جمالية سودانية للشعب

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

جمالية سودانية للشعب

مشاركة بواسطة حسن موسى »












و ماذا نصنع مع الشعب؟
نشر هذا النص ، تحت عنوان " شيء اسمه الشعب" ،في الكتاب الجماعي الذي اصدره مركز الدراسات السودانية بمناسبة مرور خمسين عاما على " ثورة أكتوبر" السودانية. و انا أعيد نشره هنا ، مع بعض التعديلات ، تعميما للفائد، و سوف تليه نصوص أخرى بغاية التوسع في معالجة موضوعة الشعب كخيار جمالي حديث في مشهد الثقافة السودانية.
.




[1] شيئ اسمه الشعب
الشعب كإمتياز
"الشعب" ،ككيان إجتماعي قائم في الزمان و المكان ، فكرة قديمة قدم المجتمع الإنساني. لكن موضوعة" الشعب"، ككيان سياسي فاعل و منفعل بالتاريخ، تمثل كلحظة مهمة من لحظات تطور الفكر السياسي المتخلق ضمن تناقض المصالح الطبقية. و هي لحظة يردها المؤرخون لأشكال التنظيم السياسي التي تمخضت عنها حضارات العهد الإنطيقي في بابل و في مصر الفرعونية و أثينا إلخ. ودارسو التاريخ السياسي يحيلون فكرة الشعب كمصدر للسيادة السياسية، لأصل قديم في الصيغة الأثينية لـ "سلطة الشعب". و هي الصيغة التي تعرف "الشعب " ككيان منسجم ضمن جغرافيا سياسية ذات حدود واقعية على الأرض ، و حدود رمزية، حقيقية كانت أو افتراضية ، تقعّد هذا الشعب، في عمق التاريخ، كفئة ذات حقوق و واجبات سياسية تميّزه عن غيره. و في أثينا كان الشعب يعني جملة المواطنين [ ديموس
Demos
] ممن لهم حق المساهمة بالترشيح أو التصويت لإختيار "ممثلي الشعب" في إنتخابات السلطة السياسية العليا[ البرلمان].و عبارة " سلطة الشعب" هي الترجمة الحرفية لعبارة " الديموقراطية " التي تمثل كأفضل نموذج لنوع العبارات المفتاحية التي استوطنت كل لغات الدنيا[ بما فيها لغة القرآن] بشكل لا رجعة فيه. فصدر العبارة : " ديموس" يعني " الشعب" بينما عجزها
Kratos
" كراتوس" يدل على السلطة.
و " سلطة الشعب" في اصلها الأثيني كانت بمثابة إجابة جديدة للأزمة الإجتماعية و السياسية التي ألمّت بالنظام الأثيني في القرن الخامس قبل الميلادي، أثر التحولات الإقتصادية و السياسية التي نتجت ، من جهة أولى ،عن تفاقم نظام الإسترقاق للفلاحين الفقراء المديونين و غياب المساواة في الحقوق السياسية في الأرياف، بينما ، من الجهة الأخرى، أدى أتساع التعامل بالنقد ،عقب التوسع في التبادل التجاري، إلى ظهور طبقة حضرية موسرة قوامها الحرفيون و التجار و بناة السفن الذين بدأوا ينازعون الأرستقراطية الأثينية هيمنتها السياسية وامتيازاتها الإقتصادية. و قد توصل المجتمع الأثيني ، عبر سلسلة من الإصلاحات التي منعت استرقاق المديونين و عدلت قانون ملكية الأرض، إلى نوع من " ديموقراطية" للمواطنين الأحرار استوعبت في بنيتها السياسية مؤسسة الرق.

. و يميز " سيسيرون" الفيلسوف و رجل الدولة الروماني بين الجمع أو الجمهور المجتمع عفويا، بروح القطيع، و" الشعب" الذي يمثل، في السياق الإجتماعي كفئة مترابطة بوحدة المصالح المشتركة و ملتزمة بقانون موحد.
و في روما الإنطيقية كان مصطلح الشعب[بوبوليوس
Populus
] يدل على جملة المواطنين الرومان الملتزمين بحقوق و واجبات المواطن المعرفة في القانون.
و بشكل عام يمكن القول أن فكرة " الشعب" في السياق الأثيني و الروماني كانت تدل على فئة إجتماعية ذات حقوق و واجبات. هذه الطريقة في تعريف مفهوم "الشعب" تجعل الإنتماء للشعب إمتيازا لا يطاله إلا الأشخاص الضالعون في فئة الذكور البالغين الأحرار الحائزين على صفة المواطنة.
و في فرنسا القرن الثامن عشر كان كسر الإمتياز الإجتماعي للأرستقراطية الفرنسية هو الذي حفز فقراء باريس على الإنخراط، مع البورجوازية، في الثورة على السلطة المطلقة التي كانت للبلاط الملكي/ الكنسي في فرنسا .و تبدو الثورة الفرنسية لمؤرخيها بمثابة التتويج لقرون التخلق الإجتماعي و الثقافي الذي استند على اللقيات الفكرية لحركة "التنوير" و على تقدم العلوم و الإكتشافات الجغرافية، مثلما استفاد من تطور فلسفة الحرية الفردية و اتساع التجارة الكبيرة مع بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.و قد طرح منظـّرو الثورة الفرنسية،[ أليكسي توكفيل ]، سؤال الوحدة الوطنية حول أمّة متحدة على مبدأ الجمهورية. هذه الأمة التي تقودها البورجوازية الرأسمالية الصناعية التجارية كانت تنتفع بموضوعة الشعب لتقعيد جمهورية المساواة و الحرية على " عقد اجتماعي " جديد يسوّغ سيادة حقيقية، قوامها المواطنون الذين يساهمون ديموقراطيا في تسيير مؤسسات الحكم الديموقراطي و يملكون القدرة على حمايتها عند مقتضى الحال." و على أثر " العقد الإجتماعي"، [ جان جاك روسو]، يطرح الشعب ذاته كمصدر للسيادة السياسية العليا، لأن كل فرد من أفراد الشعب يقبل طوعا التخلي عن " حريته الطبيعية" ليفوض أمره ويحيل فاعليته و حقوقه وجهة المجتمع. هذا الشعب المتضامن على إلتزام كل فرد من أفراده تجاه الجماعة، يصبح " جسما سياسيا " تميزه الإرادة الموحّدة عن تنافر جمهرة الأفراد الذين لا يربطهم صالح جمعي حقيقي.و إذا ساغ للناس قبول مثل هذا العقد، فذلك لأنه يعود عليهم بمنافع جمة.و بحكم خضوعهم لقوانين موحدة فهم قمينون بصيانة استقلالهم و أمنهم وحماية ملكيتهم الخاصة."[ أوليفيي ناي،تاريخ الأفكار السياسية،2004]
Olivier Nay, Hitoire de idées politiques, Armand Colin2004 ,pp.260,285

[2]
الشعب "غنيمة حرب"
الشعارات الجديدة التي رفعتها الثورة الفرنسية، مثل المساواة و الحرية و سيادة الشعب، زعزعت القناعات السياسية القديمة لأوروبا [ و لأمريكا] القرن الثامن عشر و ألهمت النخب البورجوازية الأوروبية فرص الخلاص الثوري من نير الحكم الملكي المطلق .
لكن المعاني التي ابتدعتها الثورة الفرنسية حول موضوعة الشعب كتجسيد للسيادة الوطنية لم تقتصر على المجتمعات الأوروبيةوحدها، لأن واقع الإلحاق الكولونيالي المتكامل، الذي خلقه الأوروبيون في المجتمعات المستعمرة ، كان يجعل من المجتمعات الواقعة تحت الهيمنة الإستعمارية نوعا من علبة رنين طبيعية للموضوعات التي تدور في المجتمعات الأوروبية .و رغم أن مبادئ التنوير الحداثي التي دخلت المجتمعات غير الأوروبية في معية قوى الإستعمار بقيت معطوبة بسموم رأس المال الإستعماري، إلا أن موضوعات الحداثة الأوروبية الكبيرة ، مثل الحرية الفردية و الوطنية و سيادة الشعب و الديموقراطية و العدالة الإجتماعية ، وجدت طريقها لأفئدة السكان الأصليين الذين استشعروا فيها فرص التحرر و التنمية الإجتماعية لمجتمعاتهم.و ضمن واقع التداخل و التمازج الثقافي بين المستعمَرين و المستعمِرين يمكن تفهم الكيفية التي استقرت بها المراجع الآيديولوجية للبورجوازية الأوروبية في ثقافة المجتمعات المستعمَرة كنوع من " غنائم حرب" لم يحسب لها أحد حسابا.
لقد استنبت المستعمرون مفاهيم التنوير الأوروبي ، ضمن زعم تمدين "السكان الأصليين"، وسط الشرائح المتقدمة من الطبقة الوسطى في المجتمعات الواقعة تحت هيمنتهم.و تحت شروط الهيمنة الإستعمارية تعلمت طلائع الطبقة الوسطى الحضرية في السودان مفهوم " الوطن " كوعاء تنظيمي للأمة ،كما تعلمت مفهوم " الشعب" كتجسيد للسيادة الوطنية.و في السودان يمكن القول أن موضوعات "الوطن" و "الأمة" و "الشعب" قد استوطنت ثنايا الوعي الإجتماعي لرعايا دولة الحداثةالإستعمارية كجزء من نسيج العلاقات الإجتماعية الحديثة التي لم يعرفها مجتمع المهدية. فقد كان مجتمع المهدية يتطور وفق التقليد الشرقي قبل الرأسمالي على مفاهيم " دار الإسلام " و " أمة المسلمين " القائمة إداريا في شكل دولة" الخلافة ".و قد انزلقت فكرة "الشعب"، ككيان سياسي حديث، بيسر و بسرعة ، في الأشكال التقليدية للتنظيم الطائفي و العرقي، و اسقطت الأرستقراطية الدينية و العشائرية فكرة الشعب على جماهير الأتباع و المريدين ، بينما طرح أهل الحواضر، الفالتين من تأثير الثقافة التقليدية، فكرة الشعب كأفق مفهومي جامع يتجاوز الأعراق و المعتقدات، و كوعاء تنظيمي للكيان الوطني الوليد.في هذا الأفق الحداثي يمثل الشعب كموزاييك من المواطنين الخاضعين لنفس القانون و المرتبطين بنفس المشروع المصيري. لقد استثمرت طلائع الطبقة الوسطى الحضرية مفهوم " الشعب " كدينامية وطنية في تعبئة السكان ضد الهيمنة الإستعمارية من جهة، و ضد هيمنة القوى التقليدية المحلية المتحالفة مع المستعمرين من الجهة الأخرى.و في هذا السياق يمكن قراءة المنازعة التي ابتدرها الفرقاء الإجتماعيون حول موضوعة " الشعب " عقب واقعة " سفر الولاء " التي انقسمت فيها الحركة السياسية السودانية بشكل درامي في سودان مطلع العشرينات بين الأرستقراطية الدينية و العشائرية ، من جهة، وفقراء الحواضر المتعاطفين مع " جمعية اللواء الأبيض" من الجهة الثانية.و قد بدا ذلك الإنقسام ، كتعبير مبكر عن الفرز الطبقي في المجتمع السوداني.و هو فرز سيتخلّق ، و لسنوات طويلة، على إشكالية " تعريف الشعب" المستحق لشرف السيادة السياسية.فقد كان الشعب الخارج من الحواضر الحديثة المتأثرة بزخم الحركة الشعبية المصرية المعادية للإستعمار، في عرف الـ " سادة" المتحالفين مع الإدارة البريطانية، مجرد أشتات بلا" أصل" عرقي او عقائدي يعتد به أو من سلالات المسترقين الذين سكنوا الحواضر .و أمام تنامي المظاهرات المعارضة للنفوذ الإستعماري البريطاني،و التي توجت بتمرد طلبة المدرسة الحربية، في 9 أغطسطس 1924،عبر الزعماء الدينيون ،الذين وقعوا على " سفر الولاء"، عن إدانتهم للمتظاهرين عن طريق لسانهم : جريدة " الحضارة " التي كتبت ، في 25 يونيو1924، بأنه " كان يتعين على جمعية اللواء الأبيض أن تعلم بأن البلاد قد أهينت لما تظاهر أصغر و أوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز في المجتمع، بأنهم المتصدرون و المعبرون عن رأي الأمة،و أن الزوبعة التي أثارها الدهماء قد أزعجت طبقة التجار و رجال المال.".." و ذهب الكاتب لدعوة جميع المناضلين الحقيقيين بأن يستأصلوا شأفة " أولاد الشوارع" الموالين لمصر للقضاء على تطلعاتهم الكاذبة".." ذلك أن الشعب ينقسم إلى قبائل و بطون و عشائر، و لكل منها رئيس او زعيم أو شيخ، و هؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد. و استطرد يتساءل:" من هو علي عبد اللطيف الذي أصبح مشهورا حديثا، و إلى أي قبيلة ينتسب؟".." [ أنظر جعفر بخيت في " الإدارة البريطانية و الحركة الوطنية في السودان، 1919ـ 1939"،ترجمة هنري رياض، دار الثقافة بيروت و مكتبة خليفة عطية ، الخرطوم، 1972،ص 94] .
ويمكن القول أن الفرز الطبقي[ و العرقي ] العنيف الذي بدأ مع العقد الثاني من عمر الدولة الإستعمارية في السودان ما زال يلعب دورا مؤثرا في تطور التناقضات السياسية بين التكوينات السياسية الناشطة في ساحة العمل العام في السودان. و تحت هذه الشروط المادية و الرمزية ظل مفهوم الشعب يتطور حتى وصل لصورة الكيان الوطني الفاعل الجاعل من واقع التعدد الثقافي و العرقي نقطة قوة في سعيه نحو يوتوبيا الحرية و الديموقراطية و التنمية الإجتماعية التي استشرفها الرجال و النساء الذين تضامنوا سلميا و نجحوا في إسقاط الديكتاتورية العسكرية الأولى في 21 أكتوبر 1964 . و قولي: " الرجال و النساء" ينوّه بخصوصية حركة الأكتوبريين كأول حركة إحتجاج شعبي افسحت المجال لجماهير النساء السودانيات ، سواء من خلال منظماتهن المهنية و النسوية [ الإتحاد النسائي السوداني تأسس في 1952 ] أو في أشكال فردية في وسائل الإعلام.ففي زخم أكتوبر التحرري تعود الناس على حضور النساء في المظاهرات و في الندوات و في حلقات النقاش العامة في الجامعات و في مواقع العمل.و لعل من أبرز عواقب حضور النساء السودانيات في فضاء العمل السياسي كان صعود فاطمة أحمد ابراهيم ،مؤسسة مجلة " صوت المرأة"، لموقع أول سودانية تنتخب نائبة برلمانية في إنتخابات 1965 . .و يمكن القول أن حضور النساء السودانيات في فضاء العمل السياسي قديم و مؤصل في فجر حركة التحرر الوطني لكن حركة الأكتوبريين في 1964 قدمت أفضل الأطر لتجليات الحضور النسوي السوداني في فضاء العمل العام.[ أنظر حاجة كاشف بدري، الحركة النسائية في السودان،1984.دار جامعة الخرطوم للنشر]
و عبارتي " حركة الأكتوبريين " تنطوي على إشارة ضرورية للخصوصية السياسية لهذا الحدث التاريخي الفريد الذي تعود السودانيون على تسميته بـ " ثورة" أكتوبر ، رغم أن الوعي السياسي المشهود للتقدميين السودانيين يلهمهم ، عادة ، التحفظ على العبارة بين الأهلـّة ، و ذلك على إضماربأن الثورة تحقق التغيير الجذري لبنى المجتمع المادية [الإقتصاد] و الرمزية [الثقافة] القديمة بأخرى تواكب التغيير.و وجه الخصوصية الذي يهمني في هذا المشهد يمكن تلخيصه بأن " ثورة أكتوبر " كانت نوعا من " ثورة في فنجان" ، لو جاز حدسي المغرض ، و هيهات ! ،أقول" و هيهات " لأن أمر " ثورة أكتوبر أشد تعقيدا من تبسيط الزوبعة في الفنجان، و ذلك لأنها، و إن لم توفق في قلب البنى المادية و السياسية للمجتمع السوداني،[ و أنى لها ذلك و هي رهينة كل الإلتباسات المادية و السياسية التي كانت تحكم جيوبوليتيك تلك الفترة؟].إلاّ أن " ثورة أكتوبر " ،على ضيق الحيز الزماني المكاني الذي شغلته، كانت ثورة حقيقية في معنى أنها ابتدرت مشروع التغيير كعمل جذري يبدأ من تغيير الناس" أصحاب المصلحة" في التغيير. ذلك أن رهط الرجال و النساء الأماجد الذين تضامنوا على إسقاط الديكتاتورية العسكرية ،أنجزوا فعلا ثوريا تمثلت عاقبته في أنه غيرهم هم في أنفسهم أولا ، هو الجزء الأول من التعاقد الثوري حسب القولة المشهودة : " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" .و الأكتوبريون في هذا يمثلون كتجسيد واقعي للتغيير الرمزي الجذري الذي طال قطاعات واسعة من أبناء و بنات الطبقة الوسطى الحضرية و ثبّت قلوبهم على قناعة الديموقراطية كطريق للخلاص.و في هذا المشهد فثورة أكتوبر هي اول ثورة للطبقة الوسطى العربسلامية في السودان. هذه الطبقة الوسطى العربسلامية، ظلت، منذ الأربعينات ، تهيّئ نفسها للإضطلاع بمهمة القوامة على عملية دمج المجتمع السوداني في بنى الحداثة الرأسمالية، طرحت أكثر من منهج في مباشرة فعل القوامة.هذه " القوامة" التي قبلها الشيوعيون السودانيون و عقلنوها، كشر لا بد منه، باعتبارها " مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية " التي تسبق يوتوبيا المجتمع الإشتراكي، كانت ، في مشهد خصومهم و/ أو حلفائهم [ الأخوان المسلمون و حزب الأمة وحزب الشعب الديموقراطي و الوطني الإتحادي و القوميين العرب..] نهاية الأرب السياسي و سقف المشروع " الحضاري" القومي.

[3]
ثورة الأفندية
و لأن أفق مشروع القوامة الآيديولوجية يقتضي تكريس سيادة الشعب كأساس لكل عمل سياسي ، فقد بدأ الساسة في السودان يعون مفهوم الشعب في صيغة جمع متعدد متمازج الأعراق و الثقافات و قمين بإنجاز " الوحدة في التعدد " ،حسب الشعار الفتّان الذي خرج من أضابير " مدرسة الغابة و الصحراء " ليصبح أحد أقوى أيقونات الأدب السياسي الرسمي في سودان السبعينات.
أقول:كانت أكتوبر " ثورة " حقيقية ،في معنى أنها تمخضت مخاضا عاجلا و ولدت ثوارا يصولون و يجولون في الفنجان الحضري الذي ضاق عن استيعاب شعوب التعدد العرقي و الثقافي، التي كانت تنتظر الفرج في الهوامش، بينما قادة الرأي في الخرطوم مشغولون بافضل طبخة سياسية لـخرافة "الدستور الإسلامي" الذي سيتيح لهم التسلط على البلاد.[ أنظر حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، دار القارئ العربي، 1991]. هؤلاء الثوار الأكتوبريون الذين عاشوا مأساة التغرير بالثورة و حل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان،و الذين وجدوا العزاء في الأدب و الفن [" مدرسة الغابة و الصحراء"،"طلائع أبادماك"، "مدرسة الخرطوم" ..] كانوا في طليعة المؤيدين المهللين لإنقلاب " الضباط الأحرار" في25 مايو 1969.ذلك أنهم استشعروا عند هؤلاء الإنقلابيين الجدد نوعا من صلة قربى آيديولوجية، [ " جيتنا و فيك ملامحنا "]، ألهمتهم أن عسكر مايو هم افضل حليف لتحقيق قوامة الطليعة "الأفندية" على مصائر العباد.و بعبارة يمكن تلخيص حركة الأكتوبريين كـ " ثورة أفندية "، في المدلول الإيجابي للعبارة: " ثورة الأفندية".أي حسب مفهوم "الأفندية" كطليعة تقدمية رائدة في مشهد النسخة السودانية للحداثة .فإسهام حركة الأفندية لم يتوقف عند بناء جهاز الدولة و تفعيله في وجه صعوبات التخلف و عقابيل الجغرافيا و التاريخ التي لا تحصى فحسب، لكنهم أكسبوا هذا الهيكل الإداري لحما و شحما و خلقوا له شرايينه و جهازه العصبي و كسوه بجلد جعل الدولة الحديثة واقعا حيّا عامرا بدواوينه و مدارسه و وأطباءه ومواصلاته و محاكمه التي يحكم فيها الأفندية بين الناس بالعدل الطبقي، "سو فار سو قوود " !.
و فكرة الطليعة العارفة التي تتولى توعية الشعب هي واحدة من خرافات الفكر السياسي الحديث التي تجد بعض أصولها، من جهة أولى، في تراث سدنة الإدارة الإستعمارية الذين اسسوا لحكم السودان من خلال نخبة من الإداريين البريطانيين متعددي الكفاءات[ العسكرية و الإدارية والسياسية.. ] تساندهم قاعدة من الزعماء التقليديين و جهاز من الأفندية الذين دربتهم السلطات الإستعمارية وفوضتهم كـ " عناصر رشيدة " لتسير آلة الدولة الحديثة.[ أنظر جعفر بخيت : الإدارة البريطانية و الحركة الوطنية في السودان, دار الثقافة/ بيروت و مكتبة خليفة عطية/ الخرطوم ]. هذه الطليعة الإدارية هي جسم أجنبي قاهر و متسلط على الشعب بغاية إجباره لقبول التغيير الناتج من واقع الهيمنة الإستعمارية و التعاون مع السلطات الإستعمارية. و من الجهة الأخرى ففكرة الطليعة الواعية التي تحقن وعيها في جسم الشعب، تجد أصولها في تاريخ الحركة السياسية الوطنية المناهضة للإستعمار.و هي حركة قوامها المتعلمون الذين تخرجوا في مدارس المستعمِر لكنهم رأوا مصلحتهم في الإستقلال و بناء وطن حر يتمتع بالسيادة.و في هذا المنظور فتاريخ حركة التحرر الوطني في السودان مجدول ، في معظمه، من سعي صفوة المتعلمين لتوطين مفاهيمهم عن الحكم الرشيد في خاطر الشعب. هذه الطليعة الوطنية التي تطلب السعادة للشعب باسم الشعب هي، من حيث المبدأ، طليعة طيبة تحاول إغراء الشعب و استمالته ، بالتي هي أحسن، للإنخراط في رؤاها الإجتماعية. لكنها تملك ، أيضا ، أن تنقلب على الشعب الأعزل، حين تحتدم التناقضات بين رؤى الطليعة و رؤى الشعب. ربما لأنها، في مكان ما من لاوعيها السياسي تعتبر نفسها مالكة للشعب.و لا عجب، فهي التي اخترعته، من راسها و كراسها، فإذا هو حي يسعى و يهتف " عاش الشعب ، يسقط الإستعمار"!.
لقد حاول الشيوعيون السودانيون، بل و نجحوا، لحد ما ، في تخليق صورة الطليعة الواعية المنحازة للشعب من خامة الأدب السياسي الماركسي اللينيني المغموس في ميراث الأدب الصوفي[ أنظر دفاع عبد الخالق المشهود أمام محكمة الديكتاتورية العسكرية الأولى،الحزب الشيوعي، ثورة شعب.ص 321]. و لا أشك أبدا في سلامة الطوية السياسية للرفاق الأماجد الذين وطنوا أدب الطليعة الماركسية اللينينية في تربة السياسة السودانية، لكن سلامة الطوية وحدها لا تؤدي، بالذات حين تخوض صفوة الطبقة الوسطى العربسلامية المتفائلة، في مياه السياسة السودانية المحفوفة بالمزالق و الألغام، بدون تحسب من عوارض التخلف و عوارض جيوبوليتيك الحرب الباردة، ناهيك عن الفقر المفهومي و الأداتي وتردي مستوى الخصومة السياسية في السودان. ولأن الشيوعيون السودانيون ـ لحسن الحظ ـ لم يخرجوا من بطون الكتب و إنما تمخض عنهم نفس الواقع الإجتماعي الذي تدرجت فيه كوادر النادي السياسي العربسلامي ، فقد انطبعت مساهمتهم الطليعوية بطابع "البصارة " البراغماتية الشعبية أكثر مما انطبعت بتطبيق "النظرية" اللينينية الناجزة التي تحقن الوعي الثوري في جسم الشعب و تخرج به من الظلمات إلى النور.و يتقاسم الشيوعيون مع خصومهم و حلفائهم في الأحزاب الدينية و العلمانية في السودان فكرة الطليعة التي آلت على نفسها توعية الشعب الأمي و إصلاح حال الأمة. و مقابل هذا الجميل


فطليعة الطبقة الوسطى الحضرية تنتظر من شعوب السودان الفقيرة و المهمشة و المستبعدة أن توليها ثقتها و تفوضها أمرها حتى تتولى عنها و باسمها و من أجلها تحقيق العدالة الإجتماعية.
لماذا؟و ما الذي يحفز شعب الفقراء الأميين على تفويض أمره لهؤلاء و أولئك من خريجي " مدرسة كتشنر"؟ هل لأن العناية الإلهية اصطفت "هؤلاء الناس" و أوكلت لهم مهمة إنقاذ الشعوب السودانية؟ أم أن ملابسات الحياة الإجتماعية حبت هذه الطليعة النبيلة بالوعي الثوري فانسلخت عن طبقتها و التزمت بقضايا الطبقة العاملة!؟ [أي و الله!" انسلخت " و "التزمت " و الأجر على الله!.]، أم أن الأمر ينطوي على مكيدة كبيرة تفوق سلامة الطوية السياسية التي قد نتوهمها ،عن حق ، في هؤلاء و أولئك الناس الساهرين أبدا على الحق؟. و تساؤلي مغرض طبعا، لأن المضمون الإستبعادي للتدبير السياسي للطبقة الوسطى العربسلامية، تفتق دوما عن عقد فريد من المكائد الإستبعادية البالغة الإلتواء، التي اخترع بها القوم لسياساتهم فضاءات مفهومية استثنائية يصونون داخلها امتيازاتهم المذنبة . و هي مكائد متنوعة بعضها موروث من زمن الإدارة البريطانية مثل فكرة" المناطق المقفولة" التي واصلت تهميش الشعوب السودانية المقيمة خارج " مثلث حمدي" ،و مسخت الجنوب و الشرق و الغرب كـ" دار حرب " ، بفضل الإنحطاط السياسي المتسارع لنظام الإنقاذ الإسلامي. أو فكرة "دوائر الخريجين" التي تمنح الناخبين "الممتازين" بحظوة التعليم، وزنا انتخابيا استثنائيا يجعلهم يمتازون على سواد الناخبين الأميين ، أو خرافة " حياد الجيش" التي تجعل من العسكر حزبا سياسيا استثنائيا فالتا من قانون اللعبة السياسية. [كما في إنقلاب عبود 17 نوفمبر1958 الذي تم بتوجيه من عبد الله خليل، رئيس وزراء الحكومة المنتخبة ديموقراطيا! وو قد تم شحن مقولة حياد الجيش في الخطاب السياسي بعد إنقلاب نميري في 1969 و بعد إنقلاب سوار الدهب في 1985]. و فكرة محاربة الأفكار المستوردة التي انتفع بها المحافظون في مكيدة " طرد النواب الشيوعيين من البرلمان " بعد حظر قانوني و دستوري للحزب الشيوعي و طرد لنوابه في إطار ديموقراطي بإرادة شعبية خالصة " [ حسب عبارة حسن الترابي، في كتابه " الحركة الإسلامية في السودان"،ص 145]. و فكرة المصالحة الوطنية التي تجعل من " السودانوية" فضاءا للوفاق الوطني الذي لا تطاله تناقضات الآيديولوجيا .لغاية خرافة " الإسلام السوداني " التي ينتفع بها بعض العلمانيين في تملق العواطف الدينية لسواد الشعب بإظهار إنتمائهم لإسلام " آخر" متسامي على حماقات الإسلاميين السلفيين و شطحاتهم السياسية "المستوردة" الغريبة على الخلق السوداني الأصيل .
و حين أقول أن "ثورة" أكتوبر ثورة طليعية و رائدة للحداثة السودانية، فذلك لأنها قامت على أكتاف شباب " مدرسة كتشنر " الذين آلوا على أنفسهم توعية الشعب و تعليمه كنوع من الوفاء تجاه الأهالي الغبش الذين بذلوا الغالي و النفي لتعليمهم. و معظم الدارسين الذين يسردون حكاية " ثورة أكتوبر" يذكرون أن الثورة انطلقت من جامعة الخرطوم لأن الطلاب أرادوا إقامة ندوة حول مشكلة الجنوب. لكن لا أحد تقريبا يذكر العنوان الكامل لتلك الندوة :
" التقييم العلمي لمسألة الجنوب" .[ أنظر الحزب الشيوعي السوداني،" ثورة شعب، ستة سنوات من النضال ضد الحكم العسكري الرجعي"، ص 200]. و عنوان الندوة ينبئ عن البرنامج التعليمي الذي كان يشغل صفوة العقول الشابة التي تتوسل بوسيلة العلم لحل واحدة من أهم مشكلات السودان.و طلاب الجامعة ، في هذا المشهد، لا يراودهم شك في كونهم يلعبون دورهم ّ الطبيعي كطليعة واعية ترشـِّد الشعب الأمي و تهديه سواء السبيل.و لا عجب فهم لم ينجحوا في الإلتحاق بهذه المؤسسة التعليمية الممتازة إلا بما حباهم به الله من ذكاء فائق و جلد و مثابرة على التحصيل العلمي، ما شاء الله!.ورغم أن موقف الطليعة المتعلمة التي تحمل الوعي إلى جماهير الشعب كان يتجاوز دائرة طلاب جامعة الخرطوم لمجمل الفئة المتعلمة التي ورثت الثقل الرمزي لخرافة " مؤتمر الخريجين" بفضل إمتيازها الطبقي، إلا أن طلاب جامعة الخرطوم كانوا ، في ذلك العهد، بمثابة رأس الرمح لحركة الطبقة الوسطى الحضرية. هذه الوضعية الطبقية هي التي يسّرت التحالف السياسي غير المتوقع، بين الأخوان المسلمين و الشيوعيين و جملة الفرقاء السياسيين، وسط الطلاب الذين ارتضوا، فيما وراء خلافاتهم الآيديولوجية العميقة، الإلتزام ببرنامج سياسي غايته إسقاط الحكم العسكري.


[4]

لا ربيع في السودان
بعد الإنتفاضات الشعبيات الموصوفات بعبارة " الربيع العربي" ، تزعزع نعاس الأنظمة الإستبدادية في العالم العربي، و توقع بعض المراقبين انتفاضة شعبية تخلص السودانيين من نظام عمر البشير أسوة بزين العابدين بن علي و حسني مبارك و معمر القذافي.بل أن بعض ناشطي المعارضة السودانية شرعوا في حسابات قسمة السلطة بعد سقوط النظام و في خواطرهم نموذج " ثورة أكتوبر" ،[ 1964]، التي يعتبرها كثير من السودانيين حالة رائدة في التغيير السياسي من خلال وسيلة الضغط الشعبي السلمي أو قل: ربيع عربي ماقبل تاريخ " الربيع العربي" لو جاز التعبير، و هيهات!. ربما لأن ثورة أكتوبر السودانية استفادت من معطيات الواقع السياسي المحلي في زمان كان التشبيك السياسي يتم فيه من خلال علاقات التنظيم التي تمخض عنها التاريخ السياسي المحلي بين مؤسسات سياسية متجذرة في الحركة الشعبية، و هي علاقات ـ رغم طابعها البدائي ـ تتمتع بكفاءة سياسية عالية لأن كل طرف من أطراف المنازعة السياسية [ الأحزاب الطائفية التقليدية و الأحزاب الحديثة و المنظمات النقابية ] يتحرك على أرض يعرفها جيدا ، بينما انتفاضات " الربيع العربي" ارتبطت بظاهرة التشبيك الإسفيري لأفراد يقفون على مسافة من المؤسسات السياسية التقليدية و يناورون على أرضية الواقع الإسفيري الذي تنبهم فيه الهويات السياسية و تتداخل فيه المصالح الآيديولوجية، مستفيدين من الدعم السياسي و المادي الذي تقدمه أطراف دولية [ الإتحاد الأوروبي و أمريكا و الصين ] مهمومة بمصالحها السياسية و الإقتصادية في بلدان الشرق الأوسط و إفريقيا.و حين كان زعماء القوى الدولية الأوروأمريكية يصرحون بضرورة دعم الإنتفاضة في مصر [أو في ليبيا أو في تونس إلخ] فهذا الدعم ، الذي هو تدخل صريح في " الشؤون الداخلية " لبلد أجنبي، يعجل برحيل الديكتاتور، لكنه ، في نفس الوقت ، يمسخ عملية التغيير السياسي لنوع من لعبة سياسية تتم في ملعب السياسة الدولية. و فوق ذلك فهو يمسخ قادة الإنتفاضة المصريين [ أو التوانسة أو الليبيين] لمجرد فريق آخر ـ و لو شئت قل : فريق ضعيف، بين الفرقاء ذوي البأس المادي و الرمزي الذي لا قبل للفقراء بمجاراته.و في هذا السياق يتم نقل الصراع الطبقي بين الفرقاء المحليين لمقام جديد هو مقام الصراع الطبقي في شروط العولمة.في هذا المقام الجديد تتام عملية إعادة تعريف الخصوم و الحلفاء من منظور مصالح هؤلاء و أولئك على تداخل الصعيد المحلي بالأصعدة الدولية. و كثيرون ممن تفاءلوا بـ "ثورة ميدان التحرير" القاهري كثورة شباب ديموقراطيين و علمانيين و تقدميين و هلمجرا، تناسوا ـ عمدا ـ أن الشعب المصري، الذي سيصوت للإسلاميين في أول إنتخابات حرة في مصر، لا يقتصر على جمهور" ميدان التحرير" أو مشتركي وسائل التواصل الإجتماعي الإلكتروني. لقد أشاح" الثوريون" المتفائلون بوجوههم عن تركيب الواقع السياسي و الإجتماعي في المجتمع المصري و جاراهم في ذلك إعلام الدول الأوروأمريكية [ لأشياء و مصالح في نفس يعقوب ] و كانت النتيجة أن الجميع" فوجئوا" بخيار الشعب المصري الذي شرعن سلطة الإسلاميين السياسية في مصر. و ما حدث في مصر لم يكن مفاجأة إلا لأهل الرؤية المغبّشة الذين ينظرون للمجتمعات العربسلامية المعاصرة بمنظار " شرقاني " لا يرى هذه المجتمعات ككيانات حية متحولة على تناقضات الصراع الطبقي لزمن العولمة. لأن ما حدث في مصر و في تونس ما هو إلا التعبير المصري عن ظاهرة التحول الثوري في وعي الجماهير الشعبية المستبعدة من قسمة السلطة و الثروة في بلدانها. و أي مراقب لسياسة بلدان الشرق الأوسط لا يمكن أن ينسى ما حدث في الجزائر حين صوّت الجزائريون للإسلاميين ضد ورثة "بومدين" في حزب "جبهة التحرير" في أول إنتخابات حرة، أو ما حدث في فلسطين حين صوّت الفلسطينيون للإسلاميين ضد ورثة عرفات في " منظمة التحرير".وإذا كان نجاح و" فشل" ثورة ميدان التحرير، الذي جسدته نتيجة الإنتخابات المصرية، التي أعطت السلطة للإسلاميين المصريين، يضيئ واقع الفرز الطبقي الكبير، بين الطبقة الوسطى الموسرة نسبيا و الأغلبية الفقيرة المستبعدة سياسيا و إقتصاديا،وهو فرز ظل ينخر في بنى المجتمع المصري لعقود طويلة، فإن نجاح و "فشل " ثورة أكتوبر1964 ، يكشف، بطريقة مختلفة عن فرز طبقي مغاير ظل ينخر في بنية المجتمع السوداني في فترة ما بعد الإستقلال ، حتى أضاءته الأزمة السياسية التي تمخضت عنها واقعة حل الحزب الشيوعي السوداني و طرد نوابه من البرلمان.
في المجتمع التقليدي قبل الرأسمالي كان أهل السودان يعرفون أنفسهم من خلال جملة من الإنتماءات و الروابط الدينية [ الطائفية] و العرقية [ القبلية ]. في ذلك السياق لم يكن استخدام مصطلح " الشعب " ليعني الكثير بالنسبة للسودانيين. فأهل البلاد كانوا يتعرفون على ذواتهم و على غيرهم بوصفهم شعوب و قبائل تدين بالولاء للبيوت الدينية و العشائرية، من وراء قشرة الديموقراطية البرلمانية الملغومة بعلاقات نمط الإنتاج الشرقي و نظام "البيعة" و "الإشارة". لكن اضطرار بنى التنظيم السياسي قبل الرأسمالي للتعايش مع مقفتضيات حداثة رأس المال ألهمها نوع التدابير السياسية غير المسبوقة التي ساعدت على بناء تشبيك سياسي يضمن للزعماء التقليديين أن يحافظوا على قنطرة متحركة مع ممثلي القطاعات الحديثة في السودان.و في هذا السياق الجيوبوليتيكي الفريد يمكن تفهم تدبير مثل " دوائر الخريجين " في الحياة السياسية السودانية.
على هذه القنطرة المتحركة بين أنماط الحداثات السودانيات يمكن فهم كيف أن جميع الفرقاء، متنافري المشارب، اتفقوا على برنامج سياسي موحد فحواه تنحية النظام العكسري بإنتفاضة سلمية توجها عصيان مدني عام دام لأيام ثلاثة. انتفاضة سلمية جعلت الشعب الأعزل يتخلص من ديكتاتورية الفريق عبود في 1964، كما يمكن فهم الهشاشة البالغة لهذا الخلق السياسي الجديد الذي يرقى لمقام الإبداع السياسي الجمعي النادر الحدوث في تاريخ الشعوب، و هشاشة المولود الجديد المعرض للهلاك ، وإن لم تتوفر له الرعاية و الحماية الضرورية فهي جعلت منه مرجعا مهما في ذاكرة التغيير الثوري .طبعا ما كان بإمكان القوى الحديثة و المنظمات التقدمية توفير الحماية للمولود الديموقراطي الأكتوبري، سيما و هي ، على ضعفها و تشتت امكاناتها الفكرية و السياسية، كانت مضطرة لمواجهة خصوم لا يتورعون عن أي شيئ بسبيل استبعاد المنافسين السياسيين من ساحة العمل السياسي . و هكذا في أشهر معدودات تمكنت الزعامات التقليدية من استعادة السلطة السياسية و استبعاد الـ " شعب " الحداثي الذي كان يحلم بيوتوبيا الديموقراطية و الشراكة العادلة.
لكن يبقى من تجربة " ثورة أكتوبر 64" مكسب رئيسي لا يتنبه له المراقبون كثيرا،و هو أن الناس لمسوا مفهوم الشعب لمس اليد.فالشعب فاعل و الشعب يريد و الشعب يخرج في الفضاء العام لتحقيق إرادته و يدفع في سبيل ذلك الغالي و النفيس ثم يعود غانما و يجري الإنتخابات و يختار ممثليه في البرلمان و ينازع "السادة" في ندية سياسية مفعمة بالتفاؤل و الأمل في غد مشرق. لقد نجحت تجربة أكتوبر في تخليق الشعب ككيان سياسي فاعل، و فاعلية الشعب في فضاء السياسة تكسب له فاعلية جمالية في الوجدان الجمعي. هذه الفعالية الجمالية رغم أنها تؤثر بدورها في ساحة السياسة بطريقة غير مباشرة إلا أن تأثيرها أمضى من تأثير القرارات و الحركات السياسية الخالصة.و في هذا المقام العامر بالأشتباهات تتقاطع و تتلاحم مواقف المبدعين المنخرطين في العمل السياسي مع مواقف الساسة المتنبهين لقيمة الإبداع كرافعة سياسية ذات كفاءة لا يمكن تجاهلها.

سأعود
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

سلام يا حسن،

(( .. لكن يبقى من تجربة " ثورة أكتوبر 64" مكسب رئيسي لا يتنبه له المراقبون كثيرا،و هو أن الناس لمسوا مفهوم الشعب لمس اليد.فالشعب فاعل و الشعب يريد و الشعب يخرج في الفضاء العام لتحقيق إرادته و يدفع في سبيل ذلك الغالي و النفيس ثم يعود غانما و يجري الإنتخابات و يختار ممثليه في البرلمان و ينازع "السادة" في ندية سياسية مفعمة بالتفاؤل و الأمل في غد مشرق. لقد نجحت تجربة أكتوبر في تخليق الشعب ككيان سياسي فاعل، و فاعلية الشعب في فضاء السياسة تكسب له فاعلية جمالية في الوجدان الجمعي. هذه الفعالية الجمالية رغم أنها تؤثر بدورها في ساحة السياسة بطريقة غير مباشرة إلا أن تأثيرها أمضى من تأثير القرارات و الحركات السياسية الخالصة.و في هذا المقام العامر بالأشتباهات تتقاطع و تتلاحم مواقف المبدعين المنخرطين في العمل السياسي مع مواقف الساسة المتنبهين لقيمة الإبداع كرافعة سياسية ذات كفاءة لا يمكن تجاهلها. ..)).



يحيا الشعب ..









-------------
وهل صدق، إذن، أبوالقاسم الشابي:
إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة/ فلا بُدّ أن يستجيب القَدَر
ولا بُدّ للّيل أن ينجلي ولابُدّ للقيد أن ينكسر
ومَنْ لم يُعانقه شوق الحياة/ تبخـّر في جوّها واندثر
ومَنْ يتهيَّب صعود الجبال/ يَـ عِشْ أبد الدّهرِ بين الحُـ فَــر!
----
التعديل لزوم تذكُّر "الدّهر" ..!
عبد الله محمد عبد الله
مشاركات: 114
اشترك في: الأربعاء مارس 29, 2006 12:54 am
مكان: Iowa City , IA USA

مشاركة بواسطة عبد الله محمد عبد الله »

يا أخانا حسن موسى
سلام مربع ليك و المعاك

تشكر يا خى على هذا المسح الجيد والفحص الرصين لحقل اكتوبر الاخضر وما جاوره من صحارى و غابات و ترع و قناطر .
و بانتظار ما وعدت به ..
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

قراءة ممتعة.. محفزة للتأمل.
ح أجي تاني بإضافات من عندي بعد ما تكمل كلامك.

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

5ـ أكتوبر، لحظة البراءة السياسية

مشاركة بواسطة حسن موسى »




سلام للصحاب و شكرا على النظر. هاكم باقي الكلام في سيرة أكتوبر.و ما تبخلوا بتفاكيركم النيرة.

أكتوبر، لحظة البراءة السياسية:

قلت أن " لقد نجحت تجربة أكتوبر في تخليق الشعب ككيان سياسي فاعل"، لكن قولتي تنفتح على أسئلة محيرة :
متى يكون الشعب قوة فاعلة في المشهد الإجتماعي؟
ثم ما الذي يحفز الشعب على الإرادة و على الفعل من وقت لآخر؟
و ما الذي يقعد بالشعب عن الفعل في لحظات البيات الثوري الطويل؟
ذلك أن الشعب الذي صنع ثورة أكتوبر 1964 و نحّى الفريق عبود عن الحكم ، صبر على استبداد النميري من 1969 حتى 1985 ، و صبر على استبداد البشير من 1989 حتى اليوم!. لماذا؟
و هل هو نفس الشعب الأول الذي صنع " ثورة اكتوبر"؟أم أننا بصدد خلق جديد مغاير يحيا [ و يموت ] ضمن شروط انثروبولوجيا مغايرة؟
أظن أن تركيب الإجابة على هذه الأسئلة يبدأ من الطريقة التي ننظر بها إلى ذلك الحدث السياسي و الجمالي غير المسبوق الذي نسميه" ثورة أكتوبر64، فقد اغرانا غياب المنظور التاريخي لعملية التغيير الإجتماعي ، وسط المؤسسات السياسية التي رافقت الحدث الأكتوبري، أغرانا بالتسامي بحركة الأكتوبريين من مجرد انتفاضة مدينية، محدودة الأفق الإجتماعي، لمقام أيقونة سامية لعملية التغيير الإجتماعي. فديكتاتورية الفريق عبود كانت تعرف نفسها بـ " الثورة البيضاء" ، كناية عن كونها عملية تغيير سلمي لم ترق فيه قطرة دم سوداني [ و لا بد من " هيهات!" كبيرة مخضبة بدماء الأهالي في حرب الجنوب]. و لا عجب، فقد تم التغيير كتدبير سياسي داخلي،غايته الخروج من الأزمة السياسية التي عصفت بنادي النخبة العربسلامية التي ورثت مقاليد الأمور من المستعمرين ، و بتنسيق بين رئيس الوزراء ، عبد الله خليل، و وزير الدفاع، نزولا لكبار جنرالاته المطيعين. لكن انتفاضة أكتوبر 64 كانت تعبر عن لحظة تمرد شعب الحواضر على تحالف الأرستقراطية الدينية و العسكرية الذي عجز عن تحقيق إجابة ناجعة لأسئلة التنمية و الديموقراطية و السلام، و هي أسئلة كان تجسيدها الأكمل يتمثل في واقع الحرب الأهلية في جنوب الوطن . و لحظة أكتوبر هي لحظة ما كان لها أن تكون لولا توفر ذلك الإتفاق العفوي القصير و البالغ الهشاشة بين جملة الفرقاء الذين التقوا على ضرورة الخروج من الأزمة السياسية بتغيير النظام العسكري.و نجاح الفرقاء الأكتوبريين في تنحية ديكتاتورية عبود يجد تفسيره أيضا في كون نظام عبود العسكري لم يهتم ببناء مؤسسات سياسية جادة يصون بها ديمومته، و أغلب الظن أن عسكر عبود كانوا يدبرون شؤون السياسة كوجه من وجوه التكليف البيروقراطي للمؤسسة العسكرية التقليدية، و لا عجب فهم ابناء طبقتهم، قبلوا بالتكليف حين جاءت الأوامر من اعلى و تراجعوا عنه و زهدوا في السلطة حين رأوا تحالف الطائفية مع القوى الحديثة ضدهم.هذه الطبيعة البيروقراطية لسلطة العسكريين لم تهيـّئهم للتعامل مع الحراك الشعبي غير المسبوق القادم من الشارع. و ليس أفضل من حادثة عبد المجيد إمام ، قاضي المحكمة العليا التي حدثت في 24 أكتوبر، لتجسيد البراءة السياسية للسلطات الرسمية تجاه أحداث أكتوبر 1964.يحكي الباحث أحمد بابكر محمد الخير في مقلاته" جبهة الهيئات و موعد التاريخ " ، المنشورة في كتاب "خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية"[نشر مركز الدراسات السودانية،2014،ص 10].يحكي أحمد بابكر محمد الخير : "
وصلت قوات الشرطة إلى مكان تجمع المواطنين و الهيئات بعد أقل من ساعة من بداية وصول وفود المواطنين لمبنى الهيئة القضائية.و طوقت عرباتهم الشارع المعروف بشارع الجامعة.ثم ترجل الضابط المسؤول عن قيادة قوة الشرطة.و يدعى قرشي فارس، من عربته، و اتجه صوب الموكب و هو يحمل مكبرا للصوت.و أمر المتجمعين بالإنصراف و إلا فإن الشرطة ستستخدم القوة ضدهم، و في هذه الأثناء اتخذ جنوده مواقعهم،و أطلقوا ثلاث رصاصات لتحذير الجماهير المحتشدة داخل و خارج مبنى الهيئة القضائية. و قبل أن يشرع رجال الشرطة في استخدام القوة، أسرع نحوهم القاضي عبد المجيد إمام بشجاعة و ثقة و أمر قائدهم بالإنصراف. فانصاع الضابط المسؤول لهذا الأمر و جمع قواته و انصرف. هذا الموقف الشجاع الذي بادر به القاضي عبد المجيد إمام أشعل حماس الجماهير فتزايدت هتافاتها، فنال عبد المجيد إمام اعجابها و اصبح اسمه ساطعا في سماء الأحداث التي تطورت في الايام التالية".و قد جاز لحادثة عبد المجيد إمام أن تكون لأن كل من عبد المجيد إمام ،القاضي المتظاهر ضد السلطات، و قرشي فارس، ضابط الشرطة المكلف بحفظ النظام، كانا على قناعة بمقولات انفصال السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية و احترام استقلالية السلطات القضائية. لكن من الصعب تصور هذا الموقف في ظل علاقة المعارضة و السلطة الإسلامية الراهنة. من جهة لأن نموذج القاضي عبد المجيد إمام قد تماستئصاله من الجسم القضائي " باسم الصالح العام" منذ سنوات طويلة ، و من جهة ثانية لأن المسئول الأمني المكلف بحفظ النظام العام هو ، بالضرورة، مسئول سياسي مؤدلج و قمين بكل العنف الممكن للدفاع عن بقاء النظام السياسي. أمام هذا النوع من السؤولين فمصير عبد المجيد إمام و المواطنين المتظاهرين خلفه لا يسوى شيئا، و التجربة الواقعية أورثتنا من الدروس و المعاني ما هو اشنع من ما في الخيال السياسي.
و هكذا انتهت سلسلة الخراقات السياسية البريئة بسلطات نظام عبود إلى تراجع سياسي غير منتظم كانت نتيجته الحتمية سقوط النظام بدون مقاومة فعلية في زمن وجيز.و السهولة التي تم بها اسقاط نظام عبود لعبت دورا كبيرا في تضخيم الذات الشعبية كقوة لا تقاوم و ألهمت الأكتوبريين فكرة أن الشعب قمين بإنجاز التغيير حين يريد. لكن هذا الشعب ، الماثل ككيان افتراضي، متحول دوما، إنما يبدو كشعب و يكون كطبقة، في لحظة نادرة من تقاطعات الزمان و المكان،هذه اللحظة التي تطابقت فيها إرادة الشعب مع إرادة الطبقة هي التي مكنت لأكتوبر أن يكون كفعل ثوري فريد في نوعه.و في مسرح أكتوبر أمكن للشعب أن يريد التغيير و أن يصعّد الفعل السياسي لمقام حركة جمالية جمعية تلهم الرجال و النساء المتحركين معا، قبول الحياة مثلما تلهمهم قبول الموت كأمور متكاملة في منظور إرادة التغيير.هكذا ساغ للناس البسطاء أن يبذلوا أرواحهم و دماءهم للموت و للحياة في تلك اللحظات المفعمة بالتضامن الثوري الخلاق و التي تجعل من أقل حركة احتجاج شعبي مساهمة فريدة في خلق جمالي طوباوي ما خطر على قلب بشر. كانت " ثورة أكتوبر" لحظة نادرة جسدت حلم الشعب حين يكون في مقام يوتوبيا الحرية الهشة الفانية الفالتة من رقابة حرس رأس المال.إن المضمون الجمالي للحراك الأكتوبري إنما يكمن في بعده الطوباوي الذي جسد الإرادة الشعبية بقوة غير مسبوقة ضمن حيز زماني و مكاني بالغ الضيق.و قد التقط الفنانون و الأدباء و الشعراء الأكتوبريون هذه اللحظة و صنعوا منها ذلك الأدب الاكتوبري الجليل الذي ما زال يغذي حركات الاحتجاج الشعبي ضد عسف السلطات الاستبدادية.لقد ظلت يوتوبيا الحرية على الدوام في قلب المشروع الحداثي، و حين طمح الشعب للحرية كغاية سامية فهو لم يتحسب لما سيجري و لم يستبق الأحداث ببرنامج للمقاومة بعد الحصول على هذه الحرية،ذلك لأن الدينامو الذي كان يغذي تمرده كان يستمد حيويته من طاقة الإستهجان العفوي لهؤلاء الاشتات الذين صاروا شعبا في لحظة سحرية من عمر التاريخ السياسي السوداني.
لقد انقضت يوتوبيا أكتوبر منذ نصف قرن، لكن السودانيون الحالمون بالحرية مازالوا يعزون الخواطر المتمردة المحبطة ببعث " ثورة أكتوبر" من جديد. و هو موقف مركب كونه يصعد " ثورة أكتوبر " لمقام الأيقونة الثورية السامية لكنه ، في نفس الوقت، يمسخها لموقف الشجرة التي تخفي غابة الإحتمالات الثورية غير المسبوقة التي يمكن أن يجود بها خيال الشعب.
سأعود
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »


تاني كلام ممتاز ومجيه وطبعاً الكمال لله عند المؤمنين.

بس في حاجة كدا عامة في كلام حسن موسى كثيراً ما تكررت هنا وفي حتات أخرى مشابهة وهي الصفة المركبة من عرب ومسلمين أو ربما مستعربين ومتأسلمين (العربسلاميين) والإسم منها (العربسلامية). الضد شنو؟. الصاح الذي وجب أن يحل محلها لغوياً ومعنوياً شنو؟.

ثم: كان مفترض يحصل شنو غير كدا؟. وليه ما حصل؟.

إذا في زول فهم سؤالي من حيث الجوهر يحاول إجاوبني، لطفاً. (السؤال للعموم)
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

سلام حسن موسي



كلام مضيئ.. هل انتهي المقال؟ اسأل لانك قلت ستعود ... هل للمناقشة ام لإكمال المقال ؟


كتب محمد جمال :


"بس في حاجة كدا عامة في كلام حسن موسى كثيراً ما تكررت هنا وفي حتات أخرى مشابهة وهي الصفة المركبة من عرب ومسلمين أو ربما مستعربين ومتأسلمين (العربسلاميين) والإسم منها (العربسلامية). الضد شنو؟. الصاح الذي وجب أن يحل محلها لغوياً ومعنوياً شنو؟.

ثم: كان مفترض يحصل شنو غير كدا؟. وليه ما حصل؟. "

ليه يا محمد جمال تحاكم التاريخ بالمفروض كان يحدث ؟ وكذلك محاكمة المصطلحات وكأنها تخلقت ضد شيئ محدد اكثر من مصالح الوكلاء في السياق المادي والرمزي ؟ لذلك يصل سؤالك قمة صعبة وهي الصاح شنو ؟ والصاح من اي منظور ولأي جماعة ؟؟؟ وهكذا يصبح السؤال عن أمنيات عاطلة وفرضيات خارج التاريخ .. مش كدا ؟ لذلك اقترح استعدال السؤال واعادة صياغته


The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »


ذكرتُ اعلاه تعليق ان هذا مقال مضييء وأريد ان أؤكد ان هذه دراسة عميقة وليس مقالاً . حتي لا يبدو تعليقي كتطفيف.

يكتب حسن موسي :

"رغم أن موقف الطليعة المتعلمة التي تحمل الوعي إلى جماهير الشعب كان يتجاوز دائرة طلاب جامعة الخرطوم لمجمل الفئة المتعلمة التي ورثت الثقل الرمزي لخرافة " مؤتمر الخريجين" بفضل إمتيازها الطبقي، إلا أن طلاب جامعة الخرطوم كانوا ، في ذلك العهد، بمثابة رأس الرمح لحركة الطبقة الوسطى الحضرية"

هذه الطبقة الوسطي العربسلامية ليست جسداً واحداً وإنما تتضمن فئات متعددة ضمنها اتحاد مزارعي الجزيرة واتحاد العمال كمهمشين حسب تعبير ع ع ابراهيم كما في الندوة [ الوصلة ادناه]

https://youtu.be/W41DqHtzqCY


هذا لا ينفي بالطبع ان البرنامج والسياسات التي انبثقت عن حركة الطبقة (الطبقات ؟) الوسطي الحضرية العربسلامية في الثورتين اكتوبر وأبريل كرست مفهومي دوائر الخريجين ومطالب القوي الحديثة (عمال ومهنيين) في زيادة الأجور والامتيازات الأخري . ع ع ابراهيم يثير هنا مطالب اخري تتعلق بالهامش الجغرافي في جبال النوبة والجنوب والغرب والشرق . لفت انتباهي لن ع ع ابراهيم في الندوة قد اطلق لانتمائه السياسي القديم وناشطيته الجديدة المفاجئة العنان رغم تصريحه بانه هيستوريان (فبدت كأنها هيستيريا ) ؛ اقصد ان عبدالله لم يأخذ خطوة الى الخلف يطرح ضمنها نظرة نقدية صارمة تجاه الفعل السياسي مع الاحتفاظ بموقفه الفكري والسياسي كناشط. لكن عموماً كان بدالله في الندوة اكثر انساجماً وربط أفكاره التي ضاعت خيوطها في الكتابات الصحفية الراتبة.

The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
حافظ خير
مشاركات: 545
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:23 pm

مشاركة بواسطة حافظ خير »

"

ولنا المجد – نحن الذين وقفنا وقد طمس الله أسماءنا -
نتحدى الدمار َ
ونأوي إلى جبل لا يموت:
(يسمونه الشعب!)
نأبى الفرارَ
ونأبى النزوح

"


أمل دنقل – مقابلة مع ابن نوح!
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

الهاشمي.. إليك و سلام عليك

ما عندي إجابة هسا وكمان تاني جاي بسؤال جديد: ممكن زول يشرح لينا شنو "لحظة سحرية من عمر التاريخ" بالزبط؟.
من كلام حسن موسى الآتي نصه: (و قد التقط الفنانون و الأدباء و الشعراء الأكتوبريون هذه اللحظة و صنعوا منها ذلك الأدب الاكتوبري الجليل الذي ما زال يغذي حركات الاحتجاج الشعبي ضد عسف السلطات الاستبدادية.لقد ظلت يوتوبيا الحرية على الدوام في قلب المشروع الحداثي، و حين طمح الشعب للحرية كغاية سامية فهو لم يتحسب لما سيجري و لم يستبق الأحداث ببرنامج للمقاومة بعد الحصول على هذه الحرية،ذلك لأن الدينامو الذي كان يغذي تمرده كان يستمد حيويته من طاقة الإستهجان العفوي لهؤلاء الاشتات الذين صاروا شعبا في لحظة سحرية من عمر التاريخ السياسي السوداني).

توضيح السؤال: هل هو تاريخ كل شعوب السودان حقاٌ وفعلاً أم هو فقط شعب الوسط النيلي "العربسلامي"؟. مثلاً هل كان ناس شعوب الجنوب والبجا والنوبة والإنقسنا وناس جبل دار فور معانا "نحن" ناس الوسط النيلي ولا برانا؟. عشان نعرف سحرية* إلى أي مدى والصراع الطبقي وين!.

* السحر ما كويس، لأنه في باب الشعر والشعر من الشيطان :).


محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

برضو والله ما فاهم كويس "موغوش"

في بعض الحتميات الواردة في الحتة دي : (و صنعوا منها ذلك الأدب الاكتوبري الجليل الذي ما زال يغذي حركات الاحتجاج الشعبي ضد عسف السلطات الاستبدادية.لقد ظلت يوتوبيا الحرية على الدوام في قلب المشروع الحداثي).

"حرية" يعني شنو بالزبط وعلمياً؟.

"المشروع الحداثي".. شنو؟. ممكن زول إديني رابط للمشروع دا "مصدر"؟. إذا مافي ملخص ليه، ما مشكلة بس زول يتبرع لطفاً يصفه لينا في جملة واحدة!.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

أكتوبر ما وراء " الردة " المايوية

مشاركة بواسطة حسن موسى »




سلام للأعزاء و شكرا لمحمدجمال و الفاضل الهاشمي و حافظ الخير على النظر الحديد.

يا محمد جمال الدين أهلنا قالوا "اسأل مجرب و اسأل حكيم برضو" و لو احتجت "أسأل العنبة "كمان. و كل اسئلتك مشروعة و ضروريةبس ادينا وكت نذاكر شوية.. سؤالك عن مدلول عبارتي " العربسلامية" في محله.و قد نبهني الصديق محمد محمود، حين قرأ نصي قبل النشر ، لأن العبارة تحتاج لشرح، و اتفقنا على وضع الهامش الموجود في اسفل الصفحة 296 من كتاب " خمسون عاما على ثورة أكتوبر، و نصه : " العربسلامية كلمة مهجنة بين " العربية " و "الإسلامية"، مقصود بها تثبيت مفهوم العرب المسلمين كفئة سياسية متميزة بواقع المنشأ العربي للإسلام: " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" [ سورة يوسف2]،و الذي يكسب العرب ، بين المسلمين، حظوة رمزية ذات عواقب سياسية لا يمكن تجاهلها". أما في السودان فقد اكتسبت العبارة، بجاه التطورات السياسية التي جعلت بعض القوى السياسية المنتسبة للإسلام أو/و للعروبة ،تستثمر الصدفة الوجودية التي جعلت منهم مسلمين أو عربا، لبناء جملة من الامتيازات [إجتماعية و سياسية و اقتصادية] تجد تبريرها الأخلاقي في الإنتماء الديني أو/و العرقي.و قد نجح العربسلاميون ، في نسختهم الإنقاذية، نجحوا في تجسيد مفهوم ضيق للسودان، يصادر واقع التعدد العرقي و الثقافي للسودانيين لسعة " مثلث حمدي " المطهّر عرقيا و دينيا من كل الشوائب التي جاد بها تاريخ السودان.و في هوامش النص المنشور في الكتاب إشارة لعبارة " مثلث حمدي"، و هو عبد الرحيم حمدي، أحد قادة الحركة اللإسلامية، و وزير سابق للمالية ، تحت نظامها، و رأيه أن المشروع الإسلامي في السودان، يعتمد أساسا على التحالف الإسلامي العربي في مثلث أطرافه دنقلا و سنار و كردفان.


يا الفاضل كلامك عن الطبقة أم لسانين [ أو أكثر] في محلو ، لكن داير ليهو خيط مستقل. دا طبعا لا يمنع من فرز مويات الطبقات التي تبدو و تكون داخل ماعون " الشعب".

يا حافظ شكرا على حديث الزميل ود نوح كرم الله وجهه



.
6 ـ
أكتوبر ماوراء" الردّة" المايوية:
الخيال السياسي الشعبي في السودان يهوى الثورات،فكل تغيير مستجد في المشهد السياسي يحتاز على صفة الـ " ثورة "، ابتداءا من إنقلاب 17 نوفمبر 58الذي تحول ل " ثورة 17 نوفمبر"، و في رواية :" الثورة البيضاء" ، لإنقلاب 25 مايو69 الذي اصبح " ثورة مايو" و انقلاب 19 يوليو71 الذي اصبح " ثورة يوليو التصحيحية". و في عهد النظام المايوي افرط سدنة السياسة المايوية في إنتاج الثورات " الزراعية " و" التعليمية" و الإقتصادية" إلخ فابتذلوا العبارة و صادروا أدنى شبهة للتغيير في معانيها.و قد قلت أعلاه أن " ثورة " اكتوبر ثبتت في خيال الشعب موضوعة الشعب كقوة قمينة بالتغيير الثوري " إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابدّ .."، و تساءلت عن الاسباب التي تقعد بالشعب عن إجتراح التغيير رغم تمدد غول الاستبداد على صدره في عهد نظام مايو و في عهد نظام الإنقاذ.
و حين نقارن بين واقع الحركة الشعبية أبان " ثورة أكتوبر" ، و واقعها في ما عرف بـ " ثورة مايو 1969"، نجد أن تناقضات السياسة السودانية طرحت على السودانيين معطى جديدا فحواه المواجهة بين حلفاء الأمس الذين وقفوا في خندق واحد ضد حكم " ثورة 17 نوفمبر". فمنذ البداية تجسدت المواجهة بين الأرستقراطية الدينية التقليدية و القوى الحديثة الملتفة حول نظام" الضباط الأحرار" بطابع عنيف و دموي في أحداث الجزيرة أبا و في أحداث ود نوباوي ، 1970. و قد كانت أول مطالب الإمام الهادي الستة لعسكريي النظام المايوي، قبيل المواجهة الدامية في الجزيرة ابا، هي " إزالة الواجهة الشيوعية للنظام " [1]. و لا أبالغ لو قلت أن الدعم الشعبي الذي لقيه النظام المايوي أبان مواجهته الدامية مع الطائفية يجد اصوله في الزخم السياسي الكبير الذي ابتدرته ّثورة أكتوبر" فضلا عن كون عسكريي النظام المايوي[الضباط الأحرار] كانوا ينظرون لأنفسهم كورثة طبيعيين لثورة أكتوبر في نسختها اليسارية المعادية للطائفية... و لكن الزخم الثوري الشعبي الذي صنعته " ثورة اكتوبر" لم يكن يحسب حساب تناقضات السياسة السودانية المتأثرة بجيوبوليتيك الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط ، و التي انتهت بدمج النظام " الثوري " الجديد في السودان، داخل المنظومة الشرقأوسطية التقدمية المتحالفة مع المعسكر الشرقي ضد الأنظمة المحافظة المتحالفة مع منظومة دول حلف الأطلسي.و ضمن تحولات العلاقات الدولية الشرقأوسطية ، انمسخ السودان، بين عشية و ضحاها ، إلى "دولة مواجهة" في النزاع العربي الإسرائيلي، و خبر السودانيون أحلام الوحدة الأندماجية مع مصر و ليبيا،و راود خيالهم حلم الرفاه عبر مشاريع التنمية التي ستجعل من البلاد " سلة غذاء الشرق الأوسط " ، قبل أن ينجح البترودولار السعودي و الخليجي في فرض سياسات الدول الشرقأوسطية المحافظة على نظام جعفر نميري الذي اكتشف " النهج الإسلامي " في نهاية السبعينات . و يجدر القول أن النظام المايوي ما كان ليمتثل لإرادة الأنظمة الشرقأوسطية المحافظة لولا أن" تسونامي" الأزمة الإقتصادية العالمية، الذي عصف بالإقتصاد الدولي في نهاية السبعينات، طال السودان فيما طال من بلدان العالم الثالث. كانت أزمة السبعينات غامرة شاملة لم يسلم منها أحد و كان تأثيرها على الأوروبيين اشد وطأة من الأمريكان مثلما كان تأثيرها على فقراء العالم الثالث اشد وطأة من غيرهم . لقد تعلم المتظاهرون السودانيون في نهاية الستينات هتافا جديدا نصه الرائج هو " لن يحكمنا البنك الدولي !". و هو هتاف ينبئ عن الطبيعة العالمية للأزمة السياسية السودانية التي تجد أصلها في ثنايا إقتصاد دولي يرتكز على معطيات الإقتصاد الأمريكي المهيمن لفترة ما بعد الحرب العالمية الثاني .طبعا الأزمة العالمية الإقتصادية و المالية لمطلع السبعينات فولة كبيرة تفيض عن سعة ماعوننا الراهن الذي نكيل فيه حساب الشعب و الطبقة في سودان ما بعد اكتوبر، لكني سأحاول اختزال التعقيد الكبير للأزمة بما يتيح تفهم عواقبها على مسرح السياسة السودانية [ و سجن سجن غرامة غرامة!].و خلاصة الأمر هي أن الولايات المتحدة الأمريكية انتفعت بمعاهدة مؤتمر " بريتنوودز"،[ 1944]،لتعزيز هيمنتها على النظام الإقتصادي و المالي للبلدان الغربية التي تحالفت معها ضد بلدان المعسكر الشرقي.[ تنمية ليبرالية على مرجعية الدولار للذهب الذي تملك الولايات ثلث احتياطيه العالمي،وتثبيت و تمويل الإصلاح الإقتصادي الرأسمالي من فائض صادرات الولايات المتحدة.و جعل التنمية الإقتصادية في البلدان الرأسمالية تحت الضمانات الأمريكية. ]. المشكلة هي أن أزمة الإقتصاد الأمريكي في نهاية الستينات ازدادت تعقيدا من جراء تفاقم الحركة المطلبية العمالية في أمريكا و أوروبا و اليابان و بلدان العالم الثالث [ هزيمة حرب فيتنام] و اضطراب موارد المواد الخام و نزوع الأوروبيين لتأسيس سوق أوروبي قوي للأورو دولار و سعيهم لتثبيت شراكة اقتصادية على أسس جديدة ، ألقت بظلالها السلبية على حلفاء الولايات المتحدة و على مجمل البلدان المتأثرة بتقلبات الإقتصاد الرأسمالي العالمي. " .إن نظام الهيمنة المالية الأمريكية كان تدبيرا جديدا غير مسبوق في منظور التاريخ :".." فإن معاهدة بريتنوودز منحت سلطة ضبط النظم المالية لمجموعة من المنظمات الحكومية و الدولية و في طليعتها الإحتياطي الفدرالي الأمريكي و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي" الأمر الذي يمسخ التدبير المالي لمعاهدة بريتنوودز لشكل مالي من أشكال التعبير عن هيمنة الولايات المتحدة على الإقتصاد الرأسمالي العالمي.. [2].
إن استجابة نظام النميري، في السبعينات، لضغوط الدول الشرقأوسطية المحافظة [ المملكة السعودية و مصر السادات ] و تحوله من أقصى اليسار لأقصى اليمين الإسلامي الذي مكن لصعود الإسلاميين لسدة السلطة في السودان، ما كان له أن يتم لولا تأثيرات موجة الرجوع العام الذي فرضته تطورات السياسة و الإقتصاد اثر الأزمة الإقتصادية و المالية العالمية.
و قبل أن يباشر النميري مشروع أسلمة البلاد بقوانين سبتمبر التي فرضت الشريعة الإسلامية على كافة السودانيين، بدون اعتبار لواقع التعدد الثقافي الكبير في المجتمع السوداني،عبر المجتمع السياسي فترة من الهياج السياسي الإسلاموي و سخـّر النظام المايوي اعلامه الرسمي لتهيئة الجمهور لقبول العودة للدين [، كتاب النميري " النهج الإسلامي لماذا؟" ، حملة منع الكحول و اغلاق المطاعم في نهار رمضان، الإحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري في السودان]. و في نفس الوقت شهدت نهاية السبعينات انمحاق طاقة الزخم الأكتوبري و صارت دوائر النظام المايوي تحتفل بذكرى " ثورة اكتوبر " على مضض يحيلها لرف التاريخ اليساري للنظام الذي كفر باليسار و دخل حظيرة "البتروإسلام" ، قبل أن يعلن الحرب على شعوب السودان غير المسلمة التي "تمردت" على شريعة النميري في جنوب الوطن ،و يقيم الحدود على المواطنين المسلمين الذين اعترضوا على سياسات النظام في الشمال.أظن أن الإرتباط القوي لـ " ثورة أكتوبر" بالحركة الشيوعية في الخاطر الشعبي، مسؤول لحد كبير، عن استخذاء المايويين، المتأسلمين على عجل، عن المطالبة بنصيبهم المشروع في تركة أكتوبر. و ربما انطوى موقف القوم على مناورة ملتوية غايتها "إثبات " توبتهم عن العقيدة الأكتوبرية اليسارية لرعاة البتروإسلام المحافظين و حلفائهم الدوليين ضمن متغيرات الحرب الباردة. و العقيدة الأكتوبرية هي عقيدة جمالية ، و ذلك في معنى أن نموذج السلوك الثوري الذي انطرح ضمن السياق الأكتوبري هو طرف من منظومة مفهومية متكاملة تستلهم ميثولوجيات الثورة العلمانية[ الثورة الفرنسيةو الثورة البلشفية ] و تستهدف مبادئ المساواة و الديموقراطية و حقوق الإنسان و حرية التعبير على ذاكرة التنوير و النهضة الإجتماعية للمجتمع الأوروبي . و إذا فحصنا زهد المايويين في نصيبهم من تركة أكتوبر في منظور السلوك الجمالي، ساغ لنا الزعم بأن المايويين تبنوا جمالية الإسلام الوهابي لأنهم استشعروا فيها مخرجا براغماتيا من مسلسل الأزمات السياسية و الأخلاقية و الإقتصادية التي انزلقوا فيها بسبب ضيق افقهم الآيديولوجي و فساد تدبيرهم السياسي. فالإسلام السياسي على المرجعية الوهابية كان يعني بالنسبة للمايويين حل المشاكل الإقتصادية و السياسية العاجلة مثلما كان يعني انجاز المصالحة الوطنية مع خصوم الأمس[ حزب الأمة و الإسلاميين] و الإنتماء لهذا الكيان السياسي الكبير الوليد [ منظمة الدول الإسلامية ] الذي يتمتع بالبأس الروحي [ الإسلام] و المادي [ البترودولار] و الدعم السياسي الدولي [دول حلف الأطلسي] ، ناهيك عن المردود السياسي الشعبوي وسط جماهير المسلمين البسطاء في السودان الذين لابد ان يستحسنوا عودة القادة لحظيرة الدين .و هكذا استعاض المايويون عن يوتوبيا أكتوبر التي تعد بألف طائر "على شجرة" ، بجرادة البتروإسلام التي وضعها السعوديون في كف النميري . في هذا السياق يمكن عقلنة التظاهرات الدينية التي انتظمت سنوات النظام المايوي الأخيرة في المنظور السياسي السوداني [ مثل الإحتفاء الإعلامي بالبعد العقابي[ ترجم الإرهابي] للشريعة في "محاكم العدالة الناجزة" و تحطيم مخزون الكحول في احتفال طقسي شرفه رئيس الجمهورية و تعديل الدستور العلماني ليتوافق مع الشريعة الإسلامية لغاية اغتيال محمود محمد طه ]،كمحاولة لمعالجة الأزمة السياسية المحلية، لكن النظر للحالة السودانية من منظور جيوبوليتيك الشرق الأوسط يملك أن يتكشف عن أبعاد سياسية تتجاوز حالة السودان لتشمل معظم البلدان العربية والإسلامية التي كتب عليها الواقع الإقتصادي الجديد أن تعيد تنظيم شؤونها السياسية و الإقتصادية و الثقافية على ضوء المؤشرات التي يطرحها جيوبوليتيك الأزمة الإقتصادية العالمية.و في هذا المنظور يمكننا فحص التحولات المحلية و الإقليمية التي القت بظلالها على واقع السياسة السودانية .

7
الشعب في زمن الأسلمة

" كان ذاك زمان العودة من العروبة إلى الإسلام:
إذ بعد أقل من عقدين من الزمان العربي الذي اعقب هزيمة 1967 تبين للجماهير العربية أن الأنظمة العروبية التي وعدت الشعوب العربية بيوتوبيا التحرر والتنمية و الديموقراطية هي أنظمة زاهدة تماما في التغيير و التحرر ، وأن كل ما يهم سدنتها هو صيانة امتياز السلطة بشتى الذرائع ،بما فيها ذريعة تحرير الارض المحتلة..و قد لعبت مساعي المصالحة و التطبيع و التكييف التي باشرتها و تباشرها الأنظمة العربية الإستبدادية مع رموز الهيمنة في معسكر قوى رأس المال المتعولم[ الولايات المتحدة و اسرائيل] ، لعبت دورا كبيرا في ضعضعة رصيد الثقة العفوي القديم في الخطاب العروبي التحرري. و شرعت الجماهير العربية المحبطة تبحث عن مخارج أخرى. و في مشهد التراجع العام للمد العروبي التحرري انزلقت قطاعات شعبية واسعة من الجماهير العربية في يسر نحو القناعات الدينية المطمئنة التي كانت تمثـُل في الأفق الإجتماعي و الحضاري كآخر خط دفاع للجماعة العربية المسلمة. و من جهة أخرى باركت معظم الأنظمة العربية المحافظة ـ طوعا أو/ و جبرا ـ عودة الشعوب الحائرة لحظيرة الإيمان، غالبا ، على أمل السيطرة على كل من يدخل " الحظيرة" ، و هو "أمل "يسوّغه ، في خيال سلطة الدولة " المؤمنة " ، تقليد طويل في هيمنة الدولة على المؤسسات و الأجهزة الدينية. [ وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية ،الأزهر ، الجامعة الإسلامية ،مجالس العلماء و دوائر الإفتاء و القضاء و التعليم] .
هذه التحولات التي ادركت المجتمع العربي تزامنت ، في نفس الفضاء السياسي العربي الإسلامي الذي تناور داخله قوى سياسية وراءها مصالح طبقية متناقضة ،تزامنت مع الجهود المادية التي تبذلها قوى رأس المال المتعولم لصيانة وإحكام سيطرتها على مقاليد الأمر في منطقة الشرق الأوسط .و ضمن هذا المنظور يمكن فهم الظهور و التطور المتسارع لمؤسسات سياسية أسلامية نشطة ، مثل" منظمة المؤتمر الإسلامي "،[ أو" منظمة التعاون الإسلامي "] التي تعمل على نطاق إقليمي و عالمي و تخاطب المسلمين فيما وراء الجغرافيا السياسية و الإنتماء العرقي مثلما تخاطب العالم غير المسلم بوصفها قيّمة على كل المسلمين.
في نهاية الستينات طرحت الدوائر الإسلامية المحافظة في الشرق الأوسط مبادرة سياسية دولية بإنشاء" منظمة المؤتمر الإسلامي "، التي لم يكن احد يتوقع لها العواقب الجيوبوليتيكية الكبيرة التي ترتبت على ظهورها "المفاجئ". و يؤرّخ بعض المحللين لظهور" منظمة المؤتمر الإسلامي " أو " منظمة التعاون الإسلامي " كرد فعل لمحاولة إحراق المسجد الأقصي من قبل بعض الجماعات الإرهابية الصهيونية في اسرائيل. بل أن موقع المنظمة يقول :
"وقد أنشئت المنظمة بقرار صادر عن القمة التاريخية التي عقدت في الرباط بالمملكة المغربية يوم 12 رجب 1398 هجرية (الموافق 25 سبتمبر 1969) ردا على جريمة إحراق المسجد الأقصى في القدس المحتلة " [ انظر موقع المنظمة على الرابط:
https://www.oic-oci.org/home.asp

و
https://www.mbt.gov.qa/Arabic/Department ... IC-AR.aspx
https://4flying.com/showthread.php?t=75424
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=179783

"تعتبر منظمة التعاون الإسلامي ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم في عضويتها سبعا وخمسين (57) دولة عضوا موزعة على أربع قارات. وتعتبر المنظمة الصوت الجماعي للعالم الإسلامي "
و من التأمل في أدبيات المنظمة و لوائحها و مواثيقها لا يفوت على المراقب ذلك النزوع الصريح لأن تكون المنظمة الإسلامية بمثابة الوعاء لتخليق عالم إسلامي في مواجهة العالم غير المسلم . و " العالم غير المسلم "يمكن أن تقرأ" الغرب " فكأن الجماعة الإسلامية تستلهم النموذج العروبي البائد و تعيد صياغته بحيث تحل "الأمة الإسلامية " محل "الأمة العربية ". و إذا فحصنا الشكل التنظيمي العام للمنظمة فسنلاحظ مطابقته لنموذج "منظمة الأمم المتحدة "فكأنها "منظمة للأمم الإسلامية المتحدة" تتهيأ لإستقبال القرن الحادي و العشرين على هدي" شريعة إسلامية" ميد إن وهابيستان"، و لتحقيق هذا الهدف فالمنظمة تعمل على نشر مظلتها على مجمل أوجه الحياة الإجتماعية الإقتصادية و السياسية في مجتمعات المسلمين، بما فيها مجتمعات مسلمي العالم الأوروأمريكي نفسه. تقول الوثائق التأسيسية للمنظمة:
" وتواجه الدول الأعضاء في المنظمة تحديات متعددة في القرن الحادي والعشرين. ومن أجل معالجة هذه التحديات، وضعت الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي التي عقدت في مكة المكرمة في ديسمبر 2005 خطة في شكل برنامج عمل عشري يرمي إلى تعزيز العمل المشترك بين الدول الأعضاء ودعم التسامح والاعتدال والحداثة إحداث إصلاحات كبرى في جميع مجالات النشاط، بما في ذلك العلوم والتكنولوجيا، والتعليم، وتحسين مستوى التجارة. كما يشدد البرنامج على أهمية الحكم الرشيد وتعزيز حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، ولاسيما فيما يتعلق بحقوق الطفل، والمرأة، وقيم الأسرة المتأصلة في الشريعة الإسلامية."

لكن نزاع الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط كان، فيما وراء إشكالية الإسلام السياسي ، يعبر عن نفسه أيضا من خلال جيوبوليتيك النفط الذي يتجاوز الجغرافيا العربسلامية ليعانق واقع جغرافيا العولمة .
. و داخل هذا التشبيك المحلي و الإقليمي الدولي ، تنمو العلاقات بين الفرقاء و تتطور بجاه البترودولار و بمباركة دوائر رأس المال المتعولم [و تحت حراسة قوات الناتو]،و في هذا السياق يلحظ المراقب النوعية السياسية للتراتب المبني على القوة الإقتصادية أو العسكرية للدول الأعضاء . و داخل هذا التراتب يمكن لدوائر رأس المال تعريف قنوات و سلاسل القرارات المصيرية التي تمس حيوات المجتمعات المسلمة من القمة للقاعدة [ من السعودية و الأمارات و إيران في قمة الهرم لموريتانيا و السودان و السنغال في قاعدته ].فكأننا بسبيل نسخة إسلامية من العالم يهيمن عليها الحلفاء المحليين بشكل مواز و متضامن مع نسخة العالم الآخر، العالم غير الإسلامي الذي يهيمن عليه سدنة رأس المال. هذا العالم الإسلامي المقابل، و قيل المضاد، لـ " العالم الأخر " لا يرى " العالم الآخر "غير الإسلامي إلاّ ،وفق التصنيف الـ " الهنتينغتوني " لـ " صدام الحضارات " ، كعالم قائم على النموذج " الغربي" [ إقرأ: النموذج الأوروأمريكي المهيمن ]. و هي رؤية تبسيطية تلغي التنوع الثقافي داخل المجتمعات المسلمة ، من جهة، مثلما هي ، من الجهة الأخرى ، تستبعد من العالم الواقعي الذي يعيش فيه المسلمون كافة التكوينات الإجتماعية و الثقافية الأخرى التي تقيم خارج فضاء النموذج الأوروأمريكي. [ كمجتمعات الصينيين و الهنود و الأفارقة و الهندوأمريكيين ]. هذا الموقف يمسخ المسلمين ككيان معاكس و مكمّل في آن للمجتمع الأوروأمريكي، و يربط مصائر المسلمين بمصير الأورأمريكيين بشكل يقطع الطريق أمام المسلمين فيما لو عنّ لهم استكشاف دروب مغايرة في التحقق الحضاري.. داخل هذه النسخة الإسلامية الضيقة للعالم الأوروأمريكي يسهل عزل المجتمعات الإسلامية و مراقبتها و ضبط حركتها بغرض السيطرة عليها و دمجها ككلية بشكل حاسم في بُنى العولمة الرأسمالية. داخل هذا العالم الإسلامي الموعود بصفات " التسامح " و "الإعتدال" و " التحديث "، وفق النسخة الإسلامية الشرعية للديموقراطية، و انسجاما مع النسخة الإسلامية الشرعية لحقوق الإنسان،تكتمل صورة اليوتوبيا الإسلامية التي لن يكون فيها مكان للفوضى و الفتنة و الإحتجاج ، ففقهاء منظمة التجارة الدولية ، عبر نسختها "الإسلامية"، سيتكفلون بضبط كل شيء ،من فقه بيع السمك في البحر لفقه جريان الربا في معاملات البنوك الأسلامية لفقه امتهان التصاوير، و لن يكون هناك مكان للتعصّب الديني، لأن فتاوى التسامح و الإعتدال ستسود بجرة قلم ،فخير الأمور أوسطها، " و جعلناكم أمّة وسطا " [ البقرة ]،عندها سينقضي زمن الإرهاب و الحرائق و الحروب فيرد الفقراء أسلحتهم للسلطات و " يسكن الذئب مع الخروف و يربض النمر مع الجدي" .." و الأسد كالبقر يأكل تبنا و يلعب الرضيع على سرب الصّل و يمد الفطيم يده على جحر الأفعوان .." [ العهد القديم،الإصحاح الحادي عشر ، أشعياء] باختصار سيصبح العالم الإسلامي جنة الله في ارضه .طبعا لا أحد يتساءل عن مصير الأقليات غير المسلمة في هذا العالم المسلم الخالص من الشوائب!
كل هذا الإستطراد يتنائى بنا عن موضوعة" الشعب" في مشهد تخلـّق الجمالية السودانية الحديثة، و لكنه تنائي ضروري لرؤية موضوعة" الشعب" السوداني في علاقتها بالسياق الأوسع لواقع صراع طبقات زمن العولمة.فـ "الشعب السوداني" يصبح هنا طرفا أصيلا في منظومة شعوب عديدة متوازية متضامنة على قسمة وحدة المصير التاريخي. هذه الشراكة المتوقعة بين الشعوب الطامحة للعدالة، في مقام متجاوز لمناظير رأس المال، هي التي ترسم ملامح اليوتوبيا الجديدة التي ستلهم شعوب المستبعدين إختراع الثورة على مقاييس العالم الجديد. هذه المرة لن نكتفي باستشراف جفرافيا لـ " الناس في غابات كينيا و الملايو و باندونغ الفتية" و لكننا سنوسع قائمة تاج السر الحسن لتشمل جملة "الناس" المستبعدين في شعاب غابات الأسمنت التي شيدها رأس المال في حواضر المجتمع الأوروأمريكي نفسه. هذا الطموح الذي نتوقعه لموضوعة الشعب يطرح افقا جماليا يليق بعواقب العولمة و يستثمر امكاناتها المادية و الرمزية بما يموضع " الشعب السوداني" في منظور يوتوبيا التضامن الشعوبي المعولم.
هامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أثناء المفاوضات بين سلطات النظام الجديد قبيل مواجهة الجزيرة ابا [ مثل الحكومة ابو القاسم محمد ابراهيم و فاروق حمد الله و يوسف أحمد يوسف، ومثل الإمام الهادي كل من اللواء م أحمد عبد الله حامد و السيد عبد الرحمن محجوب و السيد الفاضل محمد بشير سكرتير الإمام و العمدة شرف الدين عمدة الجزيرة أبا ] . " جاءت مطالب الإمام في ست نقاط
:1ـإزالة الواجهة الشيوعية للنظام
.2ـ الإفراج عن الصادق المهدي أو تقديمه للمحاكمة لمواجهة التهم المقدمة ضده، إن كانت هناك تهم
.3ـ الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين أو تقديمهم للمحاكمة
.4ـ إعادة الحياة النيابية و إجراء استفتاء عام على مسودة الدستور الإسلامي.
5 ـ عودة الجيش إلى ثكناته.
6ـ منع التدخل الأجنبي "
.أنظر " مجزرة الجزيرة أبا، الهجرة و أحداث الكرمك 1970"، د. الصادق الهادي المهدي،،ص 21.1991.
[2]
. و يلخص كل من مايكل هاردت و أنطونيو نيغري في كتابهما المشهود " الإمبراطورية"، أزمة السبعينيات كنتيجة منطقية لمحدودية افق معاهدة بريتنوودز عن استيعاب التطورات الإجتماعية للعالم المعاصر.
:
" و حسب مؤتمر بريتنوودز، نيوهامبشير، لعام 1944 ، ينهض الإقتصاد العالمي على ثلاثة عمد أولها الهيمنة الإقتصادية الشاملة للولايات المتحدة على منظومة البلدان غير الإشتراكية. و هي هيمنة يدعمها الخيار الإستراتيجي لتنمية ليبرالية اساسها حرية نسبية للتبادل التجاري و صيانة الذهب، الذي تملك الولايات المتحدة ثلث إحتياطيه العالمي، كضمانة لقوة الدولار. و ثانيها في ضرورة تثبيت قيم المعاملات المالية بين الولايات المتحدة و بقية البلدان الرأسمالية[ أوروبا أولا ثم اليابان] المهيمنة على مجمل المناطق التي كانت واقعة تقليديا تحت نفوذ الإمبريالية الأوروبية،".."و تمويل الإصلاح الإقتصادي في البلدان الرأسمالية المهيمنة، ماليا من فائض صادرات الولايات المتحدة، و التي يضمنها النظام المالي المرتبط بالدولار.و في النهاية فإن معاهدة بريتنوودز فرضت تأسيس علاقة شبه رأسمالية بين الولايات المتحدة و بقية البلدان غير الإشتراكية.لقد اضحت التنمية الإقتصادية في الولايات المتحدة و الإصلاحات الإقتصادية في أوروبا و اليابان كانت كلها تحت الضمانات الأمريكية بحكم أن الولايات المتحدة كانت تراكم فائض الأرباح الأمبريالية من خلال علاقتها بالبلدان التابعة لها.إن نظام الهيمنة المالية الأمريكية كان تدبيرا جديدا غير مسبوق في منظور التاريخ : ذلك أن ضبط النظم المالية السابقة كان ـ كما هو الحال عند البريطانيين ـ كان في يد المؤسسات المصرفية و المؤسسات المالية الخاصة، فإن معاهدة بريتنوودز منحت سلطة ضبط النظم المالية لمجموعة من المنظمات الحكومية و الدولية و في طليعتها الإحتياطي الفدرالي الأمريكي و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي. و هكذا صار من الممكن عقلنة التدبير المالي لـ بريتنوودز باعتباره التعبير النقدي و المالي لهيمنة نموذج الـ " نيو ديل" الأمريكي على مجمل الإقتصاد الرأسمالي العالمي. و قد أدّت الآلية الكينيزية و شبه الإمبريالية لنظام بريتنوودز بالجميع لمسد الأزمة العالمية حين شرعت حركة النضالات العمالية المطلبية في أمريكا و أوروبا و اليابان في رفع تكلفة تثبيت الأسواق و اصلاح الإقتصاد ، فضلا عن مساهمة حركة النضال المعادي للإمبريالية و المناهض للرأسمالية، في المجتمعات موضوع الهيمنة الأمبريالية، في عرقلة آلية استغلال الموارد و مراكمة الأرباح.و مع العطل الذي أدرك الآلة الإمبريالية و تفاقم ضغوط النضالات العمالية بدأ الميزان التجاري الأمريكي يميل بثقله نحو أوروبا و اليابان. و هكذا بدأت المرحلة الأولى من الأزمة المتصاعدة في التمدد بين بداية و نهاية الستينيات.و بما أن ضوابط معاهدة بريتنوودز جعلت الدولار غير قابل للتبديل ، فقد انطبع التداول المالي للإنتاج و التجارة الدولية بمرحلة تتميز بتبادل حر نسبيا للرساميل، و بتأسيس سوق أوروبي قوي للأورودولار و بتثبيت شراكة سياسية في مجمل البلدان المهيمنة تقريبا.
[مايكل هاردت و انطونيو نيغري، الأمبراطورية، 2000.
Michael Hardt & Antonio Negri, Empire, Editions EX*xils Editeur
]



سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

السحر

مشاركة بواسطة حسن موسى »

محمد جمال الدين كتب:الهاشمي.. إليك و سلام عليك

ما عندي إجابة هسا وكمان تاني جاي بسؤال جديد: ممكن زول يشرح لينا شنو "لحظة سحرية من عمر التاريخ" بالزبط؟.
من كلام حسن موسى الآتي نصه: (و قد التقط الفنانون و الأدباء و الشعراء الأكتوبريون هذه اللحظة و صنعوا منها ذلك الأدب الاكتوبري الجليل الذي ما زال يغذي حركات الاحتجاج الشعبي ضد عسف السلطات الاستبدادية.لقد ظلت يوتوبيا الحرية على الدوام في قلب المشروع الحداثي، و حين طمح الشعب للحرية كغاية سامية فهو لم يتحسب لما سيجري و لم يستبق الأحداث ببرنامج للمقاومة بعد الحصول على هذه الحرية،ذلك لأن الدينامو الذي كان يغذي تمرده كان يستمد حيويته من طاقة الإستهجان العفوي لهؤلاء الاشتات الذين صاروا شعبا في لحظة سحرية من عمر التاريخ السياسي السوداني).

توضيح السؤال: هل هو تاريخ كل شعوب السودان حقاٌ وفعلاً أم هو فقط شعب الوسط النيلي "العربسلامي"؟. مثلاً هل كان ناس شعوب الجنوب والبجا والنوبة والإنقسنا وناس جبل دار فور معانا "نحن" ناس الوسط النيلي ولا برانا؟. عشان نعرف سحرية* إلى أي مدى والصراع الطبقي وين!.

* السحر ما كويس، لأنه في باب الشعر والشعر من الشيطان :).











سلام يا محمد جمال الدين
وصفت لحظة أكتوبر بكونها لحظة سحرية من عمر التاريخ لأنها في نظري [ الضعيف؟] من اللحظات النادرة التي تلاقى فيها الأضـّاد و أجمعوا على عمل مشترك. و لو شئت قل هي " لحظة لينينية " سامية من عمر التاريخ السياسي السوداني، و اللينينية عندي هي ضرب من السحر السياسي لا يقوى عليه سوى أهل الخيال و العزم. أما سؤالك عن معنى الحرية فأنا لا أدري كيف أشرح لشخص مثلك ما معنى " الحرية " بالزبط؟ يا محمد جمال إنت زمان لمن شلت بندقية و مشيت تقاتل في قوات التحالف كنت بتحارب منو و عشان شنو؟ :-?
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

من الشعب المسلم للشعب الإسلامي

مشاركة بواسطة حسن موسى »




من الشعب المسلم للشعب الإسلامي
الأزمة الإقتصادية للسبعينات حفزت شعوب البلدان الشرق اوسطية الفقيرة على الهجرة الواسعة نحو بلدان النفط التي كانت تستشرف آفاق تنمية إقتصادية جديدة، هذا الواقع أدى لتخلق أنثروبولوجيا جديدة لحيوات المجموعات الوافدة ، من مجموعة الشعوب العربية و/ أو الاسلامية المتنوعة، لتتشارك الحياة في ظل شروط إقتصاد الهجرة في بلدان النفط . في هذه المجتمعات المتحولة بسرعة بدأت تتكون ملامح مجتمع اسلامي جديد متحول ضمن شروط الحياة الحديثة التي طرحت على المسلمين اشكالية تعريف الأبعاد الرمزية لهذا الواقع المادي الذي يجسد نمط حياة مغايرة لما ألفوه في بلدانهم. واقع يخترع قوانينه و ثقافته الجديدة كل يوم بشكل غير مسبوق . هذا المجتمع الجديد الذي اصبح يحيا في شروط يسر مادي كبير ،يتناقض مع نمط الحياة المتقشفة الفقيرة التي سادت بلدان الشرق الأوسط في النصف الأول من القرن العشرين، هو ايضا مجتمع مسلم يحيا ضمن جيوبوليتيك نهاية " الحرب الباردة"، التي هيأت المجتمعات المسلمة في الشرق الأوسط لمرحلة صعود الإسلام السياسي المسلح بالبترودولار و بجاه المنظمات الدولية المنافحة عن مصالح رأس المال المعولم[ من صندوق النقد الدولي،لـ البنك الدولي، منظمة التجارة الدولية،و منظمة دول حلف شمال الأطلسي لغاية منظمة المؤتمر الإسلامي إلخ].و من وقت مبكر تنبهت السلطات العربسلامية في بلدان البتروإسلام لأن هذا الكيان الجديد يحتاج لضوابط و موجهات تعرّف هويته و غاياته و تؤمنه ضد أنواع التحولات الثقافية و السياسية التي يمكن أن تشكل تهديدا للأسس التي انبنت عليها علاقة دولة البترودولار بالمجتمع الجديد المتكون من توازن ديموغرافي حرج بين المواطنين و الأجانب .و في هذا السياق انطرح الدين كوعاء آيديولوجي و تنظيمي يمكن السلطات السياسية من إحكام قبضتها على هذه الأشتات العرقية و الإجتماعية التي يلتئم شملها في الإسلام .و قد تم استخدام الدين كأداة ذات كفاءة سياسية عالية لتخليق الاشتات المهاجرة و ضبطها ككيان إجتماعي متماسك يمكن أن يصير شعبا مسلما يتوحد حول مصالح مصيرية مشتركة. لكن مشروع تخليق الشعب المسلم يطرح جملة من المخاطر السياسية على سلطات البترودولار و المؤسسات الإقليمية و الدولية التي تقف خلفها.و هي مشاكل تتأتى من التناقض المبدئي بين موضوعة" الشعب" و موضوعة" الدين " كوعاء اجتماعي. فموضوعة "الشعب"، كمضمون سياسي، هي موضوعة حداثية، تصطحب معها جملة من مفاهيم ثقافة رأس المال ، كحرية التبادل التجاري و حرية إنتقال السلع وحركة العمالة العابرة للحدود، و التي لا تبالي بضوابط الجغرافيا القومية ولا بضوابط الجغرافيا الدينية لمجتمع ماقبل رأس المال ،تلك الجغرافيا البائدة التي كانت ترسم حدودا آيديولوجية بين " دار الإسلام" و ما عداها [ "دار الحرب" في رواية]، و موضوعة الشعب تجلب معها مفهوم " الديموقراطية" ، حكم الشعب، الذي يشرعن لسلطة الدولة على أساس مفهوم" سيادة الشعب" و ما يترتب على ذلك من مفاهيم" المواطنة" التي تفترض المساواة في الحقوق و الواجبات بين المواطنين ، بصرف النظر عن إنتماءاتهم الدينية أو العرقية. لقد حاول العروبيون، على مدى ثلاثة عقود، [ من عبد الناصر لصدام حسين للقذافي...]، حاولوا تثبيت دينامية عروبية على مفهوم " الشعب العربي " أو " الأمة العربية" من الخليج إلى المحيط.و ذلك على مزاعم إستعادة الماضي العربي المجيد المفقود منذ سقوط الأندلس. و قد ساعدهم واقع " الحرب الباردة" على استثمار القضية الفلسطينية[ تحرير الأرض العربية في فلسطين من قبضة الصهيونية و الإمبريالية ] لإستقطاب دعم سياسي من شعوب البلدان العربية ، لكن هذا الحراك العروبي انمحق و ذبل ذلك، من جهة أولى، لأن السلطات العروبية انتفعت به في مصادرة الديموقراطية و تثبيت أركان الإستبداد بذريعة أن " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و من جهة ثانية ، لأن الواقع السياسي الدولي للحرب الباردة لم يكن مستعدا لقبول مشروع التحرر القومي العربي،و هو مشروع مشروعيته الأخلاقية ملغومة بواقع هيمنة أنظمة الإستبداد و انتحال سدنتها حق القوامة عليه و إقصاء الشعوب العربية عن مواقع المبادرة . لقد كان غزو صدام حسين للكويت بمثابة الفصل الأخير في تراجيكوميديا المشروع العروبوي الرسمي. لكن الحساسية التحررية لمجموعة الشعوب العربية ما زالت حية، ربما لأن الاسئلة التي طرحها سقوط النسخة القومية العربية لمشروع التحرر في بلدان العرب، ما زالت تؤرق الخواطر بين جماهير البلدان العربية.و اليوم بعد رحيل دعاة مشروع" أمة عربية من الخليج إلى المحيط "، دخل الحلبة الشاغرة، دعاة الإسلام السياسي بمزاعم بعث أمة إسلامية واحدة، نواتها الآيديولوجية في النسخة المؤمركة من الـ " نيو" إسلام " المعتدل" [ بعد 11سبتمبر!] و قاعدتها المادية في البترو دولار و مركزها السياسي في منظمة المؤتمر الإسلامي و سندها العسكري الإستراتيجي في قوات حلف الأطلسي. هذه الأمة الإسلامية المتماهية مع واقع العولمة ،تعرّف جغرافيتها السياسية فيما وراء حدود الدولة القومية التي ورثتها الشعوب المسلمة من واقع الإلحاق السياسي لنسخة الحداثة الرأسمالية الأوروبية، و تطرح نفسها كطرف أصيل في كل ساحات الصراع الطبقي المعولم في أفغانستان و الباكستان و العراق و اليمن و مصر و ليبيا و السودان و الصومال و كينيا و مالي و الجزائر و المغرب صراع الطبقات المعولم السياسي الأفغاني مثلما تطرح نفسها كطرف أصيل في مشهد المنازعة الطبقية للمجتمعات الأوروأمريكية و عن البحر فحدث و لا حرج. أول صعوبات السلطات الإسلامية الطامحة لتوطين فكرة "الشعب" في الأرض الآيديولوجية التي ورثها دعاة الإسلام السياسي من العروبيين تتمثل في الطبيعة المُعَوْلِمة للإسلام السياسي الذي يتجاوز مفهوم سيادة الشعب داخل الكيان الوطني ، كما خلـّقتها ملابسات صعود الدولة الوطنية في تاريخ المجتمعات المسلمة الحديثة . هذا الإسلام السياسي لا يبالي بالحدود الوطنية و لا يقيم وزنا لإعتبارات السيادة الوطنية، ربما لأنه ولد من سفاح طبقة وسطى متأسلمة مع غول رأس المال المتعدد الجنسيات على فراش السوق الكبير. و هو أشبه ما يكون بمسخ من شاكلة " كينغ كونغ " عملاق أعمى ضائع بلا دليل في تيه العولمة المعادي، فلا يدري اي وجهة يسلك .و ربما وجد إهمال الإسلام السياسي لفكرة الدولة الوطنية القائمة على مفهوم سيادة الشعب، بعض من تفسيره في كون هذا الإسلام السياسي لم يخبر تجربة الدولة عبر تاريخه القصير نسبيا. فمعظم الكيانات السياسية الوطنية المهمة في الشرق الأوسط بنت دولتها على ميراث حركة التحرر الوطني من الإستعمار، و الدولة فيها تمثـُل كخلق سيادي قاعدته و ضمانته هذا الشعب الوطني الذي ناضل و قدم التضحيات من أجل الإستقلال ، و ذاكرة حركة التحرر العربي من الإستعمار تحفظ مآثر الشعب المصري و الشعب الجزائري و الشعب الليبي و الشعب المغربي و الشعب السوداني و الشعب العراقي إلخ .. كايقونات سامية لأنثروبولوجيا حركة التحرر الوطني من السيطرة الإستعمارية للأوروبيين .أما في بلدان البتروإسلام فالكيانات السياسية القابضة على السلطة تعمل ضمن أنثروبولوجيا سياسية فريدة في نوعها، فالسلطة و الثروة تتركز في يد أقلية تدبر التوزيع على منطق النموذج السياسي الأبوي [ البطرياركي] قبل الراسمالي، فالشيخ أو الأمير يتمتع بنوع من شرعية سياسية مزدوجة، تقليدية و حداثية ، كونه ، من جهة أولى ، يستمد شرعيته السياسية من نظام " البيعة" العشائرية التقليدية التي تبذلها الرعية للراعي على مزاعم عرقية أو/ و دينية. و من جهة ثانية فهذا الراعي القيم على مصادر الطاقة الحديثة يستمد شرعية سياسية دولية مفبركة من واقع الإعتراف و الدعم المادي و الرمزي الذي تبذله له قوى رأس المال المعولم مقابل الضمانات التي يبذلها لها هذا الراعي الخارج من القرون الوسطى لتأمين استمرارية وصول النفط و الغاز لمجتمعاتها بأسعار زهيدة .
و في هذا المشهد يملك شعب الاشتات المقيمة في ماعون البتروإسلام أن ينفتح على أكثر من إحتمال.فهو ، من جهة أولى، يملك أن ينمسخ قنبلة زمنية آيلة للإنفجار في أي لحظة، حسب تطور ملابسات الصراع الطبقي الشرقأوسطي، و محاولات " القاعدة " و " داعش" و "النصرة"و " الحوثيين" و" بوكوحرام" تستحق التأمل من حيث كونها تطعن في الشرعية الدينية و السياسية و الأخلاقية للسلطات القابضة على الدولة في مجتمع المسلمين،و تطرح إجتهادها رؤيتها الإسلامية كبديل في ساحة الصراع الإجتماعي . و من جهة ثانية فإن شعب الأشتات المسلمة في بلاد البترودولار يملك ايضا أن أن يصير بوابة للإنتقال السلمي بالمجتمع الإسلامي المعاصر نحو مقام التحرر و الإنعتاق من هيمنة قوى رأس المال المعولم. ومفاتيح الإنتقال السلمي بشعوب المجتمع المسلم نحو مقام الحرية و الديموقراطية و النهضة هي اليوم في يد الرعاة القائمين على السلطة السياسية في مجتمعات البترودولار. لكن حيازة المفاتيح لا تعني بالضرورة أن الراعي حامل المفتاح يرغب في فتح الباب، لأن المسألة، في نهاية التحليل، تتوقف على نوع المصالح الطبقية، المادية و الرمزية، التي يمكن أن يجنيها هذا الراعي المسلم من فتح باب الحرية و الديموقراطية أمام الرعية المسلمة.و من يتأمل في مشهد المنازعة الطبقية الدائرة في مجتمعات البترودولار المعاصرة يفهم بسهولة أن الرعاة الراهنون يعملون لدنياهم كأنهم يحيون أبدا و قوات رأس المال المعولم ساهرة على حمايتهم من وحش الشعب النائم أو/و المتناوم!.
هذه التعريجة على شعب الاشتات المقيم في بلاد النفط ضرورية لتفهم الإنمساخات التي طرأت على مفهوم الشعب ضمن المشهد السياسي السوداني، فالجموع المهاجرة المتحركة ابدا بين السودان و مجتمعات البترودولار تخلق أنثروبولوجيا جديدة لظاهرة الهجرة، ضمنها تعاد صياغة مفاهيم الوطن و الشعب و الهوية و العقيدة و الفن و الأدب و الحب إلخ.. على ضوء تأثيرات ثقافية جديدة أصولها موزعة بين محاور الوطن و المهجر و مراجع ثقافة العولمة.
قالوا ـ في " فيسبوك" أن أحدهم سأل صديقه:
" يا فلان، ما هي أجمل مدينة في السودان؟".
فرد الصديق، دون أن يرفع عينه عن هاتفه:
" جدة طبعا"َ!
سأعود
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

حسن سلامات

شكراً للوقوف على تساؤلاتي مع أن خطتي المبدئية أن تكون مشاركتي كما أسئلتي السابقة واللاحقة للعموم including me
وهدفي المتواضع من هذا النهج أن نقيم "نحن الآخرين" نقاش مستقل على هامش تفاكيرك في هذا البوست المهم عندي دون أن ننأى عنها "التفاكير" لكن أيضاً دون ندخل في جدال debate مباشر معاك لمصلحة تراسل أفكارك وتفاكيرك والتي منها ننطلق في مقاربة جديدة لجمالية الشعب محل النظر.

وح أجيك لقدام من أجل السحرية والحرية والتضحية والشهادة وأكتوبر 1964 وسبتمبر 2013 (فيه دماء كتيرة) والشهر الآخر أبريل 1985.. وهدفنا "الشعب" طبعاً وسحره!.

وكل كريسماس وسيلفيستر وأنتم بخير تلقونه لقية أو تصنعونه كفاحا.


أضف رد جديد