header

 
News |
Actualité  | أخبــار
 

 

مقــالات وآراء

 

شيبـــــون

 

عبد الله علي إبراهيم

 

(1)

محمد عبد الرحمن شيبون حنجرة الشعب: متى يغرد

خارج سرب صلاح أحمد إبراهيم

 

 

أجدني متفقاً جداً مع رفيقنا محمد عبد الله القطي (الصحافة أول أبريل 2005) في دعوته أن يكف بعضنا عن هذا الحب القاسي للمرحوم صلاح أحمد إبراهيم. وأول مظاهر قساوة هذا الحب هو الأخذ بشهادة صلاح عن أستاذنا عبد الخالق محجوب كمسلمات لا يأتيها الباطل. وهذا سوء أدب في عرض خصومة "صبح أفرادها في ذمة التاريخ." وخشي القطي أن لا يكون هذا الحب لصلاح لوجه الرجل بل نكاية بالحزب الشيوعي. ونبه بذكاء أنه بقدر ما كتب الناس عن صلاح فهم لم يتجاوزوا واقعته عن الحزب الشيوعي. وعلى أهمية هذه الواقعة في حياة صلاح فإنها لم تأت علي حصيلة عمره الحافل السديد القصير. والحق إنك لا تقرأ للمروجين لصلاح الشيوعي المتمرد كتابات عن عوالم الرجل الغناء. بل ليس بالمكتبات سيرة له حتى تناهشت مأثرته ضباع السياسة الحزبية الوخيمة. فهو في صباه منطقة شيوعية وفي شبابه وكهولته الباكرة منطقة لخصوم الشيوعيين وهو في خواتيم كهولته منطقة محررة للإسلاميين وبكوا وفاته بالدمع الثخين من لدن الأستاذ نزار ضو النعيم حتى السيد حسين خوجلي. وهذا فعل العميان بالفيل. وصلاح نهر بطران فائق الدلالات والرموز جري في غابنا وصحرائنا واكتفي كل منا منه بالشليه التي علي "قدر ظرفه."

 

أما الحب القاسي حقاً فهو حب مناصرى صلاح هؤلاء لصديقه المرحوم الشاعر محمد عبد الرحمن شيبون. فهم يحبونه بالعدوي من صلاح لا عن علم بالرجل وأدبه. التقي صلاح بشيبون في حنتوب الثانوية وكانا ضمن أول وحدة شيوعية بها عام 1950 وثالثهما عبد الوهاب سليمان. وقد وصف صلاح في ديوانه "نحن والردى" ملابسات اجتماعاتهم "وسط الحشائش المتعالية وشجيرات العشب والتنضب حيث تكثر الثعابين وغيرها من الهوام وقد قتلت الطالب "جعفر" بلدغة خلال تلك الاجتماعات." وقد رثاه صلاح بقصيدة نشرت علي الصحف. وكان شيبون أكبر من صلاح بعامين وقد وثق بينهما هم الشعر وقراءة ديوان "إصرار" للمرحوم الشاعر المصري الشيوعي كمال عبد الحليم الذي تسلل إلي أفئدة ناشئة اليسار بقصيدة "عيد ميلادي." وقال فيها أنه إن لم يمد يده يلحق شعبه المرهق:

 

فأنا لست بإنسان له عيد ميلاد، أنا لم أولد

 

وقد ذكر صلاح أيام شيبون وحنتوب في قصيدته "حنتوب: شاعر وشعب" التي ألقاها في عيد حنتوب الفضي عام 1971 ونشرت له في "نحن والردى" (2000) الذي أهداه إلى شيبون. وقد التحق شيبون بكلية غردون الجامعية عام 1952 وهو دفعة واحدة مع الأستاذ محمد ابراهيم نقد كما حدثني يوماً وهو في غملته الثالثة التي خرج منها مؤخراً. وفصلتهما الكلية معاً إثر نشاط سياسي ما. فأدخلهما الحزب الشيوعى ضمن حلقة الكادر المتفرغ بالأمر الواقع. ثم اكتنفت حياة شيبون المتفرغة لوجه النشاط الشيوعي ملابسات قضت رفع ذلك الالتزام عنه كما سنتطرق إلى ذلك لاحقاً. ثم وقعت الواقعة وهي انتحاره رحمه الله وأحسن إليه.

 

بصورة ما صارت سيرة شيبون ومأثرته وانتحاره حكراً لصلاح يروي عنه وتقبل روايته. فأول ما عرفنا شيبون نحن الجيل العاقب لهما في اليسار كان مما رواه صلاح عن شيبون. فقد جاء ذكر شيبون في بيت شعر لصلاح وهامش في قصيدته "أنانسي" من ديوان "غضبة الهبباي." وهي القصيدة التي هجا فيها أستاذنا عبد الخالق محجوب هجاءً حامضاً. فقد شبهه بأنانسي العنكبوت الذي تدور حوله الحكايات الشعبية في غرب أفريقيا. ووصف صلاح أنانسي الأحاجي بأنه "واسع الحيلة كثير الدهاء والخبث." وأنانسي ربما شابه "أبو الحصين" في حكاياتنا الشعبية. وهي قصيدة لا تملك إلا أن تعجب بقوة عارضتها الشعرية والشعورية حتى لو كنت من المتيمين بعبد الخالق مثلي. وقد جاء ذكر شيبون في القصيدة في معرض ضحايا أستاذنا عبد الخالق الذي يغتال وبسمة بيريا علي شفتيه، علي حد قول صلاح. وبيريا هو من نسبت إليه فظائع ستالين لأنه كان علي رأس الكي جي ب الاستخباراتي السوفيتي. قال صلاح أنه يغني لأنانسي صاحب الجريمة الكاملة باسم الشعب:

 

لتقبيله (هل هي تقتيله؟) الشعب، للاغتيال وبسمة بيريا علي شفتيه، لمقتل شيبون

شيبون حنجرة الشعب،صوت بلادي الغني المثير

 

ثم أردف هذا البيت بهامش علي الصفحة اقتبس فيه من كلمة نشرها شيبون بجريدة الأيام بتاريخ 10-4-1960. وجاء في المقتبس: "وحتى أصدقاء السلاح رفعوا سلاحهم في وجهي، وضربني من كنت اعلمه الرماية حتى اشتد منه الساعد، وأدار لي آخرون الأكتاف الباردة التي تبينت أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام. لقد استعمل كل إنسان سلاحه ولن نعدم سلاحاً إذا كنا نحارب عواطف إنسان."

 

وسأعلق في كلمة قادمة علي كيف أضعنا فتي في وسامة شيبون وعذوبة حنجرته حين اختصرنا حياته الخصيبة إلي مجرد ذكري لصلاح وحاشية لشعره إستصحبهما في خصومته المعروفة للحزب الشيوعي. وشيبون مستحق أن يستقل بسيرة تفض عبق سحره وسره. وحتى نلتقي أترككم مع كلمة شيبون التي أخذ منها صلاح مقطعاً في هامشه فتأملها أيها القارئ حتى نعرض لها.

 

صندوق التجربة

يكتبها شيبون

 

ما أمتع أن يدخل الإنسان في تجربة. فالحياة الرتيبة تحيل الإنسان إلي آلة، إلي ساعة أوتوماتيك لا تخطيء الوقت. وهذا حسن أو هكذا يقولون. ولكنني جئت إلي هذا العالم لكي أحارب طواحين الهواء!

 

بدأت التجربة سراً وهي ما زالت فكرة، ثم عملاً، وأخذت أرقب تطورها من بعيد، من خلف ستار كثيف من تقاليد هذا المجتمع الجامدة. ولكني لم أصبر. فقد أغراني النجاح المبكر بالظهور علي المسرح وليتني ما ظهرت. إنها تجربة صغيرة ولكنها (؟) بمقياس الإنسان وانفعالاته. لقد بدأ المجتمع يتدخل.

 

لم أهتم في البداية. ورفعت عالياً شعاري الخالد: " أيها الناس اتركوني لحالي." ولكن الناس رفعوا علي شعارهم الأخلد: "تدخلوا، أوقفوا هذا المجنون عند حده، هذا ضد الأمور السائدة، ضد ما وجدنا عليه آباءنا."

 

وتحرك الجمود. وبدأت التجربة الحقة. كل النماذج من البشر أدلوا بدلائهم. كل واحد من زاويته التي يحكم بها علي الأمور. لقد وجدوا أخيراً ما يملأ الفراغ القطبي في حياتهم القاحلة. حتى أصدقاء السلاح رفعوا سلاحهم في وجهي وضربني من كنت اعلمه الرماية حتى اشتد منه الساعد وأدار لي آخرون الأكتاف الباردة التي تبينت أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام. لقد استغل كل إنسان سلاحه.

 

ولن نعدم سلاحاً إذا كنا نحارب عواطف إنسان. ومن بعيد جاء الأهل بدافع من حرصهم وأجبروني علي أمور روضت نفسي علي قبولها. وكما ينحسر ماء النهر في فصل الجفاف تلاشت حماستي وتدثرت بحكمة الجيوش المنهزمة وبدأت أتراجع بانتظام. وتفضل ضابط مباحث فأجهز علي البقية الباقية باسم القانون واجتزت آخر المراحل بعون رجلين فاضلين.

 

لقد عدت إلي القواعد بسلام، قواعد المجتمع الراكد الذي يرتعش من التجربة وعدت اشتغل أفندياً التزم وأتقيد بثمن بخس دراهم معدودات.

 

وفي اليوم التالي القى الجميع أسلحتهم وأخذوا يلوحون بالتحية للقب الأفندي. وكنت أحييهم وأنا أردد: " عاشت بلادنا، بلاد الأفندية."

 

 

ملحوظة: كتب الذي يساعدني في الأبحاث أن تاريخ هذا المقال هو 25-4-1960 فالرجاء مراعاة فروق الوقت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco