبقي وحده، على وجه التحديد. وقد ظل أحد همومي المعرفية والبحثية، في السنوات العشرين الأخيرة، بيان خطر وخطل، التيارات السياسية ذات النزعة التبشيرية اليقينية المغلقة الأفق، التي حولت مفكرين عظماء إلى كائناتٍ مقدسة، وحولت مساهماتهم إلى نوعٍ من العقائد الصماء التي عطلت الطاقات الخلاقة التي تنطوي عليها. ومن هؤلاء ماركس الذي حوله "الماركسيمتريون"، خلال العقود السبعة الماضية، إلى مستودعٍ للحقائق النهائية الأزلية في خصوص قراءة تاريخ تطور المجتمعات البشرية، أي إلى نوعٍ من الآلهة، مع إن الرجل كان شديد الحرص على أن لا تتحول مساهمته المنفتحة إلى دوغما تبشيرية يقينية تجُبُّ كل ما قبلها وما بعدها من مساهمات المفكرين.
أردتُ بذلك أن أساهم في التأكيد على أهمية الحرص، في نقدنا، وفي سعينا لمقاربة أفكار من نخالفهم في الرأي والرؤية، على تحقيق معرفةٍ دقيقةٍ بها، وبهم، وأن لا نسارع إلى تكوين الانطباعات والأحكام القطعية من دون فحصٍ دقيقٍ. وحتى حين تتحقق لنا دقة الفحص، فليس بالضرورة أن يتحقق لنا امتلاك كل الصواب.
وأحب أن أضيف إلى ذلك أيضاً، أنني حريص على أن لا أصدر (وهيهات) في حركة بحثي الفكرية من مواقع الاعتقاد بامتلاك "الحقيقة"، وإنما أصدر عن مفهوم "المقاربة"، وعن ما أسميه ب"منهج النظر الإشكالي"، لا عن "منهج" اليقين المفضي إلى "الحقيقة" الواحدة الصمدة. وأدرك وأقر بالتالي، بأنني "مؤهلٌ" للخطأ في كل ما أقول وما أكتب، في أية لحظةٍ يا عزيزي قصي، وقد أشرتُ في أكثر من مرةٍ إلى أنني لم أنشر أغلب كتاباتي، والسبعينية والثمانينية منها بالذات لأنني، كل ما راجعتُها، بعد حينٍ، بدت لي فقيرةً "ضعيفة" القيمة.

أراجع الآن نصوص أخرى لفولتير، في ذات السياق، بعد تمكني من الحصول على أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية المباشر والموثوق، الذي يحتوي على أعماله الكاملة. على الرغم من أنني لا أنوي الإطالة في الوقوف عنده. فليس موضوعي هو "عنصرية"
و"نقروفوبيا" فولتير، بل هو تتبع صيغ تطور وتشكل فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن في "حركة الحداثة" في مظانها المؤسِّسة.

مع كل مودتي

بــــولا
آخر تعديل بواسطة عبد الله بولا في الجمعة يونيو 02, 2006 2:30 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
قصي مجدي سليم
مشاركات: 269
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 9:42 pm

مشاركة بواسطة قصي مجدي سليم »

العزيز بولا
لولا أنني لا زلت ملتزما بعدم الرد حتى لا أشغلك عن المراد الأصلي لرددت ردا مطولا. ولكني بالطبع لن أترك لك هذه:
"أرجو أن لا أكون قد أغلظتُ في تعقيبي عليك، أو تجاوزتُ آداب الحوار بأي قدرٍ كان".
وما كان ينبغي لك أن "تغلظ" وما أنت بالمغلظ. ولو تعمدت أن تتجاوز آداب الحوار لما قدرت.
ولا أذيعك سرا فإنني قد إستمتعت برديك.. وكلي شوق للرد لولا أدب الإنتظار
محبكم قصي
لو كنت فارسا: لعبأت نشابي بالفرح.. وصوبت نحو البشرية جمعاء.. لا أخطئ أحدا.
لو كنت ملاك موت: لصعدت عاليا عاليا.. وهويت الى الأرض أدق عنقي (عادل عبد الرحمن)
_________________
الفكر أكسير الحياة
(الأستاذ محمود)
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »

العزيز محمد جلال.. تحياتي ومودتي..

شكرا لتعليقك الطيب، ومساهمتك الجديرة..
وعن المحاكمة الأخلاقية للأجيال السابقة، فهو أمر لا بد منه بطبيعة الحال، كما تفضلت.. حديثي كان في مجمله ينصب في متن هذه المحاكمة وأساليبها ونتائجها، حيث أرى أن المحاكمة الأخلاقية من هذا النوع لا يصح أن تحدث خارج نطاق سياقها الزمكاني، ذلك لأن الأخلاق نفسها إنما هي قيمة نسبية ترتبط بالمجتمع، والذي يرتبط بدوره بالسياق الزمكاني لوجوده.. من هذا يأتي تعريف الأستاذ محمود محمد طه للأخلاق بأنها (حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة).. ودعني أتحدث معك، ومع المتابعين الكرام، قليلا عن هذه المقولة، لارتباطها الوثيق بموضوع - أو مواضيع - هذا الخيط..

تعريف الأخلاق، عند الأستاذ محمود، هو "حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة".. ذلك لأن الأخلاق لا تستحمل موقفا واحدا لا يتزعزع، مهما كانت الظروف، لأن المواقف التي يقفها المرء عبر حياته هي نتيجة لأخلاقه، وليست هي نفسها الأخلاق.. والأخلاق هي "تصرف"، بمعنى أنها تنبني على تحليل وتقييم للمعطيات، أي على فكر، ولكنها ليست مجرد تصرف، فهي "حسن التصرف"، أي أنها معرفة الاختيار الأسلم والأصح للموقف، في مقابلة المعطيات، وهي معرفة الاختيار الأسلم والأصح، بحسبان الحق أولا (والحق نفسه قيمة نسبية بالنسبة للزمكان، وهو "مرضاة الله" في الفهم الديني) وبحسبان مصلحة المجتمع ثانيا، كما في قول النبي الكريم: (الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله).. فالأخلاق، بصورة عامة، مرتبطة بالمجتمع في الاساس، وحسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة يقتضى الموافقة بينها وبين عرف وشرع المجتمع ومصلحته.. وهذه الموافقة هي في الأساس من أجل مصلحة الفرد نفسه قبل أن تكون من أجل مصلحة جماعته..

هذا وتحياتي الكثيرة أيضا للأستاذ بولا وأخي العزيز "سيد الاسم"..
وأنوي العودة للتعقيب على مشاركتيهما في أقرب الفرص القادمة..

ومودتي للجميع..
Conventional is neither neutral nor convenient
عبد الله بولا
مشاركات: 1025
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 7:37 am
مكان: الحرم بت طلحة

مشاركة بواسطة عبد الله بولا »

عزيزي قصي (مجدي سليم)، والمتابعات والمتابعين، وخصوصاً العزيز قصي همرور
أجريتُ تعديلات مهمة على نص الفقرة الثانية من مداخلتي "الأخيرة" ("الأخيرة حتى الآن"، والعاشرة من بداية البوست)، والتي تبدأ ب "أردت بذلك أن أقول"، وتنتهي ب "بدت لي "ضعيفة" القيمة". أتمنى مراجعتها من قِبَل من سبق لهم ولهن قراة المداخلة المذكورة.
مع الشكر والمعذرة.
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »

عزيزنا (جدا) الأستاذ بولا..

بعد التحايا وأطيب الأمنيات، دعني أبتدر تعقيبي هذا بشهادة أعتقد أن هذا مقام مناسب لتقديمها.. شهادتي بأن ورقتك النقدية عن مساهمة الأستاذ محمود في تجديد الفكر الديني هي، عندي، من أكثر الأوراق النقدية للفكرة الجمهورية موضوعية وعمقا، ومن هنا تأتي أهمية تناولها وتناول المنهج النقدي لصاحبها..

بالنسبة لحديثك عن "القراءة السياقية"، يمكن أن أقول لك أني منذ البداية لم أكن أفترض أبدا أن قراءتك التاريخية تفتقد لاعتبارات السياق الزمكاني.. لم يخطر هذا ببالي، غير أن الذي خطر ببالي - ولي عليه شواهد - هو أن "القراءة السياقية" نفسها "خشم بيوت"، وأنا أرى أن قراءتك السياقية - خصوصا لموضوع فولتير ولنكولن هنا - كانت قريبة لما سماه أخي قصي مجدي سليم بـ"الماركسميتر"، ولعل الاسم الأكثر شيوعا لها هي "المادية التاريخية" كما هي عند ماركس.. قد يكون افتراضي هذا خاطئا، ولكني لم أبنه من الفراغ، وإنما بنيته من قراءات كثيرة لك، وآخرها قراءتي لردك أعلاه على الأستاذ محمد جلال هاشم.. وأنا على العموم لم أكتب رسالتي في الحديث عن لنكولن كرد مباشر ومضاد لك، وإنما كرد مباشر ومضاد للمنهج الماركسي في قراءة التاريخ، فإن أخبرتنا أنت اليوم أننا أخطأنا في تصنيفك مع "الماركسميتريين"، فهو تصحيح نقبله بلا شك، ولكن ما يزال رأينا في "قراءتك السياقية" قائما، فهي، وإن لم تكن ماركسية، إلا أنها، في نظرنا، تفتقر - مثل الماركسية - إلى مكملات أساسية تحتاجها القراءة السياقية الأقرب للدقة، تماما كما تنظر أنت للقراءة السياقية التي قدمها الأستاذ محمود لموضوع علاقة الرق في التاريخ عموما وفي التشريع الإسلامي خصوصا..

أنا أرى أن نظام الرق في الإسلام لم يكن مبررا فحسب، في سياقه الزمكاني، وإنما كان هو النظام الأنسب والأصلح لحيثياته التاريخية.. هذه قراءة سياقية تختلف تماما عن قراءتك أنت، وهذا مما يؤكد أن القراءة السياقية نفسها "خشم بيوت".. فاعتراضنا، إذا، على نتائج قراءتك السياقية لا يعني أننا ننفي عنك مجرد اعتبارها، وإنما نرى أنها قراءة سياقية ناقصة، حسب منظورنا.. القراءة الماركسية للتاريخ - والتي ظننتك فعلا تتبعها، قبل تصحيحك - هي أيضا قراءة سياقية، ولكنها تختلف تماما عن قراءات سياقية أخرى كثيرة للتاريخ، أفضل وأعمق منها في نظري.. ولعل الظروف تسمح بالعودة للمزيد من الإسهاب في قضية نظام الرق في التشريع الإسلامي للقرن السابع الميلادي، فهي قضية تستحق الإسهاب، باصطحاب واقع المجتمع الأرضي كله في ذلك الزمان..

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أريد أن أشير لأمر مهم، هو أنك تحدثت في ردك لي عن "إرباك "الأولويات السببية" المتصلة بدوافع لنكولن، في تحليلاتي المبنية على اعتبارات السياق التاريخي".. ما أراه أنا أني لم أتحدث عن أي "أولويات سببية"، ولم أقم بترتيب العوامل المؤثرة على الشخصية التاريخة للنكولن ومواقفه.. أنا ذكرت بأن هناك عوامل لا يجب إغفالها لأنها أساسية، ولكن لم أقم بترتيب هذه العوامل حسب الأولوية السببية.. لا لأني لا أرى أن هناك فعلا أولوية سببية بين هذه العوامل، ولكني لم أذكرها إلى الآن..

ولي نقطتان أخيرتان، لا بد من تذييل هذا التعقيب بهما..

الأولى: لا أرى، بصراحة، أني وقصي تسرعنا في الكتابة هنا قبل أن تكمل أنت حديثك، فنحن لسنا مكلفين بأن ندرك بأنفسنا أنك لم تنته من إكمال حديثك، خصوصا وأن ردك على مداخلة محمد جلال لم توح بغير أن الباب مفتوح للتعقيب والتناول، وليس هناك من طلب للانتظار وإمساك القلم، وهذه طبيعة النقاش الكتابي في مثل هذه المنتديات على كل حال.. لا أجد مانعا في أن تطالبنا بالانتظار الآن حتى تكمل تقديم مادتك النقدية، ولكن لا أجد أننا نستحق اللوم - في أي مستوى كان - على عدم انتظارنا منذ البداية، ما دمت لم تطلبه منا قبل ذلك.. كما أن نقدنا لقراءتك لم يكن مرتكزا فقط على كتابتك في هذا الخيط، بل أيضا على كتابات أخرى نشرت منذ زمن قديم لك، كالورقة التي ذكرها قصي، مما ينفي عنا صفة الاستعجال..

الثانية: بمقارنة حسابية بسيطة يا أستاذ بولا بين عمرك المعرفي وعمرنا (أنا واخوي الكاشف)، فإن احتمال الخطأ عالق بنا أكثر مما هو عالق بك.. ورغم تواضعك المعرفي فيما كتبت عن نفسك، إلا أن هذا لن يغيب البداهة الماثلة في أننا (أنا واخوي الكاشف) في مقام تلاميذك هنا، ولنا أن ننعم بفخر هذه التلمذة، وبالرصيد الأكبر من احتمال الخطأ..

ولك ولعزيزي "سيد الاسم" كثير المودة..
Conventional is neither neutral nor convenient
أضف رد جديد