المسور بالهواجس ـ المتحصن بالريبة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
يحيى فضل الله
مشاركات: 183
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:22 pm

المسور بالهواجس ـ المتحصن بالريبة

مشاركة بواسطة يحيى فضل الله »




تداعيـــــــــــــات
يحيي فضل الله

ابراهيم المسور بالهواجس .. المتحصن بالريبة


طرق علي الباب، جمع ابراهيم الاوراق التي امامه بسرعة، ازاح السرير قليلا، رفع البلاطة التي هي تحت السرير، وضع الاوراق داخل المساحة التي تحتلها البلاطة مخفية ذلك التجويف الصغير، ارجع البلاطة الي مربعها، راجع الموقف بعناية مكثفة، اعاد السرير الي مكانه، كانت هناك ورقة انفلتت من بين الاوراق و استجابت بتلقائية لتيار الهواء الذي تحدثه المروحة فتحركت نحو تلك الزاوية من الحجرة، طرق علي الباب، اسرع ابراهيم بالتقاط الورقة الصغيرة، طبقها ووضعها في جيب القميص، خرج من الغرفة وهو متجه نحو الباب الذي امتص طرقة مصرة و توحي بأنها الاخيرة، غير ابراهيم رأيه في وضع تلك الورقة الصغيرة، انحرف نحو الحمام، رفع طوبة علي شباك الحمام، وضع الورقة الصغيرة وارجع الطوبة الي مكانها، فتح الباب
" ازى الحال "
"آهلا وسهلا، أتفضل "
"لا، معليش مستعجل شويه "
" كدي قول خير "
" لا معليش - خير السيد بقول ليك بكرة تجي تتغدي معاهو"
"شكراً جزيلاً "
"طيب مع السلامة "
تابع إبراهيم ذلك الشاب بنظرات مريبة، هم في داوخله "غداء،أيوة جميل " .أغلق الباب، أخذ من الشباك، شباك الحمام الورقة الصغيرة بعد أن رفع الطوبة التي كانت تخفيها و أرجعها ألي مكانها، وضع الورقة في جيب القميص، دخل الحجرة، تناول تلك المفكرة الخضراء، تناول القلم، كتب علي المفكرة "خير السيد يدعوني للغداء، الأمر مريب جداً، لابد من التعامل الحذر مع هذه الوليمة، اعتقد أنها وليمة مفتعلة، هذه الدعوة لا تخلو من عناصر مؤامرة، ترى لماذا يدعوني أنا بالذات؟ لابد من الحذر" .
أغلق مفكرته و ابتسم ساخراً، أخرج تلك الورقة الصغيرة من جيب القميص، فردها بين أصابعه وقرأ بصوت مشحون وعميق : - " لو لقيت السلطة مره كنت وزعت الفنادق لي محمد وعيسى واقرع
كنت فتحت المطاعم لي كل جايع حلمو يشبع"
ضجت في الداخل منه الهواجس، انتابه ذلك الخوف الأليف و المعروف، أزاح السرير من مكانه، رفع تلك البلاطة، أخرج الأوراق من ذلك التجويف، تردد، ارجع الاوراق ألي مكانها،البلاطة ألي مربعها، السرير ألي مكانه نظر ألي تلك الورقة الصغيرة، دار في الحجرة حتى وجد علبة الكبريت جلس علي الكرسي، أشعل عود الثقاب وقربه من الورقة الصغيرة المعلقة بين إصبعيه، اشتعلت الورقة وتحول ذلك البياض ألي سواد، نفخ من أنفاسه علي ما تبقي من لهب فتنناثرت الورقة المحروقة ألي نفايا سوداء بعثرها هواء المروحة علي جميع أنحاء الغرفة، حاول أن بتذكر ما كان مكتوباً علي الورقة، لكن، ذاكرته لم تستطع أن تتجاوز الجملة الأولى فقط، كأنه بحرقه تلك الورقة الصغيرة قد حرق أيضا ما تعلق منها بالذاكرة .

كما يفعل الكثيرون كل صباح كان إبراهيم يفعل، يمارس ذلك الانتظار المحتوم، انتظار الحافلات و البصات و البكاسى الكاشفة، يقف بحذر بعيداً عن جمهرة المنتظرين علي الطريق، يكتفي بالرد علي التحايا، كانت ردوده الحاسمة تضايق الكثيرين من سكان الحي الذي يسكن فيه بالإيجار، يسكن وحيداً، لا يختلط بالسكان مهما كان الأمر، مرتاباً في كل التفاصيل، إحساسه المكثف بأنه مراقب يتحكم في كل خطواته، هذا الصباح استيقظ مبكراً حتى يحظى بوسيلة مواصلات تجنبه نظرات الناس التي عادة ما يفسرها إبراهيم علي طريقته الخاصة، ركض هنا وهناك محاولاً أن يجد مقعداً علي إحدى الحافلات دون جدوي، دون جدوي كان إبراهيم يحاول دائماً الهروب نحو ذاته، يغلقها عليه، لا يسمح مطلقاً باقتحام عالمه ذلك العالم المسور بالهواجس و المتحصن بالريبة .
في هذا الانتظار الصباحي المألوف، يقف إبراهيم علي الشارع، ليس وحيداً كما كانت رغبته، يتناثر أولئك البشر علي الشارع كأنهم يتصيدون مواعيد خروجه، يتحرك هنا وهناك محافظاً علي ذلك الابتعاد، يثرثر في داخله "يقصد شنو حامد سيد الدكان لمن قال لي وين يا أستاذ إبراهيم ما ظاهر، والله كويس، ما ظاهر يعني شنو؟ بعدين أستاذ إبراهيم و الله كويس، من متين قاعد يقول لى يا أستاذ، لا، وبعدين مالو ومالى اظهر و لا اختفي، يكون لاحظ أنى ما قاعد اشترى منو حاجة بعد الحادث الأخير، ما هو ده حادث لا يمكن يمر بدون تحليل، هم البشر ديل يفتكروا انهم أذكياء خالص، ثم انو العلاقة البينى وبينو ما نتسمح ليهو مطلقاً يسألني السؤال الغريب ده، ما في حاجة بتخليهو يقول لى عاملين كيف انتو الموظفين مع السوق و الغلاء، داير يجرجرني في الكلام والله عال، لكن حسمتو ليك حسمة حارة وبعد داك وقفت معاهو التعامل لانو بعد شويه حيقول لى كوكادام وحقوق الإنسان وميزان المدفوعات،أهلا وسهلاً، كوته السكر، صندوق النقد الدولي،و الخطة الإسكانية ولندن قالت و الإيقاد، فترة المنوعات والتلفزيون امبارح وشويه شويه يجرجرني في الكلام، لكن قول ليهو تلقاها عند الغافل، عليكم السلام، ما خلاص سلمنا، مالك بتعاين لى كده .. أها ..ده ألما بنفع، الواحد يسلم عليك ويبتسم زي التقول صاحبك ليهو زمن، الاختراق يبدأ كده، سلام و ابتسام وبعدين تلقي نفسك بقيت ولوف، ولوف جداً، اهو الولف ده هو البودى في ستين داهية " .
هكذا كانت دواخل إبراهيم تثرثر، فكر في الخروج من هذا الانتظار ومن إحساسه المكثف بالرقابة و المراقبة، تحرك ألي الناحية الأخرى من الشارع مفكراً في أن يركب الحافلة المتجهة إلى اخر محطة ليعود بها هي نفسها، هكذا، كي تتحرك ألي الأمام لابد أن تذهب ألي الخلف وأن تدفع أجرتين ذهاب وإياب وأن عليك أن تمارس نفس ذلك الانتظار فالحافلات و البصات مكتظة بالبشر في الحالتين، أخيرا وقفت حافلة نزل منها بعض الركاب، صعد إبراهيم ألي الحافلة، جلس علي مقعد خال بعد أن مسح كل الموجودين في الحافلة بنظراته المرتابة، طرقع الكمساري بأصابعه في وجه إبراهيم، أعطاه ابراهيم النقود قائلاً بصوت حاسم ونهائي :"ماشي وجاي " .
" الحافلة دي ما راجعة " . قبل ان يمتص إبراهيم الصدمة تدخل أحد الركاب منفعلاً : -
" ما راجع كيف يعني ؟ "
،، ما قلنا ما راجعين،الله،، تدخل السائق
" هو شنو على كيفك "
" ومال علي كيف منو ؟ "
" انتو شغالين علي كيفكم "
" ايوه علي كيفنا - عندك اعتراض ؟ "
" ايوه عندي مليون اعتراض "
"خلاص اتصرف "
" ايوه بتصرف "
" يا ابن العم ما تصرف عربي كثير، الحافلة دي ما راجعة .. يعني ما راجعة "
" راجعة "
" ما راجعة "
" راجعة "
" ما راجعة "
" خلاص ودينا الخيمة "
" الخيمة دي ما محطة يا ابن العم "
" ما تحاول تزوغ "
" هو شنو أزوغ ولا ما أزوغ … أنت مأجرني ؟ "
حين كان هذا الحوار متدافعا نحو ذلك الشجار الذي عادة ما يحدث بين سائقي الحافلات والركاب، كان إبراهيم قد لجأ الى تفسيراته الخاصة التي من خلالها اتخذ موقف ذلك الصامت المحايد وهو يعرف تماما أن من مصلحته ان ينأى عن كل ما يزج به في موقف أو حدث تكون نتائجه كشف ذلك العالم الذي يصونه من الاختراق والكشف .
" يا سلام، أكيد مشكلة مفتعلة، كل المقصود انو أنا ادخل في المشكلة عشان بعد داك ممكن جدا أتعرض لي سين وجيم، وبعدين ده مالو منفعل كده ؟ ما أنا المفروض أناقش الموضوع ده، بعدين أنا ملاحظ السواق لما أتكلم مع الأخ المنفعل ده بعاين لي أنا، لا كويس .. والله دي مشكلة معمولة مخصوص عشاني أنا، هم متوقعني أناقش أزمة المواصلات أقوم أشطح واحلل ليهم مسألة إنو كيف إنك عشان تمشي قدام لازم ترجع ورا، وانو الزمن مهدر في البلد بسبب ازمة في التخطيط، وإنو الحملة بتاعة الإحصاء الأخيرة بدون نتائج حقيقة … لأنها مجرد محاولة لكشف ورصد الناس داخل البيوت، وما بعيد يكون في واحد مدسوس، وعندو جهاز تسجيل عشان كلامي يكون مثبت وموثق، لكن وين …. يلقوها عند الغافل . "
عادة ما تنتهي مثل هذه المشاجرات بنهاية مفتوحة، وعادة ما يتخلى أحد طرفي المشاجرة عن كل تلك الانفعالات بعد أن يتدخل الوسطاء الطيبون محيلين المسألة برمتها إلي مبدأ الصبر وتلك العجلة التي هي من الشيطان . خرج إبراهيم من تلك الحافلة الورطة بشعور المنتصر الذي خرج من مصيدة مدبرة بإحكام .
زحمة أولئك المنتظرين في آخر محطة، يركضون هنا وهناك ويستمتع سائقوا الحافلات والبصات والبكاسي المكشوفة بهذا الركض ويتمادون في الابتعاد عن البشر . الكماسرة يحسون بعظمتهم ويمارسون ساديتهم على الركاب وخاصة حين يشيرون بأيديهم معلنين عدم الرجوع، أو حين يأمرون أولئك الواقفين بالنزول بسبب فشلهم في الحصول على مقاعد، رغم ذلك الجهد البدني الشاق وتلك اللهفة التي تقذف بهم مخترقين زحام الأجسام البشرية المتصارعة . إبراهيم ينأى بعيدا عن كل ذلك، يقف هناك مبتعدا عن كل الناس، لا علاقة له بتلك الكتل البشرية المنفعلة والمتحركة، يخاف الالتحام، يلوذ بنفسه ويمارس ثرثرته الداخلية تلك التي تبحث عن تفسير لكل الظواهر المتعلقة بحركته وسكونه داخل تجاويف هذا الكون المريب، لا يتوانى مطلقاً في أن يقر ويقتنع بأن كل هذا الزحام وكل هذا الركض … كل تلك الحميمية التي يتعامل بها البشر بغية الوصول إلي أي مكان …إنما هي مصيدة تبحث عنه وتحاول أن تزج به حيث يجب أن يتم اكتشاف عالمه السري والخاص . لذلك وقف إبراهيم مبتعداً يراقب كل التفاصيل بانتباه مزمن ومدرب … وقف ساكناً، ولكن دواخله كانت تمور وتثرثر، كان ساكناً بعنجهية عالية كقناع لإخفاء خوفه السري، ساكناً بوسواس صاخب . وقف إبراهيم حتى اختفت كل تلك الكتل البشرية والتي ذهبت بها البصات والحافلات والبكاسي إلي حيث تريد . وقف … ووقف …. ووقف حتى ظهر أولئك المنادون الذين تتخبط بمهامهم الجليلة زحمة البشر وتجليات لهفتهم تجاه عربات المواصلات .إذ صفت الحافلات في طابور ساكن، وصرخ أولئك المنادون صرخاتهم المفتعلة والخالية من الصدق طمعا في هبات السائقين . عندها تحرك إبراهيم نحو الحافلة التي عليها الدور، صعد وجلس هناك في الركن الأخير حيث يمكنه مراقبة كل ركاب الحافلة وحيث لا يجلس أحد خلفه … دائماً يخشى إبراهيم أن يكون هناك إنسان خلفه .
حين وصل إبراهيم إلي المصلحة حيث يعمل في قسم الحسابات . كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة . داهمته سامية بلهفتها المعتادة تجاهه، حاول أن يتفادى هذه اللهفة ولكن سامية كانت أقدر في اقتحامها إياه .
" إبراهيم، إتأخرت مالك ؟"
"ظروف " رد جاف وحاسم
" شفقتني، بعدين أنا جبت معاي فسيخ "
" شكراً ما بكل فسيخ "
أزاحها إبراهيم من أمامه وجلس على مكتبه، بينما قاد الإحباط سامية وجلست بتثاقل على الكرسي . لا يستطيع إبراهيم أن يفكر بان كل مبادرات سامية نحوه مجرد مبادرات بريئة، لا تبحث إلا عن احتوائه كرجل حلم ولكنه يعرف تماماً بأن سامية مبرمجة تجاهه بقصدية متعمدة حتى تتمكن من ذلك الاختراق الذي يهزمه إبراهيم بتفسيراته الخاصة .
دخل الساعي بالسيرك ليستلم إبراهيم خطاباً من مدير عام المصلحة، يقرأ إبراهيم : " اذكر الأسباب التي أدت إلي تأخرك عن مواعيد العمل " استيضاح، ضجت دواخل إبراهيم، خرج من المكتب، رجع، جلس قرأ الخطاب مرة أخرى، خرج من المكتب، دخل دورة المياه، تبول، دخل الى المكتب، جلس كان يفكر بقلق غريب : " المدير دايرني أقول أنو أنا اتاخرت بسبب المواصلات وبعد داك ده معنا هو انو أنا بتكلم عن موضوع سياسي، لكن وين، يلقاها عند الغافل " .
ابتسم إبراهيم ساخراً من كل شئ لأنه وجد الحل، أخرج ورقة بيضاء وكتب عليها :

بسم الله الرحمن الرحيم
السيد / المدير العام
التحية والاحترام ..
توقف عن الكتابة . مزق الورقة التي كتب عليها وقذف بها في سلة المهملات اخرج ورقة أخرى، قرر إبراهيم أن يكثف تحصينه ضد أية تأويلات
لذلك كتب مرة أخرى : " بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد ومن والاه بإحسان إلي يوم الدين
السيد/ المدير العام
التحية والاحترام …
تأخرت بسبب أني قد زرعت في المنزل زهور " صباح الخير " بيضاء وحمراء،وحيث أن هذه الزهور لا تتفتح إلا بعد الثامنة صباحاً لذلك تعذر علي الوصول إلي العمل في الموعد المحدد وشكراً .
إبراهيم جابر".

أضف رد جديد