header

مقالات، دراسات، بحوث
Articles, Etudes et Recherches
Essays, Research
نماذج من أعمال الموسيقيين السودانيين
Œuvres musicales soudanaises
Sudanese musical works
 

هل كان مصطفى سيد أحمد يمتلك "الدويندة"؟؟
 

عبد الخالق السر*

ولكن ما هي الدويندة؟!! في مقالته المشهورة "نظرية الدويندة ووظيفتها"، يذكر فريدريكو غارسيا لوركا، أن مانويل توريس، الفنان الأندلسي الكبير قال ذات مرة لأحد المغنين: "أنت تمتلك الصوت وعندك أسلوبك ولكنك لن تنجح أبداً لأنك تفتقر إلى الدويندة Duende. ويذكر لوركا في مقالته بأن الشاعر الألماني "غوتة" صرح في تعليق حول "باغنيني" بأن الدويندة: "قوة سرية، يشعر بها كل شخص ولكن ما من فيلسوف فسرها". ذلك "أن كل ما له أصوات فاجعية له دويندة". وبهذا المعنى نفهم أن ليس لها علاقة بملكة الفهم، إذ أنها شيء في صلب الدم، وتوجد حيث احتمال الموت. ولا يمكن لأحد احتيازها، فهي أما موجودة في القرار أو ليست موجودة، فهي بالدم وجزء من تربة الإنسان". انتهى.(1)

*****

صوت ذكراك مكان يسري يلاقي السيل

وسر مكتوم في صدر النيل .....

هل كان مصطفى يدرك أنه يأتي بشيء لا قبل للناس به عندما يرتفع بقرار صوته مترنماً بهذا المقطع للدوش (2)؟!! .. ربما... هل هي "الدونيدة" كما وصفها "باغنيني" ... على الأرجح أنها كذلك!!..

كثيراً ما يتردد في ذهني تأكيد الموسيقار يوسف الموصلي – والمتواصل دون كلل- أن عبقرية مصطفى تكمن في صوته. هل كان يقصد الدويندة؟؟ ربما ..فمن المؤكد أن الموصلي عندما يتحدث عن تميز صوت مصطفى لا يتكلم بشكل ميكانيكي يستلهم فيه واقع تخصصه لتشريح صوت مصطفى من واقع علمي بقدر ما يسعى جاهداً للتنبيه على أن هناك شيء غامض أشبه بالسحر يتسرب عميقاً إلى أعمق أعماق الروح، شيء يقودك طوعاً إلى عوالم شفيفة أقرب إلى السديم منها إلى شيء محسوس. وأكاد أتيقن من ذلك الشعور عندما أتذكر تنبيه الموصلي لبعض الذين يحاولون الدخول بالتجربة في مقارنات غير موضوعية تشوبها العصبية والانحياز الأعمى بفعل تأثير الدويندة – على ما يبدو- ويردد أن مصطفى بقدر ما هو عظيم إلا أن هناك الكثير من المبدعين ممن هم يتفوقون عليه في بعض النواحي التكنيكية. وهذا – في رأي- تفصيل واضح للتفرقة بين مصطفى كظاهرة تستعصي على الفهم وبينه كتجربة خاضعة للتقييم المنهجي والموضوعي.

يستطيع كل مهتم ومتابع لهذه التجربة وبقليل من رهافة الأذن الموسيقية إن يكتشف بعض التكرار اللحني في أغانيه أو استشفاف شيء من العجلة في صياغة بعض الألحان، ولكن ما لا تستطيع أن تستوعبه حتماً أنت وهو إيجاد تعليل مناسب ووقوفك بلا حيلة أمام تسرب صوته من خلال مسامك، وانسحاقك اللامتناهي حين يأخذك ذلك "القرار" المتصاعد من صوته عبر اللامدى مخترقاً عوالم سرمدية يتلاشى فيها الإحساس بالزمن.
 

كل من يسمعه يصاب في عصب اللغة، وتخرج محاولات توصيفه أكثر غموضاً مما كان يظن أنه تفسيراً. فها هو أدونيس يصفه بأنه "لا أسلاف له، وفي خطواته جذورُه"!!. ثم ماذا بعد؟؟ بلا شك أنها الحيرة و"عصلجة" الحروف!!.

الموسيقار الأسترالي "روس بولتر" يقول: "صوته يشبه موجة عريضة تطوف بكل حواف الكون ثم تتكسر إلي ما لانهاية" !!.
 

الشاعرة "شيلا ج." تقول: "إنه يغني من القلب إلي القلب، ومن الروح إلي الروح، صوته مشبع بأحاسيس المعاني التي يتغني بها، من غير أن أفهم اللغة العربي".
 

من المؤكد أنه كان يراهن على جموح خيول صوته، فلذلك لم يكن يتردد ولو لبرهة في دخول المغامرة الإبداعية مهما كانت جدتها أو غرابتها. كان يتمتع بثقة مطلقة تجعله يثق بأن لسحر صوته وقوة تأثيره العنصر الحاسم في الولوج إلى عوالم الشجن والتطريب السحري. قال الشاعر الكبير – المرحوم- محمد بشير عتيق للقاص والشاعر يحيى فضل الله عندما رفضت لجنة النصوص بالإذاعة إجازة أغنية "يا ضلنا" بعد علمه بأن مصطفى هو ملحنها ومغنيها: "يا ولدي ده كلام الجرائد ممكن يغنيه" !! هل كان عتيق يعني حقاً سحر "الدويندة" الذي يتمتع به مصطفى؟؟ ربما ..
 

غالباً ما يتوفر للعبقرية تكامل أكثر من عنصر حتى تصل إلى مصاف "الاسطرة"، وهذا ما جسدته تجربة مصطفى واقعياً، فمصطفى الشاعر، المثقف الملتزم، الفنان التشكيلي، الملحن البارع كلها عناصر أسهمت في "اسطرته" ولكن يبقى لعنصر الصوت بمكوناته الخرافية وسحره الدافق والمسيطر على أعماق الروح منطق الحسم في فرادة تجربته.

هل كان كل ذلك بفعل الدويندة؟ .. ربما ...!!!
 

ولأن "الدويندة" توجد حيث احتمال الموت كان لابد أن يغادر على عجل، حيث هنالك "الميتافيزيقي" المستعصي على الفهم والمتجاوز سقف الخيال. ولكن، هل كل الرحيل رحيل؟ في هذا يكفينا "القدال"(3) عناء الإجابة حين يقرر في "رحيل اليوتوبيا" وبكل الحزم الجمالي للشاعر "الرحيل الشفته للمتلك قيامة" ويا له من حزم وياله من توكيد!!!.

يقول صديقي الذي لا أشك في صدق روايته، أن جده صارحه بعد يوم من ذلك الرحيل المهيب قائلاً: "والله يا ولدي ما عارف زولكم ده بيغني في شنو، لكن شاهد الله وطوال عمري الطويل ده ما شفت الخرطوم طلعت متل ده إلا في جنازة مولانا الميرغني الكبير !!".
 

طال الليل بالمسافر .. نحن سفرنا ما بقى ليه آخر
في الاسى ضاعت سنيني وإذا مت أذكريني
زمن أمه بتلوليهو وتتني بنانه بالضباح

متين ليلنا يبقى صباح ..
 

هل تناهى إلى سمعك صوت مصطفى وهو يترنم بهذه الأغنيات؟ إن كانت الإجابة نعم، فإذن أنت كنت هناك حيث "الدويندة" حيث توجد الفجيعة، حيثما يكون الموت، في القرار أو لاتوجد. فهي بالدم وجزء من تربة الانسان.!!!!
 

نم بسلام أيها "الخرافي" فقد كنت وما زلت وطناً وهوية حين عز على الناس الاتفاق على الوطن والهوية.

عبد الخالق السر/ ملبورن

13/2/2004م

هوامش:
(1)1 "نظرية الدويندة" مجلة الناقد، ص15 نوفمبر 94 عدد 77
(2) الراحل المقيم الشاعر عمر الطيب الدوش (سحابات الهموم)
(3) الشاعر الكبير محمد طه القدال
 


* عبد الخالق السر، من مواليد عطبرة، 1966 يقيم بمدينة ملبورن باستراليا.

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco