الانسان والمجتمع والدولة في السودان - نحو أفق جديد

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

الانسان والمجتمع والدولة في السودان - نحو أفق جديد

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

[size=18]الانسان والمجتمع والدولة في السودان -
نحو أفق جديد


حلقة (1) الانسان و المجتمع المدني في السودان



اكاد اجزم ان لا احدا يتسطيع ان يكتب عن المجتمع المدني في اي مكان على وجه الارض دون ان يبدأ بتعريف القارئ المفترض عن ماذا يعني "هو" بعبارة " المجتمع المدني"!.
والسبب بسيط، لا يوجد تعريف مانع جامع للمجتمع المدني. وانا لن اكون هنا الا احدهم، ما دمت ساكتب شيئا ما عن المجتمع المدني. اعني انني ساحاول تعريف المجتمع المدني. بل اكثر من ذلك ان محاولتي هذه قائمة على اساسين الاول هو تعريف المجتمع المدني في السودان والثاني هو التعرف عليه عمليا عبر تجلياته (تمظهراته) المختلفة ومكانة الفرد من هذه التمظهرات، وفق افتراضاتي الذاتية التالية:

كلمة "مدني" مقابلة لكلمة "رسمي". المدني هو كل ما دون الدولة، والرسمي هو كل ما دون المدني. فالمجتمع مدني في مقابل الدولة ( المجتمع الرسمي). وعليه فان كلمة مدني في عبارة "المجتمع المدني" لا تكون مرجعيتها في كلمة "مدينة" كما هو شائع وانما تكون بمعنى "أهلي أو شعبى". وعلى هذا النحو يكون المجتمع مدني في الريف وفي المدينة على حد سواء. ويسمى المجتمع المدني في المدينة: "المجتمع المدني المديني". ويسمى المجتمع المدني في الريف: "المجتمع المدني القروي أو الريفي". و يتمظهر المجتمع المدني عمليا بشكل هيكلي (منظمات) مرة وبشكل لا هيكلي مرة أخرى (أحداث متكررة) في مقابل الدولة المتمظهرة على وجه العموم في خمس اشكال رئيسية هي الجهاز التنفيذي (الحكومة)، الجهاز التشريعي، الجهاز القضائي، المؤسسة العسكرية (الجيش والبوليس والامن)، والخدمية المدنية. وتستطيع الدولة بدورها ان تتمظهر بشكل غير هيكلي لكن ليس بنفس قدرة المجتمع المدني. كما انه لا يوجد شكل واحد وثابت للمجتمع المدني (لا في الريف ولا في المدينة) بنفس القدر الذي لا يوجد فيه شكل واحد وثابت من أشكال الدولة. وفرضيتي الاخيرة هي ان السمة الغالبة للمجتمع المدني هي التضحية بجهد الجماعة لمصلحة الفرد ("كشف المأتم" مثالا) و السمة الغالبة للدولة هي التضحية بجهد الفرد لمصلحة الجماعة (الضرائب مثالا).


نظرة في المصطلح:

لماذا لا يوجد تعريف متفق عليه للمجتمع المدني، ليس في هذا الزمان فحسب بل في كل الازمنه وليس في السودان فحسب بل في كل الامكنة. الجواب عندي لانه لا يوجد مجتمع مدني واحد يحمل نفس الصفات والمواصفات ويتمظهر بنفس النسق والمنوال، ثم ان المصطلح "في سياقه الاكاديمي" حديث نسبيا" ظهر اول ما ظهر عقب نشوء الدولة الوطنية في أوروبا الغربية وهي الشكل الحديث للدولة (الوحدة الجغرافية/السياسية/الاقتصادية المحددة والمعترف بها) والتي من المفترض ان قاطنيها الاصليين امتلكوا حق البقاء بها على اساس واحد هو المواطنة لا غير. وعلى اساس ذاك المبدأ الراسخ، يتمتعون بحقوقهم ويؤدون واجباتهم. الدولة الوطنية لم تكن معروفة في التاريخ وبالتالي ما كان ممكنا الحديث عن المجتمع المدني قبل ذلك، على الاقل بالوضوح الذي نفعله في زماننا هذا.

قولي بانه لا يوجد مجتمع مدني واحد، افتراض يؤيده الواقع. كيف؟.


لا سبيل الى معرفة تلك الحقيقة الا بملاحظة تجليات "تمظهرات" المجتمع المدني "المفترض" في دول مختلفة وامكنة مختلفة وفي الريف والمدينة داخل الدولة الواحدة ومقارنة تلك التمظهرات ببعضها البعض. عندها سنجد ان المجتمع المدني مثل بصمات الاصابع لا يتكرر مرتين ولا يتطابق ابدا في اللحظة التاريخية المحددة. وبهكذا زعم سأنأ بنفسي قدر الامكان عن الاستعانة بالتعريفات المعلبة والجاهزة. ولهذا وضعت (اعلاه) محددات او خطوط عريضة مسبقا لمحاولتي التعرف على المجتمع المدني (المجتمعات المدنية في السودان) في مقابل الدولة. استطيع ان أقول بشكل مبدئي، ان المجتمع المدني في السودان ينقسم في كتلتين تتوازيان مرة وتتقاطعان في بعض المرات، تختصمان في لحظة ما وتتصالاحان في لحظة اخري، في نفس الوقت الذي يعتمل في داخل كل منهما مجموعة من التناقضات الذاتية بفعل اختلاف اواختلال منظومة القيم الواقفة وراء تمظهرهما( أي ان كل كتلة في ذاتها تتراكب من جزيئات تتشابه حينآ و تتمايز تراكيبها بعضا عن بعض أحيانآ آخرى). هذان المجتمعان يتمثلان بشكل مجمل في المجتمع المدني "المديني" والمجتمع المدني " القروي" او الريفي. ولكل منهما تمظهراته المختلفة عن الاخر، ومنظمومة قيمه الخاصة. سأحاول في هذه العجالة ان اعطي مساحة خاصة نهاية هذا المقال لشرح ما اقصده بمنظومة القيم هذه.

التعرف عمليا على المجتمع المدني:
كيف يتمظهر المجتمع المدني ويتمايز في الريف وفي المدينة؟.


أي كيف نستطيع ان نمسك به، نراه بأعيننا ونلمسه بأيدينا في بلد مثل السودان. ثم نقول بعد ذلك هذا هو مجتمنا المدني السوداني المشابه او المتمايز والمختلف عن بعضه البعض وعن المجتمعات المدنية الاخرى في الدول الاخرى (مثلا انغولا، الفلبين، الهند، البرازيل، البرتغال والمانيا).
من المفترض ان السودان دولة حديثة "دولة مواطنة" يقطنها حوالي اربعين مليون نسمة يتوزعون في المناطق الجغرافية والمناخية المختلفة بحسب تقسيم اداري محدد من صنيعة الدولة (ولايات) ويسكن الناس كما في كل ارجاء العالم في قرى (الريف) ومدن (الحضر) ويقومون بانشطة اقتصادية واجتماعية محددة تختلف قليلا او كثيرا من قرية الى قرية ومن مدينة الى مدينة، غير ان الطابع الاساسي لانشطة القرية الاقتصادية في السودان عادة لا يخرج عن ثلاث احتمالات (احدهما اوجميعهما في ان واحد): الزراعة، الرعي والصيد. وانشطة المدينة الاقتصادية غالبا ما لا تخرج عن ثلاث احتمالات: التجارة والصناعة والخدمات.
تلك صورة مختزلة وعريضة جدا، لا تفيد كثيرا في الاجابة على السؤال الذي حددناه اعلاه: كيف يتمظهر المجتمع المدني ويتمايز في الريف وفي المدينة. لكننا بالطبع نستطيع ان نأخد عينات للفحص المخبري!.
سأختار ابتداءا بطريقة عشوائية قرية محددة وحي محدد في مدينة محددة ثم نتصور لحظة زمنية محددة لنرى كيف تنتظم الحياة تلكم القرية وذاك الحي المديني. (اود ان انبه من جديد بان المجتمع المدني يتمظهر هيكليا من ناحية في شكل منظمات (نقابات، اتحادات، اندية، عشائر، طوائف الخ) عندها نظم وقيم ولوائح ويتمظهر لا هيكليا في شكل احداث من وراءها اعراف وقيم وسوابق مثلا في الاعراس والمآتم والنفير. لننظر في المثال الاول التالي.
شبشة الشيخ برير (قرية سودانية تقع على الضفة الغربية للنيل الابيض بالقرب من مدينة الدويم)
كيف تكون الحياة هناك؟. قد يكون لاحدكم فكرة احسن مني، وبالطبع لاهل شبشة الشيخ برير فكرة عن حياتهم احسن منا جميعا. لكنني أستطيع ان اتصور بالاحالة الى الصورة النمطية للقرية السودانية في الوسط النيلي كيف تكون الخطوط العامة لحياة الناس اليومية. وفي نهاية المطاف سأحاول عقد مقارنة بين شبشة الشيخ برير وحي العمارات المعروف في العاصمة الخرطوم. كيف يتمظهر المجتمع المدني هيكليا ولا هيكليا في شبشبة الشيخ برير؟.

في احد ايام الاسبوع جرت في شبشبة الشيخ برير الاحداث التالية:

رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى القرية ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ القرية فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان القرية بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات القرية بناءه تطوعا، شب حريق كبير في مدرسة القرية الابتدائية فهرع جمع من الناس لإطفاءه تطوعا، لعب فتيان القرية كرة القدم، ، اجتمع رجال عشيرة بني دويح في دار شيخهم للتفاكر حول نزاع نشب على قطعة ارض بين اثنين من رجال العشيرة ، نظمت نساء القرية "ختة" (ادخار لبعض المال)، ذهب البعض للصلاة في المسجد، وحلقة مديح نبوي في "المسيد" ، لعب بعض الشبان الورق " كتشينة"، بعض الفتيات عملن على تدريب احد العروسات على الرقص "رقصة العروس"، اقام بعض الشبان حفلة "حنة" لاحد فتيان القرية، كانت هناك مناسبة زواج، لعب الاطفال شليل، وكان هناك مجموعة من الشبان يتعاطون الخمر (قعدة) ، تعقب بعض الشبان سارق فاوسعوه طربا حتى الموت تطوعا، داهم احدهم مرض عضال فسارع بعض الناس الى حمله الى المستشفي التخصصي في اقرب المدن (تطوعا) لكنه مات فتجمع كثير من الناس لدفن الجنازة (تطوعا) واقاموا له مأتما للعزاء (تطوعا).

هل تجري نفس الاحداث بذات النسق والمنوال في حي العمارات في مدينة الخرطوم (العاصمة)، فنقول كما قلنا اعلاه: في احد ايام الاسبوع جرت في حي العمارات الاحداث التالية:
رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي العمارات ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ الحي فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان حي العمارات بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات الحي بناءه تطوعا، شب حريق... الى آخر الاحداث المتصورة (اعلاه) والتي جرت في شبشة الشيخ برير. هل نتصور انها جرت بالكامل في يوم من الايام في حي العمارات؟.

تلك احداث طبيعية في قرية ما (مثل شبشة الشيخ برير وغيرها من القرى النائية البعيدة). لكن ربما شعر المرء ان الوقائع المتصورة اعلاه لا يمكن ان تجري جميعها في شبشة الشيخ برير وحي العمارات بنفس النسق والمنوال. كونها جرت جميعا في شبشة الشيخ برير قد يبدو منطقيا، لكن بعضها لا يمكن ان يحدث في حي العمارات، بمعنى ان حدوثها جميعا في حي العمارات ليس منطقيا. شي طبيعي جدا ان يقول قائل رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى القرية ثم اجتمعوا في دار احد شيوخ القرية فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، لكن ليس من المتوقع ان يقول رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي العمارات في قلب العاصمة السودانية الخرطوم. الاكثر منطقية هو ان يقول القائل رجع التجار والصناع والافندية الي منازلهم في حي العمارات نهاية اليوم ثم ذهب بعضهم الى نواديهم (دورهم) المتخصصة فتحدثوا عن تجارتهم وصناعتهم وخدماتهم ويكون الانتماء الى احد هذه الدور قرارا فرديا وطوعيا. كما انه اذا سرق السارق في حي العمارات ففي الغالب الاعم ان صاحب الشي المسروق وحده يتصل ببوليس النجدة وليس من المحتمل في الاحوال العادية ان يجد من يطارد له السارق ويقتله، والمريض يتصل هو او اهله بعربة الاسعاف واذا شب حريق يتم استدعاء المطافيء. واذا سقط جدار بيت باي طريقة فان صاحبه وحده هو الذي يعيد بناءه او شركة التأمين ففي عداد المستحيل ان يتجمع شبان الحي لمساعدته تطوعا، نساء الحي مثل رجاله يدخرن (او يستثمرن) ما فاض من اموالهمن في البنوك، وغالبا ما يلعب الشبان الورق في النادي الرياضي الثقافي وهو من المتوقع ان يكون نفس النادي الذي ينظم تمارين كرة القدم في الحي ويكون الانتماء الى هذا النادي قرارا فرديا وطوعيا، كما انه من في حساب المستحيل ان يجتمع رجال عشيرة بني دويح او جعل في دار شيخهم في حي العمارات اذ ان سكان العمارات لا يتقسمون في شكل كتل عشائرية واضحة كما هو حادث في شبشة الشيخ برير واذا حدث نزاع ما بين شخصين حول قطعة ارض فالغالب ان تكون تلك مهمة المساح الشرعي ثم القضاء (البوليس و المحكمة)، وليس من المتوقع ان يلعب اطفال حي العمارات لعبة شليل التي تحتاج الى ضوء القمر (لا لمبات النيون) بالاضافة الى فسحة مكانية بواصفات محددة قد لا تتيحها طبيعة حي العمارات مسفلت الطرقات كما ان لاطفال حي العمارات العاب اخرى تعودوا عليها.

قد تكون هناك احداث تجري بنفس النسق والمنوال، لكنها قليلة، وهناك احداث تجري بذات النسق لكن ليس بذات المنوال والعكس صحيح. لماذا؟. سنجاوب على هذا السؤال لاحقا. لا اود ان ادخل في مقارنات الان. لنؤجل هذا السؤال برغم الحاحه مؤقتا، فالنغيب حي العمارات كلية من ذاكرتنا الان، ونركز اولا في شبشة الشيخ برير ثم نرجع الى حي العمارات لاحقا. كيف تنتظم هذه الاحداث القرية "هنا المثال قرية شبشة الشيخ برير". ما هي القوة الدافعة والاسباب. لنأخد سبع امثلة بشكل انتقائي، او قل لنعمل التفكير والخيال في سبعة احداث، جرت على الوجه التالي: بناء الجدار طوعا، اجتماع عشيرة بني دويح، كرة القدم، "الختة"، الحنة، شليل ومراسم الجنازة. ولنأخذ من هذه الامثلة حدث واحد لتحليله ما امكن، وليكن في هذه العجالة " مراسم الجنازة". عندما تحدث وفاة احد البالغين في شبشة الشيخ برير، صغيرا كان او كبيرا، وبغض النظر عن موقعه الاجتماعي ونشاطه الاقتصادي، تحدث نفس الاشياء على الدوام. يجتمع الرجال حول الجثة يمارسون الشعائر المجمع عليها و يغسلون الميت ويكفنونه وفق الاعتقاد المسلم به، وبالجانب الاخر يبكين النسوة بحرقة على اثر الوداع. ثم يحمل الرجال الجسد على سرير من اربع ارجل وعلى كل رجل من ارجل السرير رجل من الرجال يتبادل مع الاخرين المهمة في طريقهم الى المقبرة فيحفرون حفرة عميقة تسمى القبر يوضع فيها الجسد ثم يدفن، ثم يرجع الناس الى بيت المتوفي فيضربون خيمة للعزاء "صيوان" لمدة ثلاث ايام او يزيد، يمارسون الشعائر المتعارف عليها ويواسون افراد اسرة المتوفي، ومن اهم الاشياء يتبرعون بالاموال حسب الاستطاعة. وذلك مجرد حدث واحد من كل تلك الوقائع العديدة والمتكررة بنفس النسق والمنوال. ففي رقصة العروس مثلا لا بد ان تكون هناك آلة موسيقية "غالبا دلوكة"، الدلوكة مفترض ان تكون محفوظة في مكان محدد، مسئولية بنت او امراة محددة (طوعا) تخرجها فقط عن اللزوم والحوجة، تأتي المبادرة من احداهن والعمل جماعي (والمقصود هو العروس) التضامن مع العروس من اجل تدريبها على فعل محبذ عند الجماعة (رقصة العروس) ثم سعادتها واشاعة البهجة والفرحة في نفسها. نفس الشي مع اختلاف طفيف في الشكل الخارجي يحدث في حالة الجنازة. أدوات الحفر غالبا ما تكون مسئولية شخص محدد (طوعا) والكفن وغسل الميت (مبادرات فردية) لكن في النهاية العملية كلها تتم بشكل جماعي (حيث يتوافد الناس من كل الفجاج بشكل يبدو تلقائيا جدا) يفعلون كل تلك الاشياء بانسجام تام ويدفعون مساهمات مادية " كشف الفراش". والمقصود هم ابن المتوفى او بنته (على سبيل المثال) والحي ابقى من الميت في المثل الشائع. وكذا واقعة الحنة تختتم بمساهمات مادية والمقصود هو العريس المرتقب (امنه وسعادته ورفاهيته). و في كل الاحوال هناك شكل تنظيمي ما (سلس ومحكم)، كما ان هناك قواعد جماعية متفق عليها (مسلمات غير قابلة للنقاش) نجدها عند النظر (الملاحظة) بتمعن في جميع الاحداث والوقائع التي حدثت وتحدث وستحدث في شبشة الشيخ برير.

الملاحظة الاولى ان كل هذه الاحداث من وراءها جماعة لا فرد. قد يكون من خلفها مبادرات فردية لكن كل هذه الاحداث صغيرها وكبيرها تقيمها في نهاية المطاف جماعة من الناس كما هو واضح وفق نسق محدد.

الملاحظة الثانية ان كل هذه الافعال الجماعية الهدف الاساس (الغاية) منها هو الفرد المفرد (عيشه، امنه ورفاهيته) عبر وسيلة محددة هي التضامن (توحيد الجهود).

الملاحظة الثالثة ان كل او معظم هذه الاحداث تجرى بشكل تلقائي وفق قواعد مسلم بها في معظم الاحوال.

الملاحظة الرابعة ان كل هذه الاحداث تجري في فضاء طوعي، غير الزامي (بلا سلطة مادية ملزمة تستطيع ان توقع العقاب " العذاب" بادوات مادية أو تجزل الثواب) ولو ان هناك منظمومة قيم ومعتقدات ومسلمات تدفع الفرد دفعا الى الفعل (طوعا) في اطار نسق محدد مرسوم سلفا في المخيلة الجمعية.

والملاحظة الخامسة والاخيرة ان هذه الاحداث تحدث في حل عن الدولة. كما نلاحظ بوضوح غياب كلي او جزئي لعربة النجدة، عربة الاسعاف، عربة المطافيء، البنك، شركة التأمين، القضاء، والبوليس. فالجماعة تقوم بكل الواجبات.

في حي العمارات الصورة مختلفه جدا. اول ملاحظة تظهر بحدة تتمثل في أن الفرد (الانسان الواحد) هو الذي يطغى على المشهد. الفعل الجماعي (بصورته الشبشية) شبه غائب. دور الجماعة وواجبها تم استبداله بدور عربة النجدة، عربة الاسعاف ، عربة المطافيء، البنك، شركة التأمين، القضاء، والبوليس، نادي الفتنس، نادي المهندس، نادي الكذا ودار الكذا. لا حوجة لدور الجماعة، لا توجد ثقافة الجماعة. الفرد لا يغضب من الجماعة، لا يرجو شيئا من الجماعة كما انه لا يفخر ابدا بالجماعة اذ ان الجماعة غائبة من ذاكرته كليا. انه هو لا غيره، هو هو وهو كل شيء، انه الفرد الصمد. وبالتالى عندما يتحدث ذلك الانسان "الانا" لا يبدأ حديثه الا ب "أنا".

في شبشة الشيخ برير، عندما يتحدث احدهم عن نفسه ففي الغالب لا يتحدث عن نفسه مستخدما الكلمة "أنا"، بل يقول نحن (نحنا او احنا)!. نحن اولاد رجال، اولاد قبائل، اولاد بلد، اولاد عز، انا ود ناس فلان (مش ود فلان). وعندما ينشد الواحد منهم الاشعار ربما انشد: ( نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا). وهذا شي منطقي. اذ ان الجماعة في شبشة الشيخ برير في خدمة الفرد (منذ لحظه ميلاده، طفولته، صباه، شبابه، كهولته، الى لحظة مماته)، بالمقابل فان الفرد يقدس الجماعة وهو بدوره يستطيع التضحية من اجلها ما دعت الضرورة كأن يذبح الرجل بنته العزيزة بالسكين جراء خطأ أقترفته سهوآ غسلا للعار الذي قد يلحق بالجماعة. في شبشة الشيخ برير "الانا" تأخذ عظمتها من عظمة الجماعة، فهي "أنا" ضخمة ضخامة الجماعة لكنها غائبة في رمزيتها، غائبة في ال "نحن".

في شبشة الشيخ برير احساس الفرد بالفرد الاخر عالي جدا، فعلى سبيل المثال فان الناس يتبادلون التحيايا بحرارة وصدق فائق، ويبكون بحرقة عندما يسافر احدهم بعيدا ويبكون من جديد فرحا بعوده. فالفرد عنصرا مقدسا لا لذاته بل لكونه ينتمي الى الجماعة المقدسة، هو جزءا لا يتجزء من الجماعة، تلك الجماعة النازعة في كل لحظة للتضحية من اجل الفرد. وفي حي العمارات لا أحد يحي الاخر في الشوارع الا لماما وحسب مقتضيات الضرورة فيقول له ما يشبه "هالو" الانجليزية وهو ماض في حال سبيله. فالاخر في العمارات شي قائم بذاته ولذاته. فالفرد كائن متحرر كلية عن قبضة الجماعة. فان فعل فعلا مع الجماعة يفعله طوعا وبوعي موضوعي ومن اجل هدف واضح وآني. كأن ينضم مثلا الى عضوية نادي المهندس او اتحاد التنس، يتصرف وفق لوائح مكتوبة، يدفع اشتراك شهري او سنوي او لا يدفع حسب النظم واللوائح ويستطيع في اي لحظة ان يوقف عضويته والعكس صحيح فالنادي او الاتحاد المحدد يستطيع حسب النظم واللوائح ان يلغي عضوية الفرد من سجله في اي لحظة. لكن ليس من المنظور ان يحدث نفس الشي بالنسبة لعشيرة بني دويح في شبشة الشيخ برير. اذ ان العضوية بالميلاد والدم، قدرية لا فكاك منها الا بالدم. وكذا اشكال التنظيم (الاخرى) الطبيعية (كالقبيلة) والتقليدية (كالطائفة الدينية) مع اختلافات طفيفة في حدة المواجهة مع الجماعة في حالة نشوذ الفرد. ف "الأنا" في شبشة الشيخ برير "أنا" سالبة، وخاضعة ل "نحن" و "الأنا" في حي العمارات "أنا" موجبة وفاعلة لا تكترث بال "نحن".

تلك الاحداث التي جرت وتجري في شبشة الشيخ برير تحدث بنفس النسق والمنوال في جميع القرى الاخرى المشابهة في الارياف القريبة والبعيدة. وما ننقله من صورة هنا ما هو الا محاولة تقريبية للصورة النمطية للقرية او توقعنا لها. مع علمنا التام ان التفاصيل قد تختلف بشكل او اخر من قرية الى قرية في ارياف السودان النيلي، ناهيك اذا ما ذهبنا بخواطرنا ابعد من ذلك وتحدثنا عن الريف في جنوب السودان وفي شرقه وفي غربه البعيد، في تلك اللحظه ربما نواجه باقدار واحداث اخرى مختلفة جدا. بمعنى ان المجتمع المدني في تلك الارجاء يتمظهر هيكليا ولا هيكليا بطرق قد تكون مختلفة جدا عن تمظهره في شبشبة الشيخ برير. كما ان المجتمع المدني قد يتمظهر بطريقة مختلفة من مدينة الى مدينة (مثلا الخرطوم، امدرمان، كوستي، مدني، الابيض، جوبا، ونيالا)، بل فان المجتمع المدني قد يتمظهر هيكليا ولا هيكليا بطرق مختلفة من حي الى حي في المدينة الواحدة. وربما اسعى الى شحذ خواطركم في هذه اللحظة لتتمعنو معي في امكانية تمظهر المجتمع المدني في حي الديوم الواقع على مرمى حجر من حي العمارات الذي تحدثنا عنه هنا، لاجل عقد مقارنه عاجلة بين المجتمع المدني في الديوم والعمارات كحيين متجاورين في نفس المدينة. فالاحتمال وارد ان نجد اختلاف بائن في شكل تمظهر المجتمع المدني في الحيين. ناهيك عن تمظهرات المجتمع المدني في افاق اخرى بعيدة مثل انغولا، الفلبين، الهند، البرازيل، البرتغال والمانيا.
كما حاولت ان اشرح في اللحظات الفائتة كيف ولماذا تكون "الأنا = الفردانية" أعلى من ال "نحن = الجماعة" في العمارات والعكس صحيح بالنسبة لشبشة الشيخ برير نسبة للعوامل المحددة التي حاولت استبيانها في سياق المقارنة سالفة الذكر وسأقوم بالقاء مزيد من الضوء عليها في ختام هذا المقال. ساقوم هنا ايضا بذكر "قفشة" منتشرة على نطاق واسع. تقول القفشة "الشعبية": ان اولاد حي العمارات عندما يحدث وان يزورا حي الديوم وبعد انتهاء زيارتهم تقوم بنات الديوم بمهمة وداعهم (تقديمهم) اي الذهاب معهم في طريق عودتهم الى منازلهم بحي العمارات خوفا عليهم من عارض الطريق ولطفا بهم. انتهت المقولة. هذه المقولة التي انتجها عقل "ديامي بحت" وجدت صدى واسع واصبح يرددها كثير من الناس من باب التندر والخ. اذا نظرت الى فحوى هذه المقولة ستجد انها تنطوي على عدة مفاجئات واسرار ولا تخلوا من المآزق.

وهذا نفسه السر من وراء انتشارها برغم ما يبدو عليها من بساطة وتبسيط. للوهلة الاولى تتبدأ هذه المقولة بشكل زائف كمظهر من مظاهر الصراع الطبقي في عرف الماركسيين، خصوصا انها صادرة من اضابير الديوم وما اشتهروا به من مؤازرة الحزب الشيوعي السوداني. غير ان الامر عندي ليس كذلك. خصوصا اذا اتفق حدسي وكان الهدف من وراء المقولة الطعن في رجولة اولاد حي العمارات كونهم منعمين (نعومة ودعة) من قبل سهولة العيش في مقابل رجولة اولاد الديوم من قبل شظف العيش الذي يقتضي بالضروري "الخشونة" بحسب المضمر من المقولة. ولو ان حتى هذه اللحظة هناك شبهة صراع طبقي، غير انه بقليل من الخطوات للامام ستنبهم حقيقة الصراع الطبقي وتتعرى حقيقة جديدة تكمن في ثقافة القرية ونستطيع ان نقول القبيلة. ولا يمكن للمرء ان يتصور بسهولة ان في الادب الماركسي مجالا لوصف البرجوازي بالنعومة فهو في كل الاحوال مصور كوحش في الروح وفي الجسد.
اول الملاحظات في اتجاه هذه المقولة هي غياب "الانا" فيها مع حضور طاغي لل "نحن". نحن اولاد الديوم، نحن بنات الديوم. تلك ال "نحن" من صناعة شبشة الشيخ برير. فالديوم بحسب المقولة كتلة صماء غير قابلة للتقسيم (جماعة ذات قيم وعزة وكرامة وكمان ماركسية) لدرجة ان اولادها يستقبلون اولاد العمارات لكنهم يتأففون من وداعهم لعلة فيهم هي النعومة بحسب المقولة، مما يخرجهم من مصاف الرجال كاملي الرجولة وفق الفهم الديامي للرجولة، فمن صفات الرجال "الخشونة" كما تفترض الاسطورة الريفية "الضكرنة"، ولهذا السبب فان بنات الديوم يقمن بالمهة نيابة عن رجال الديوم باعتبار ان رجال العمارات لا فرق بينهم والنساء، فاولاد الديوم على سبيل المثال يستقبلون ويودعون في نفس الوقت اولاد حي الامتداد، لكن اولا العمارات "لا. هناك وخز ما!.

وبالطبع ليس المقصود المعنى الحرفي للعبارة بان اولا العمارات غير اسوياء ولكن المقصود هو الحرب النفسية من ناحية ومحاولة تعلية قيمة الذات من ناحية أخرى باضافة وزن قيمي جديد متخيل للجماعة (من قبيل اولادنا رجال يأكلوا النار بمعنى انهم "ضكور"). هذه الثقافة لا تقوم بدون سند محدد، هذا السند هو الجماعة ( الاحساس العالى بروح الجامعة ال "نحن")، منظمومة قيم قديمة شديدة الرسوخ جيء بها من القرية فعاشت في ضمير الجماعة كل الوقت وظلت تتحكم في سلوك الفرد المفترض فيه المدينية كونه ولد ويعيش في المدينة. فبالاحالة الى الاحداث التي جرت في شبشة الشيخ برير نجد ان كثير من تلك الاحداث تستطيع ان تجد مكانها بسلاسة في الديوم، ولن يصيب الكثيرون الاستغراب اذا ما قال احدهم: رجع المزارعون والرعاة والصيادون الى حي الديوم ثم اجتمع بعضهم في دار احد شيوخ الحي فتحدثوا عن زرعهم ورعيهم وصيدهم، سقط جدار احد بيوت سكان الديوم بفعل السيول والفيضانات فقرر بعض فتيان وفتيات الحي بناءه تطوعا، شب حريق... الى آخر الاحداث المتصورة (اعلاه) والتي جرت في شبشة الشيخ برير. فالنتصور انها جرت بالكامل في يوم من الايام في الديوم.

قد تكون هناك اشياء قليلة لا تبدو ممكنة او منطقية، لكن معظم تلك الاحداث تحدث في الديوم بشكل يومي. وبأي حال من الاحوال لن تكون دهشة المرء كبيرة بذاك القدر الذي يحدث عند عقد المقارنة بين شبشة الشيخ برير وحي العمارات. كل ما اود ان اقوله ان الديوم ترقد في الخرطوم وقلبها في شبشة. اذ ان تمظهرات المجتمع المدني في حي الديوم الذي يبعد بضع امتار عن حي العمارات مختلفة جذريا عن الاخير. كما بالطبع فان تمظهرات المجتمع المدني في حي الديوم ليس بالضرورة مشابهة تماما لتلك التي لشبشة الشيخ برير. وهذا هو سر المفارقة بين العمارات والديوم لا الصراع الطبقي (او قل لا الفوارق الطبقية وحدها). هذه المقارنة ايضا صالحة لاحياء كثيرة في امدرمان ولهذا السبب تجد كثير من الامدرمانيين يحيلون ذواتهم الى مدينتهم، ويجدون فخرا وعزا وكرامة في انتماءهم الى امدرمان (احساس عالى بالجماعة) و"نحن" تطغى على "الأنا".

تمظهرات المجتمع المدني الهيكلية وغير الهيكلية و ماهية القيم الدافعة والجاذبة من من وراءها وكيف تتشكل القيم الاجتماعية ثم تعمل عملها؟.


تمظهر هيكلي:

كما اسلفت الذكر فان المجتمع المدني يتمظهر هيكليا في شكل منظمات عندها اعضاء مسجلون على الورق بغرض انجاز اهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة غالبا ما تكون مكتوبة ومثال هذا التمظهر الهيكلي نجده في شكل منظمات "حديثة هشة، لكنها صاعدة" مثل منظمات حقوق الانسان، الاتحادات، الاندية الرياضية والثقافية و النقابات و يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "طبيعية راسخة" مثل القبائل والعشائر وعندها نظم وقيم ولوائح غير مكتوبة مثال قبيلة الشلك في جنوب السودان والعشائر المختلفة والاسر الممتدة في المدن والارياف المختلفة. كما يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "تقليدية سائدة" مثل الطوائف الدينية ( السجادة العركية مثالا) عندها نظم وقيم ولوائح مكتوبة مرة وغير مكتوبة في بعض الحالات.

تمظهر لا هيكلي:

يتمظهر المجتمع المدني لا هيكليا في شكل احداث متكررة من وراءها اعراف وقيم وسوابق راسخة في الخاطر الجمعي. وأمثلة تمظهر المجتمع لا هيكليا كثيرة بحيث لا يمكن حصرها ويمكن الرجوع من جديد الى الاحداث التصورية التي جرت في شبشة الشيخ برير (اعلاه) على كل حال فان ابرز هذه التمظهرات غير الهيكلية تتضح في مراسم الزواج وشعائر الجنازة، والحنة والختة والنفير والفزعة بأشكالها المختلفة.

التمظهرات الهيكلية اكثر وضوحا في المدينة ومثالها النادي، بينما التمظهرات اللا هيكلية اكثر وضوحا في الريف ومثالها النفير والفزعة. ولو ان في كل من الفضائين يتمظهر المجتمع المدني هيكليا ولا هيكليا بنفس القدر ولكن باشكال ولاسباب ودوافع مختلفة.
قلنا وكررنا ان للتمظهرات الهيكلية نظم وقيم ولوائح وللتمظهرات اللا هيكلية اعراف وقيم وسوابق. انه الحس التنظيمي والقوة الدافعة وراء نشوء وتخلق وبروز هذه التمظهرات الاجتماعية الى السطح الخارجي، فنراها ياعيننا مؤسسات واحداث متكررة في شكل جماعات او تجمعات عندها هدف محدد وتبقى على الدوام او تنزوى ثم تعود الى البروز من جديد في وقت وافق جديدين، مثلها ومثل كثير من الظواهر الطبيعية.

التمظهرات الهيكلية تبرز وفق نظم (مثل الدساتير) وقيم (اهداف نبيلة او تضامن من اجل مصلحة مؤكدة ومشتركة) ولوائح (مثل تحديد المسائل الفنية) والتمظهرات اللا هيكلية تبرز وفق اعراف (مثل التضامن) وقيم سامية (مثل المروءة والشجاعة والكرم والرجولة) وسوابق (وسائل مجربة وناجعة لانجاز المنفعة الجماعية).

وفي جميع الاحوال وفي كل الاوقات فان الفعل في سياق المجتمع المدني هيكليا او لا هيكليا يقود الى منفعة محددة تجد تعبيرها في مساهمة مادية نقدية او عينية او بذل الجهد المجاني بهدف جلب الخير او درء الاذى، في فضاء خارج الدولة.

نظرة سريعة في منظومة القيم:

من الملاحظ ان في كل من شكلي التمظهر الهيكلي واللا هيكلي لا بد من وجود قيمة اجتماعية او منظومة قيم.

من اين تأتي هذه القيم؟. وهل تكون لذات المغزى وبنفس القدر في الريف والمدينة؟. وبين الريف والريف الآخر والمدينة والمدينة الأخرى ؟. وكيف تعمل هذه القيم على دفع الظاهرة الاجتماعية المحددة الى العيان؟.

سابدأ هنا بضرب مثل متخيل. لك ان تتصور معى ان رجلين تبرعا لمعسكر للنازحين بخروفين كل على حدا. احد هذين الرجلين مهندس معماري من حي الصافية بالخرطوم بحري، والآخر راعي اغنام "بطحاني" من منطقة الشوك في شرق السودان. رجع الرجلين الى دارهما في الصافية وفي الشوك بعد أداء هذا العمل النبيل. ماذا سيقول الناس في حي الصافية اذا علموا بالامر؟. الاحتمال الاكبر انهم سيقولون انه رجل "انساني" او "انسان نبيل". بينما اتوقع ان يقول الناس في الشوك عن الرجل الاخر انه رجل كريم. وبنفس القدر فانه اذا حدث وان تبرع ذات الرجلين بمبلغ من المال لمصلحة اطفال المايقوما فان الرجل من الصافية سيبقى انساني، بينما الاحتمال الاكبر ان يوصف الرجل الاخر (في داره بالشوك) بانه رجل شهم وكريم.

الرجل الذي ساهم في بناء الجدار الذي اسقطته السيول والفيضانات بشبشة الشيخ برير هو رجل شهم وصاحب مروءة. والآخر الذي شارك في اطفاء الحريق فهو رجل "ضكران" و شجاع لكونه واجه الخطر، وذاك الذي دفع مبلغا من المال ل "كشف الفراش" فهو "زول واجب" بمعنى انه صاحب مروءة. وهكذا دواليك فان كل الافعال الجماعية في شبشة الشيخ برير تجعل الفرد موصوفا بواحد او اكثر من القيم الدافعة التالية: الرجولة، الشهامة، الكرامة، الشرف ، الشجاعة، الكرم، المروءة و العزة. كما ان العكس صحيح فقد يوصف الاخر المتقاعس بصفات سالبة ومناقضة من قبيل خائب وجبان. بينما الرجل من حي العمارات او حي الصافية اذا ساهم في اي عمل جماعي (نقابة المهندسين مثلا) فليس من المتوقع ان تسبغ عليه تلك الصفات بنفس القدر الذي يحدث لذاك الذي في شبشبة الشيخ برير، وغالبا ما يوصف بانه رجل انساني وملتزم ومتحضر، ومن المستبعد جدا ان تصفه احد الفتيات من حي الصافية بانه "ضكران" بمعنى انه رجل ولا كل الرجال!. وذا جلس بعيدا من الجماعة لا يفعل شي فانه لا يوصف بانه رجل خائب او جبان ولكنه ربما يوصف بانه انسان سلبي، لا غير.

كيف تشتغل منظومة القيم:

انظر معي في ثلاث امثلة من الواقع. المثال الاول من مدينة هيا في شرق السودان. قيل ان رجلا يقطن قرية حول مدينة هيا في شرق السودان، اثناء ما كان مسترخيا يشرب القهوة في حضور آخرين حدثت فجأة مشادة كلامية صغيرة بينه وآخر من الجماعة، فسبه الاخير قائلا يا إبن القحبة ( قالها باللغة الدارجة!) فما كان من الاول الا ان استل خنجره وغرزه في صدر الثاني فقتله ثائرا لكرامته وكرامة امه. وحكم عليه بالسجن 25 عاما، لكنه طوال هذه المدة لم يندم ولا لحظة، كما ان كثيرا من الناس حوله نظرو ا اليه كبطل. بالنسبة له هو فقد أدى عملا مقدسا، والا ستكون مكانته في الحضيض امام أقرانه ووسط عشيرته كونه سكت على تلويث شرفه!. المثل الثاني شائع جدا وهو غسل العار. حدث ان رجلا من احد القرى حول المتمة و ان حملت بنته الصغيرة سفاحا، فما كان منه غير ان ذبحها بالسكين غسلا للعار، وخرج صائحا وسكينه تقطر دما: "هو نحنا عندنا شنو غير سمعتنا" ويعني شرفنا وكرامتنا. المثل الثالث، يقال ان في احد القرى النائية الواقعة على مقربة من مدينة الدمازين، كان هناك رجل فقير في مقتبل العمر له ابن واحد عمره خمس سنوات، عمل في ليلة دامسة على تخليص فتاة من فم تمساح ذهب بها الى عرض النهر، فاستطاع تخليصها بعد عراك دامي مع الوحش النهري المخيف ودفعها الى البر بحيث رجعت سالمة الى اهلها، الا ان الرجل لاسباب غير معروفة على وجه الدقة ضاع في النهر وحمل تيار الماء جثته بعيدا الى جهة غير معلومة. فاسبغ عليه الناس في غيابه الابدى كل الصفات الحميدة واسمو ابنه ود "الكلس" اسم يدل على منتهى الرجولة و الشجاعة والمروءة والشهامة. وجاء احفاده فكانو "اولاد الكلس" واحفاد احفاده "اولاد الكلس". هذه القصة حكاها احد احفاده وهو شيخ القرية في الوقت الراهن وقال انها حدثت قبل مائة وخمسون عاما خلت.

في المثالين الاولين نلاحظ ان الفرد ضحى تضحية جسيمة خوفا على تضعضع مكانته وسط الجماعة بفعل الخوف الرهيب من إلتصاق صفة سالبة به "عار" قد يطول نسله وافراد عشيرته ويقلل من فرصه وفرصهم في الحياة وسط الجماعة. وفي المثال الثالث فان الجماعة تكافيء الفرد ذا الولاء الطوعي المطلق للقيم السامية بالاحتفاء به عبر السنين غائبا كجسد وحاضرا في "احفاده" لدرجة انهم اصبحوا زعماء القرية او القبيلة فيما بعد.

ذاك بالضبط ما يحدث في شبشة الشيخ برير، هناك منظومة قيم دافعة متمثلة في الرجولة، الشهامة، الكرامة، الشرف، الشجاعة، الكرم، المروءة و العزة. هذه المنظومة القيمية تقف خلف تمظهر المجتمع المدني وتبقى مسئولة على الدوام على استمرارية وديمومة تلك التمظهرات سواءا كانت هيكلية او لا هيكلية وهي قيم ال "نحن". بينما في حي العمارات او حي الصافية هناك منظمومة قيم جاذبة نجدها في الايمان بالهدف النبيل والتضامن من اجل تحقيق مصلحة مستركة، وهي قيم "الأنا".
لاحظ مرة اخيرة كيف تترجم قيم ال "نحن" الى افعال بتتبع مبسط لابيات الشعر " الشعبي" التي ضربنا بها المثل في مكان آخر (اعلاه). هذه هي الابيات والترقيم من عندي : (1- نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا 2- في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا 3- نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. 4- و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا)... بقليل من اعمال التفكير سنجد ان القيم السامية الدافعة لتلك الافعال كالتالي:
1- العزة
2- المروءة
3- الكرم، و
4- الشجاعة .

وفي كل الاحوال فان كل تلك القيم تصنعها الجماعة وفق عملية تاريخية طويلة ومعقدة تتمدد عبر اجيال بهدف تحقيق مصلحة الجماعة المحددة وضمان معاشها وبقاءها وامنها ورفاهيتها. وتخضع هذه القيم للتبديل والتعديل والتحوير على الدوام بما ينسجم والتغييرات التي تطرى على وسائل تحقيق الهدف بين زمان وآخر ومكان وآخر. لدرجة ان منظومة القيم التي تبدو صارمة ومبدئية ودونها المهج في مكان محدد ولحظة تاريخية محددة (الكرم مثلا) قد تنهار كلية وتختفي بشكل شبه كامل في العمارات والصافية بالخرطوم العاصمة وتحل محلها قيم جديدة اكثر انسجاما مع اجندة الهدف في ثوبه الجديد، فتصبح على سبيل المثال خصلة ذميمة مثل البخل (سالب الكرم) محمدة فيكون ذلك الانسان البخيل في عرف القرية "اقتصادي" في فهم المدينة. كما قد يحدث تحوير للقيمة فيصبح الكرم ذاته (التبرع للنازحين او اطفال المايقوما بالاموال) يسمى انسانية ولا احد يسميه كرما او شهامة في حي الصافية او العمارات بينما في منطقة الشوك هذه الكلمة: ال "انسانية"، قد تبدو غريبة على السامع.

ويتواصل...

بقلم: محمد جمال الدين حامد لاهاي/هولندا

[email protected]
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الاثنين يونيو 27, 2011 8:01 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ملحوظة:
هذه المساهمة الصغيرة، سبق وان نشرت في غضون اليومين الماضيين في صحائف اكترونية و ورقية اخرى، لكن لخطأ فني مني (حفظتها في كمبيوتري بأكثر من اسم اثناء كتابتها). لم تكن هناك منقحة على الوجه الاخير الذي وددت، مثلما هو حادث هنا.
على كل هذه النسخة المنشورة هنا (أعلاه) بمنبر
sudan-forall
هي النهائية عندي وفق فهمي الخاص للنهايات. (دا لطف ما "شجاعة" أدبية.... لول)

وهذا ما لزم توضيحه...

مع الود،

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

وصلتني بعض الملاحظات حول الموضوع في إميلي الخاص من بعض الناس غير الاعضاء هنا سأقوم بنشر بعضها (أعنى انني سأنشر رسائل من طلبو مني تعليق أو ابدو ملاحظة نقدية متعلقة مباشرة بموضوع البوست).

الرسالة الاولى من الاخ الهادي السني (ولو ان فيها كثير من الاطراء الذي لا اتفق معه "ولا اراه مناسبا") والثانية باللغة الانجليزية من عبد الرحيم حلاج. وفي اقرب سانحة سأحاول التعليق عليهما ما استطعت الى ذلك سبيلا.

رسالة الهادي

(حيبنا محمد جمال
كيفك يا رجل
انا الهادي السني
الفراعي
ذكرتني الايام الخوالي الجميلة عندكم في المنتدى الادبي بجامعة الخرطوم معاك ومع حوارات الاصدقاء كوثر السجان وابكر ادم اسماعيل و امين عثمان وود محمد عبد الحي وعبد الرؤوف عبد الله واماني فقيري
بالله اذا عندك اتصال بيهم سلم لي عليهم واديهم اميلي
كنت امبارح بفتش في قوقل مريت على موضوعك بتاع المجتمع المدني في سودانفوروول
عجبني كلامك وعندي شوية ملاحظات بس هسه ما عندي كبورد عربي بكتب من لوحة مفاتيح سودانيزوونلاين وما عارف اعمل الشولة ولا النقطة كيف

سامحني غايتو لانو غالبني اسكت لغاية بكرة
موضوعك دا اجمل ما قريت في العشرين سنة الفاتت دي عن المجتمع المدني
لانو كل الناس البتكتب عن المجتمع المدني بتتحدث عن المنظمات الطوعية وبالذات منظمات الخرطوم والمدن الكبيرة
وبقولو لينا دا هو المجتمع المدني
هسه انت طلعت لينا الجنازة والعرس والحنة والختة والناس البتبني الحيطة والناس البتطفي النار والعشيرة والقبيلة والطائفة والمنظمة السودانية لحقوق الانسان ونقابة العمال كلوا مجتمع مدني وبفهم وادلة وكمان شليل وقعدة السكر
يا زول انت مبالغة ودا شغل جديد ونضيف
والله مرة اضحك ومرة ابكي من المتعة
نشوف ناس زي دكتور حيدر ابراهيم حا يقولول شنو لاني مرة قريت لدكتور حيدر مقال بقول فيه انو المجتمع المدني هو 50 نفر بس قاعدين في الخرطوم ومافي غيرهم ابدا
حا افتش وصلة المقال وارسلها ليك وقت تاني

برضو عجبتني القصص وتحليلها وناس شبشة الشيخ برير وتحليل قصة اولاد وبنات الديوم دا ابداع براه
وعجبتني فكره الهيكلي واللا هيكلي في المجتمع المدني ودي بالجد فتح يسجل ليك لانو حسن ظني ما حصل قبل دا
وشغل القيم وكيف يتمظهر المجتمع وتعريف المجتمع المدني المديني والمجتمع المدني الريفي

بعدين المدني المديني والمدني الريفي دا ذاتو فهم براه

والله انا راسي يا داب اتعدل من الجوطة بتاعة زمان

بس عليك الله واصل وما تهتم بالاصوات النشاذ لانو ما كل الناس عندها وقت عشان تقرا بهدو وتفهم المحتوي في ناس في المنابر دي بتقوم سداري

ولو في طريقة حاول حلل لينا سلوك الناس البرة السودان

وبعض الناس البنقرى ليهم في المنابر ديل ومن اين جاء هؤلا

ولحدة ما ارجع ليك تاني

ولنا عودة

اجمل الاماني ليك وللناس المعاك

الهادي)...
انتهى.


رسالة حلاج ستأتي لاحقا...
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

أظن هذا هو المقال المعني لدكتور حيدر ابراهيم (سأعلق عليه لاحقا وليس بالضرورة انني اتفق كلية مع ايحاءات الاخ الهادي):

هنا رابط المقال: https://www.katib.org/node/1670

ملحوظة:
(سأترك فقط روابط المقالات والكتابات التي استشهد او استرشد بها، تسهيلا لمن شاء أن يقرأ البوست).

وهذا هو سبب التعديل هنا، كما سيكون في بعض الحالات الأخرى المشابهة.
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الجمعة مارس 27, 2009 5:45 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ومقال آخر لدكتور حيدر:


المجتمع المدني السوداني بين العالمية والمحلية
د . حيدر ابراهيم علي

رابط المقال https://www.alrakoba.com/articles-action ... d-2145.htm
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الجمعة مارس 27, 2009 5:47 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

تعريف مفهوم المجتمع المدني:

(( محمد ابراهيم نقد، سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني))

جريدة البيان 14 مايو 2003 (المجتمع المدني العربي يواجه خطر التحول إلى شاهد زور) وهذا هو الرابط

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=7404
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الجمعة مارس 27, 2009 5:48 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

أدناه روابط أخرى لكتاب وناشطين آخرين تناولوا فكرة المجتمع المدني في السودان بطرق مختلفة لكن غالبا مع قاسم اساس مشترك يتمثل في "حصر المجتمع المدني في تمظهر واحد محدد من تمظهراته غير المحدودة هو تمظهره الهيكلي المديني". هذه مجرد نماذج اخترتها بشكل عشوائي، وسأحاول لاحقا مناقشتها ( مع غيرها) بشكل مجمل:

1- عبد الرحيم أحمد بلال: ((نشأة المجتمع المدني في وسط السودان «1»)

https://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147503564

2- عبد الرحيم بلال (أزمة انشطار المجتمع السوداني الانتقالي وأزمة الإنسان السوداني الانتقالي «المشلهت» (1))

https://www.alsahafa.info/index.php?type ... 90708&bk=1

3- نبيل عبد الفتاح (المجتمع المدني السوداني (الواقع والمرتجى)!)

https://www.alsahafa.info/index.php?type ... 02086&bk=1

4- ندوة ( الدور السياسي لمنظمات المجتمع المدني)

https://www.alsudani.info/index.php?type=3&id=2147531535

5- امال عباس (عندما يحل السلام!! (1))

https://www.alsahafa.info/index.php?type ... 4&col_id=1

6- سالم باجميل (مفهوم المجتمع المدني ودوره المؤثر في الحياة الحديثة والمعاصرة) انموذج غير سوداني.

https://www.26sep.net/newsweekarticle.ph ... &sid=10905
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

((وهنا كاتب آخر (مفكر وسياسي معروف) هو تاج السر عثمان (السر بابو))


تاج السر عثمان
[email protected]
الحوار المتمدن - العدد: 2405 - 2008 / 9 / 15

منظمات المجتمع المدني

رابط المقال https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=147054
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الجمعة مارس 27, 2009 5:50 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

حلقة (2): الدولة والمجتمع المدني في السودان

قبل الحديث عن الدولة (وبنياتها في السودان)، أود هنا التعليق بشكل مجمل على الكتابات التي وضعتها أو روابطها أعلاه، وزعمي في انها تتقاطع عند نقطة جوهرية اسميتها من عندي الأس المشترك والذي يتمثل في "حصر المجتمع المدني في تمظهر واحد محدد من تمظهراته غير المحدودة هو تمظهره الهيكلي المديني (من مدينة)". وهذا هو سر التشويش الذي سبغ جل المحاولات التي سعت الى معالجة اطروحة المجتمع المدني من ناحية نظرية. (طبعا ذاك هو زعمي الخاص والذي اعرف بانه على ان اجهد في شرحه بالأدلة واعد باني فاعل كلما استطيع)!.

كيف؟.

جل هذه المحاولات تفترض (تسلم) بان هناك مجتمع مدني واحد في السودان. وهذا "التسليم" المؤدئ الى التشويش والفوضى، يجئ لعدة أسباب:

الاول: هو اسقاط المصطلح تعسفيا على حال ليس من حاله!. إذ ان المجتمع المدني في السياق الاول الذي برز وتعرف فيه "أوروبي"ـ فهو شأن لبرالي بحت. ففي المفهوم اللبرالي فان المجتمع المدني يتحدد ونتعرف عليه كمقابل للدولة،(السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، الإجهزة الرسمية والمؤسسة العسكرية)، ولكن ليست أي دولة، انها الدولة اللبرالية، دولة التعددية السياسية والإجتماعية ودولة السوق الحر). كما ان العكس هو الصحيح فلبرالية الدولة تتحدد ونتعرف عليها كمقابل للمجتمع المدني). وبتبسيط شديد فإن الدولة "اللبرالية" والمجتمع المدني "في المفهوم اللبرالي" كحال البيضة والدجاجة فلا بيضة بدون دجاجة ولا دجاجة بدون بيضة.

وتواصلآ مع طريقة التفكير اللبرالية فان المجتمع المدني هو المسافة القائمة بين الأسرة (المجال الخاص والدولة " المجال العام" مع تحديد مهمة الدولة في الحفاظ على "حماية" ممتلكات الاسرة
" المواطنين = المدنيين"، واستنادا الى هذا التعاقد الاجتماعي تأخذ الدولة شرعيتها لا لشي آخر. وبلغة أخرى فإن الدولة مجرد شرطي مسلح مهمته الأساسية حماية رأس المال الخاص "ممتلكات ومكتسبات المواطنيين المدنيين" وضمن هذه المهمة سن القوانيين والتشريعات التي تكفل هذه الحماية وربما تؤدي الى المزيد من الارباح المادية للمواطن، فليس من مهام الدولة على سبيل المثال حض الناس على العمل الصالح في الدنيا لأجل دخول الجنة بعد الممات.

المجتمع المدني في دول أوربا الغربية يجوز ان ننظر اليه ككتلة واحدة بوضع سياق نشوءه التاريخي في الحسبان. فالمجتمع المدني هناك يتمظهر بطريقة شبة واحدة "هيكلية في الغالب الاعم". فهو مجتمع مدني حديث ومتماسك في مقابل دولته "اللبرالية" الحديثة والمتماسكة.
وإن كان إعتماد التعرف على المجتمع المدني بأدوات اللبرالية الغربية يجعل المرء في موقف ناكر أو شبه ناكر لوجود مجتمع مدني "بالمفهوم اللبرالي" في السودان وفي معظم ما يسمى بدول العالم الثالث فإن البحث عن طريقة تعريف أخرى ستكون مضنية (ولو انها حتمية) لأن على أقل تقدير مصطلح المجتمع المدني في حد ذاته شأن لبرالي كما اسلفتنا. المجتمع المدني "في مفهومه اللبرالي" نتاج للرأسمالية و للثورة الصناعية.

المجتمع المدني في السودان ما قبل صناعي/راسمالي، فهو رعوي/ زراعي تقليدي في الغالب، تمظهراته الراسخة والسائدة تتمثل في القبيلة والعشيرة والطائفة الدينية. و الدولة بكل جزم تكون إنعكاس لبنيات المجتمع المدني الفاعلة (الهيكلية في الغالب الاعم)، انها إنعكاس لواقع المجتمع المدني. ففي حسباني انه وجب علينا ان نسعى الى التعرف على مجتمعنا المدني السوداني بما يتناسب وواقعنا التاريخي!. والا سنبقى كما هو حادث نحوم في دائرة من النفي وشبه النفي والاثبات والإنتقاء للتمظهرات الاجمتاعية المختلفة المعتملة في خضم المجتمع المدني السوداني.

فالمجتمع المدني السوداني لا يتمظهر في الماضي ولا الراهن مثل المجتمعات المدنية الاوروبية الا بقدر ضئيل، سبق ان اشرت اليه في محاولتي الاولي عن الانسان والمجتمع المدني في السودان. فان تم حصر المجتمع المدني كما هو عند الكثيرين في النقابات العمالية و المهنية مثل منظمات التجار والمزارعين والصناع، إضافة إلى الإتحادات الطلابية ومنظمات حقوق الانسان و االمنظمات التطوُّعية والصحافة والمؤسسات الاكاديمية الاهلية (تمظهراته المدينية) فان ذلك التعريف يبدو وجيها لاول وهلة ومريح (وذاك سر التمسك به ولو زيفا)، لكن سرعان ما تعترضه العقبات فيؤدى الى عدم.


فالتعريف " اللبرالي" للمجتمع المدني لا يستطيع ان يستوعب بنى إجتماعية كبيرة قديمة وراسخة مثل: القبيلة و العشيرة والتشكيلات الطائفية الدينية العديدة كالطرق الصوفية والمسيد والمسجد... الخ. كيف نعرف هذه التكوينات التقليدية/ الطبيعية في إطار النسيج الإجتماعي وفي مقابل الدولة؟. ذاك هو السؤال المهم في اعتقادي، والذي يحاول الكثير منا التحايل عليه بعملية النفي وشبه النفي والاثبات والإنتقاء للتمظهرات المختلفة التي تنتظم المجتمع المدني في السودان، ربما لغرض حميد في مظهره وهو السعي الى عصرنه المجتمع المدني في السودان بما يؤدي بدوره الى عصرنة الدولة. لكن تلك في اعتقادي مجرد قناعة آيدولوجية لن تقود الا الى مزيد من التشويش حيث تغيب في ثناياها الحقائق الواقعية!!!!.

والسسب الثاني جذوره في اللغة ومشتقاتها، فالكلمة "مدني" عادة ما تحال الي مدينة (الحضر). مدني بمعنى متمدن في اللغة وتعني الحضر وضدها الريف (القرية) واظن ان كلمات مثل القبيلة والعشيرة والنفير والفزعة (وهي تمظهرات اجتماعية "مدنية" أصيلة) ان لم تكن مضادة لكلمة مدينة (مدني) فهي ليست من متلازماتها بحال من الاحوال إنها من متلازمات الضد: البداوة. والنسبة الى مدينة تصح لغويا اذا قلنا "مديني". ولهذا ينحصر عند الكثيرين تعريف المجتمع المدني في تمظهراته المدنية "المدينية" ما يقتضي نفي التمظهرات الاخري "غير المدينية" والا هناك مشكلة!.

غير ان مدني لها مقابلات و مرادفات اخرى في حياتنا اليومية. فمدني بالتأكيد تعني غير عسكري، الطيران المدني، أي شخص أو شي ما عدا " الجياشة" ومتعلقاتهم فهو مدني، وهنا توجد مترادفات:
ملكي ، لابس ملكي وعربية ملاكي بمعني انها ملك صاحبها " المدني" لا الدولة/"العسكري".
شعبي ، غير حكومي. اهلي أو غير رسمي (سواءا كان شيئا أو فعلا) لا تقوم به الدولة ولاتملكه أو لا يؤول لها . ((وهذا المفهوم هو بالضبط ما اراه لائقا للاستعانة به))!.

وفي الآونة الأخيرة يستخدم بعض السياسيين كلمة " مدنية" كمرادف أو بديل لمصطلح " علمانية" حينا ولا عسكرية حينا آخر. نجد ذلك في بعض أدبيات حزب الأمة على سبيل المثال وكان الشعار الأساسي لقوات التحالف السودانية " دولة مدنية ديمقراطية موحدة".

وبعد استطيع ان اروى سببين آخرين مهمين بدورهما. الاول هو ما ذكرته لماما في المداخلة هذه (اعلاه) وهو ما اسميته بالغرض الحميد وهو السعي الى عصرنه المجتمع المدني في السودان كغاية في حد ذاته ووسيلة بها يتم عصرنة "تحديث" الدولة!. والسبب الثاني والاخير عملي وبراغماتي.... (سآتي إليهما موضحا مقاصدي في المرة القادمة)....

يتواصل....

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

بقية الاسباب:

-العصرنة والتحديث:
أغلبنا يؤمن بان الدولة اللبرالية هي الحل " اللبرالية المرشدة" أو ما اعتدنا على تسميته بالديمقراطية التعددية في السودان، لهذا معظم الناس تقف ضد الهيمنة الاحادية لاي حكومة لا يهم من يكون وراءاها يسارا، يمينا او وسطا. ولهذا السسب كانت الهبات الشعبية في اكتوبر 1964 وابريل 1985. الديمقراطية التعددية كي تكون وتستقر لا بد ان تستند على مؤسسات ذات جدارة وموثوقية كما هو حادث في أوروبا الغربية.

هذه المؤسسات ذات الجدارة والموثوقية من المأمل ان تكون جذورها في المجتمع المدني الحديث "تمظهرات المدن الكبيرة" كما هو مجرب في ارض واقع اوروبا الغربية. لهذا السبب فان معظم المعالجات لاطروحة المجتمع المدني تتعامى، تتحاشى، تنفي، لا تعترف بتمظهرات اجتماعية واقعية واصيلة وراسخة وفاعلة (تسقط من حساباتها تشكيلات اجتماعية ساطعة كالشمس مثل القبيلة والعشيرة والطائفة الدينية) لمجرد ان هذه التشكيلات محسوبة كمعوق للمشروع "الديمقراطي التعددي"!. هذه قناعة آيدولوجية قد يتفق او يختلف حولها الناس لكنها تبقى احد الاسباب الاساسية المؤدية للقفز على الواقع.

"التظاهرات الجماهيرية":
السسب الجوهري الآخير عندي (في منظومة الاسباب المشوشة) هو سهولة التنسيق عمليا بين المنظمات المدنية "المدينية" كونها تلتقي جوهريا في منظومة قيم محددة وتتشارك الحيز الجغرافي. ونلحظ ذلك جليا في مقدرة بعض هذه التشكيلات المدينية الحديثة في كثير من الاحيان على تعبئة الفئات الجماهيرية في المدينة "بالتظاهر والاحتجاج مثلا" في مواجهة عسف الدولة وفي بعض المرات استطاعت ان تسقط الحكومة (اكتوبر 64 وابريل 85) لكنها في كل المرات انسحبت قهرا امام التشكيلات الاجتماعية الاكثر تجذرا واصالة وتركت الدولة نهب لها دون ان تستطيع فعل شي. فالمنطق يقول ان في كل الحالين (اكتوبر وابريل) هناك نظام سياسي فاسد ثار الناس في أكتوبر لإجتثاث رموزه ورميهم في مزبلة التاريخ (بل ربما تقطيع رؤوسهم كما فعل الناس أيام الثورة الفرنسية) وتغيير القوانين والقواعد الإجتماعية والإقتصادية الفاسدة والتي من المفترض انها سبب الثورة الأول.
في الحقيقة لم يحدث شي من هذا الذي نقول لا في إكتوبر ولا في أبريل. بعد الثورة العظيمة "العارمة في مظهرها" في إكتوبر 64 سجن شخص واحد لمدة 24 ساعة ثم أطلق صراحه وظل كل شي كما هو. وهذا عين ما حدث بعد أبريل مع إختلاف طفيف اذ تكونت محاكمة شبه صورية لبعض رموز مايو وظلت جميع القوانين (ومنها قوانين سبتمبر) والقواعد الإجتماعية و الإقتصادية في مكانها بل أكثر رسوخا في العهد الحالي.

اود ان اقول ان التعامي عن الحقائق الموضوعية لن يؤدى الا الى احباط وفشل المتعامي.

يتواصل.... (لبنة المجتمع المدني وبنية الدولة في السودان)

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

قلنا في مقدمة هذا الخيط ان المجتمع المدني في السودان يتمظهر هيكليا ولا هيكليا على النحو الافتراضي التالي (بتصرف):

((تمظهر هيكلي:

كما اسلفت الذكر فان المجتمع المدني السوداني يتمظهر هيكليا في شكل منظمات عندها اعضاء مسجلون على الورق بغرض انجاز اهداف محدده وفق نظم وقيم ولوائح محددة غالبا ما تكون مكتوبة ومثال هذا التمظهر الهيكلي نجده في شكل منظمات "حديثة هشة، لكنها صاعدة" مثل منظمات حقوق الانسان، الاتحادات، الاندية الرياضية والثقافية و النقابات و يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "طبيعية راسخة" مثل القبائل والعشائر وعندها نظم وقيم ولوائح غير مكتوبة مثال قبيلة الشلك في جنوب السودان والعشائر المختلفة والاسر الممتدة في المدن والارياف المختلفة. كما يتمظهر المجتمع المدني هيكليا في شكل منظمات "تقليدية سائدة" مثل الطوائف الدينية ( السجادة العركية مثالا) عندها نظم وقيم ولوائح مكتوبة مرة وغير مكتوبة في بعض الحالات.

تمظهر لا هيكلي:

يتمظهر المجتمع المدني لا هيكليا في شكل احداث متكررة من وراءها اعراف وقيم وسوابق راسخة في الخاطر الجمعي. وأمثلة تمظهر المجتمع لا هيكليا كثيرة بحيث لا يمكن حصرها ويمكن الرجوع من جديد الى الاحداث التصورية التي جرت في شبشة الشيخ برير (اعلاه) على كل حال فان ابرز هذه التمظهرات غير الهيكلية تتضح في مراسم الزواج وشعائر الجنازة، والحنة والختة والنفير والفزعة بأشكالها المختلفة.

التمظهرات الهيكلية اكثر وضوحا في المدينة ومثالها الساطع في "النقابات والمنظمات الطوعية والحقوقية والصحافة". بينما التمظهرات اللا هيكلية اكثر وضوحا في الريف ومثالها مراسم الزواج، وشعائر الجنازة، والنفير والفزعة. ولو ان في كل من الفضائين يتمظهر المجتمع المدني هيكليا ولا هيكليا بنفس القدر ولكن باشكال ولاسباب ودوافع مختلفة.
قلنا وكررنا ان للتمظهرات الهيكلية نظم وقيم ولوائح وللتمظهرات اللا هيكلية اعراف وقيم وسوابق. انه الحس التنظيمي والقوة الدافعة وراء نشوء وتخلق وبروز هذه التمظهرات الاجتماعية الى السطح الخارجي، فنراها ياعيننا مؤسسات واحداث متكررة في شكل جماعات او تجمعات عندها هدف محدد وتبقى على الدوام او تنزوى ثم تعود الى البروز من جديد في وقت وافق جديدين، مثلها ومثل كثير من الظواهر الطبيعية)).

هل نذهب في رحلة صغيرة تخيلية نجوب فيها بخواطرنا الواقع:


هناك كما هو معلوم للجميع حزب سياسي سوداني اسمه الحزب الشيوعي السوداني، عقد مؤتمرا عاما قبل شهرين تقريبا، اسماه المؤتمر الخامس (وظل بعده بتفويض جديد واسمه كما هو الحزب الشيوعي السوداني). من اين جاء الحزب الشيوعي السوداني؟.

انه حزب الطبقة العاملة. اتصور انه لا بد ان يكون هناك عمال ابتداءا. العمال ينشئون نقابة (تضامن ذاتي) الهدف منها الجدل مع المخدم. ثم يأتي الحزب السياسي كتمظهر فوقي الهدف منه الجدل مع الدولة. هذا امر يبدو عاديا ومنطقيا الى حد كبير. الامر كذلك بالنسبة للاحزاب العمالية في كل من هولندا و بريطانيا "مثلا". نقابة العمال محسوبة كتمظهر مجتمع مدني بالاجماع (بالنظر الى نماذج الكتابات التي وضعتها اعلاه وحاولت نقاشها مجملا). ففي هولندا مثلا وكما ذكرت فإن حزب العمل هو تمظهر فوقي "موضوعي" للنقابات العمالية، والحزب الديمقراطي المسيحي هو حزب المنظمات الكنسية في ثوبها المدني الحديث وحزب اليسار الاخضر هو حزب المنظمات الحقوقية والبيئية والحزب اللبرالي هو حزب اتحادات التجار والصناع... الخ. لا يوجد حزب سياسي في هولندا يجد خلفيته في العشيرة او القبيلة. لا يمكن تصور ذلك الامر بسهولة. لانه ببساطة فان القبيلة والعشيرة تشكيلات غائبة منذ زمن بعيد عن ساحة المجتمع المدني الهولندي. وان تراءى بعضها للعيان فما هي الا حالة فلكلورية، ليس الا. ولو حدث وان تخلق مثل ذاك الحزب على خلفية وطنية "شوفينية" فانه غالبا ما يعاني من مشكلات جوهرية تؤدى الى موته عاجلا، وحدث في هولندا قبل عدة سنوات ان تم اغتيال رئيس حزب يميني "وطني" متشدد هو البروفسير بن فرتاون بواسطة متشدد آخر من أحدى منظمات حماية البيئة بحجة انه خطر على التعايش السلمي في هولندا، وسرعان ما انفض جمعه . هل نستطيع ان نحصي احزابا سياسية سودانية أخرى تجد خلفيتها في نقابات أو اتحادات او منظمات حقوقية اخرى، غير المثال الذي اتخذناه (الحزب الشيوعي)؟. بمعنى حزب أو احزاب سودانية تجد خلفيتها بالكامل في المجتمع المدني بمعناه اللبرالي؟. هو أمر متوقع نظريا حدوثه بأخذ حالة الحزب الشيوعي السوداني في الإعتبار. لكني " شخصيا" اجد مشقة في ذلك!.

ولو أن المرء يستطيع ان يعدد بارتياح مجموعة لا حصر لها من التيارات السياسية القائمة على خلفية تمظهرات اجتماعية مدنية أخرى اكثر وضوحا ورسوخا: إثنية/قبلية/عشائرية وطائفية دينية.

هناك كما هو معلوم للجميع جماعة إثنية سودانية اصيلة اسمها "البجا" في شرق السودان (تتكون من ثلاث قبائل اساسية هي الهدندوة، البني عمار والامرأر) هذه القبائل بدورها تتكون من عشائر وافخاذ واسر كبيرة ممتدة. هذه الجماعة انتجت حزبا سياسيا واسمته بإسمها(بدون لف ولا دوران):هو مؤتمر البجا. بهدف الجدل مع الدولة.
و كذا عند قبيلة الرشايدة: الاسود الحرة، وعند نوبي الشمال: حركة كوش، وعند الطائفة الميرغنية: الاتحادي الديمقراطي (ثم وراءه قبائل وعشائر معروفة)، وعند طائفة الانصار: حزب الامة (ثم وراءه قبائل وعشائر معروفة). وكله بهدف الجدل مع الدولة.

ماذا عن هؤلاء؟:

المؤتمر الوطني "الحاكم"؟. الحركة الشعبية "الحاكمة"؟. المؤتمر الشعبي؟. الحزب الجمهوري؟. حركة حق؟. المؤتمر الوطني "المعارض"؟. حركة المهجرين؟. أتحاد جبال النوبة؟. حركة تحرير السودان "دارفور"؟. حركة العدل والمساواة "دارفور"؟. الجنجويد "دارفور"؟. (انهم يتجادولون مع الدولة كل بطريقته) اي ان لديهم برامج سياسية محددة الغرض الأساس منها هو مصلحة التشكيلة الاجتماعية المدنية "الاصيلة" الخلفية. ماذا تكون تلك الخلفية؟.

أحسب ان كل هذه التشكيلات السياسية المذكورة آنفآ تأتي في المقام الاول كتمظهر "فوقي" قائما على تمظهرات "أصيلة" اجتماعية مدنية: إثنية أو/و قبلية أو/و عشائرية او/و طائفية وقليل منها يجد بعض جذوره في التمظهرات الاجتماعية المدنية "المدينية" ولنقل "خلطة". والحزب الشيوعي السوداني ليس إستثناءا!.

صورة مرعبة؟. اليس كذلك؟. لكنها الحقيقة تمشي على قدمين!.

عليه قد لا يكون متاحا للمرء ان يرى فرقا "حاسما" في نظام الدولة وبنيات المجتمع المدني في فضاء المسافة التاريخية القائمة بين عمارة دنقس/عبد الله جماع الي البشير/سلفاكير .

يتواصل...... (لبنة المجتمع المدني وبنية الدولة في السودان)

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

هل الاحزاب السياسية تحسب في عداد المجتمع المدني؟.

الاجابة من عندي، بكل تأكيد: نعم.

الاحزاب السياسية آلية للجدل مع الدولة لكنها ليست الدولة.

كما ان الاحزاب السياسية لا تكون الا كتمظهر فوقي لتمظهر اجتماعي "مدني اصيل"، بمثلما شرحت سلفا.
وبعبارة اخرى فإن الاحزاب السياسية تكون في الغالب مجرد تجلى واعي للتجلى اللتلقائي او الاصيل للمجتمع المدني الغرض منه التعبير عن مصلحة الجماعة المحددة في مستوى نقطة تلاقي المصالح مع الاخرين (الدولة). بينما يكون هدف التجلى الاصيل "في حالة القبيلة" هو مواجة الطبيعة والآخر المطلق (اي انه هدف كلى وعمومي) وفي حالة النقابة (العمالية مثلا) في ان الهدف غالبا ما يكون محصور في افق التضامن الذاتي في مواجهة المخدم (مالك المصنع مثلا، ايا كان) وهكذا دواليك.

أعرف ان هناك جدلا كبيرا يدور حول هذا السؤال، ليس في السودان فحسب بل على وجه العموم، فمثلا:

في أحد وثائق الأمم المتحدة يتعرف "التمظهر الهيكلي" للمجتمع المدني على النحو البسيط التالي:

The United Nation Development Program UNDP defines the Civil Society Organizations as follows
:
منظمات المجتمعات المحلية (community based org.) والحركات الشعبية الأهلية (indigenous people's movements) . ومنظمات حقوق المرأة والجماعات العاملة في مجال البيئية ومراكز البحث الفكري والتكتلات الدينية.

تعريف الأمم المتحدة للمجتمع المدني يستوعب التشكيلات الاجتماعية التقليدية والمجموعات الدينية "الطائفية" والاثنية والقبلية/العشائرية.
غير إنه لا يعترف بالأحزاب السياسية وزيادة على ذلك فإنه يستثني النقابات والإتحادات العمالية من سياق تعريفه (لأسباب سأشرحها لاحقا بحسب وجهة نظري الخاصة).
وعلى كل حال فتعريف الامم المتحدة للمجتمع المدني العالمي خطوة متقدمة في طريق التعريف الذي أسعى إليه للمجتمع المدني السوداني. وبحسب تعريف المنظمة العالمية للمجتمع المدني فإن المنظمات والتكوينات التالية تعتبر مجتمع مدني:
مركز الدراسات السودانية، السجادة العركية، دار الختمية، نادي المهندس، زريبة الشيخ البرعي، نادي المحس والسكوت، حركة أبناء الجعليين لإعادة إعمار المتمة، مسجد اولاد الحلو، عشيرة بني هلال، تجمع سلاطين الدينكا، كنيسة الأبيض، منظمل أمل، المنظمة السودانية لحقوق الإنسان، الجمعية السودانية لحماية البيئة، إتحاد النساء السوداني، الجامعة الاهلية، تضامن أبناء جبال النوبة، وأي عشيرة من قبيلة الشلك.

أما نقابة أطباء السودان واتحاد عمال السودان فلا يشملهما هذا التعريف، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الأمة والحزب الشيوعي السوداني (على سبيل المثال).


يتواصل...... (لبنة المجتمع المدني وبنية الدولة في السودان)

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ملاحظات متفرقة:

1- اعرف انني استخدمت جملة من الكلمات والعبارات في سياق حديثي هذا من ابداعي الخاص (وضعتها احيانا في مقام المصطلحات المتفق عليها وما هي بالضرورة كذلك) مثل التمظهر "الهيكلي" و "اللا هيكلي" و "المجتمع المدني المديني" و "المجتمع المدني القروي أو الريفي" و "نظم وقيم ولوائح" و"اعراف وقيم وسوابق" و "القيم الدافعة والجاذبة" و " تشغيل منظومة القيم" الخ. وما دعاني الى ذلك هو انني لم اجد وسائط اخرى متفق عليها "وتناسبني" لتوصيل فكرتي في تعريف وتوصيف المجتمع المدني في السودان " المختلف والمخالف" في تقديري عن السياقات الاجتماعية الاخرى التي حظيت بالدراسات الاولى والمبدئية. فخرجت عن هذه الدراسات تلك المصطلحات والتعابير المحددة التي تناسب الظاهرة بافضل ما يكون في فضاءها الزماني والمكاني المحدد وهو أوروبا الغربية!.
اتمنى ان يكون ذلك عذرا مقبولا بنفس القدر الذي اتمنى ان تكون فكرتي واضحة او قابلة للفهم الموضوعي.

2- فضلت مؤقتا حجب التعليقات القليلة التي وصلتني عبر بريدي الخاص لاسباب فنية!.

3- اعرف ان الموضوع معقد وشائك ويحتاج الى جهد اكبر واشمل من هذا الذي افعل ولكن بتضامن جهود كل المهتمين "والعارفين" ستتضح الرؤيا يوما ما قريب. وكلما اطمح اليه هنا هو ان يكون كلامي مستفزا لهمم العارفين!. وكم ارجو ان يكون حلمآ مشروعا!.

4- بعد الفراغ من عرض بعض افكاري الصغيرة الاخرى حول الانسان والدولة والمجتمع المدني في السودان، سألتئم من جديد مع ذاتي الاصيلة ك"ناشط" واعمل على وضع مقترحات عملية قد تكون قابلة للتنفيذ على ارض الواقع من قبيل المسودة التي نشرت في مواقع اخرى بداية هذا العام حول "محور المجتمع المدني السوداني" واشياء اخرى.

-----قلت ان تلك مجرد متفرقات أو ما لزم توضيحه------- ويتواصل.....
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

عود الى تصنيف الأمم المتحدة (اعلاه) للمجتمع المدني

قلنا أن تعريف احدى مؤسسات الامم المتحدة (البرنامج الإنمائي) UNDP
استثنى النقابات العمالية والاحزاب السياسية من ان تكون في عداد منظمات المجتمع المدني. لم يحدد لماذا!.

لكن نستطيع ان نخمن، اذا ما اتفقنا ان النقابات والاحزاب وجب ان ينظر اليها كمجتمع مدني (وهذا ما أراه). أعتقد ان هناك سبب أساسي جعل "البرنامج الانمائي للأمم المتحدة" يستبعد تلك الكيانات وهو "التمويل". بمعنى ان اغفالها وعدم ذكرها في حساب المجتمع المدني يحرمها من المطالبة بالتمويل أوالمعونة باشكالها المختلفة، الشي الذي يبقى متاحا للمنظمات الاخرى المحسوبة في عداد المجتمع المدني. ومعروف ان ميزانية الامم المتحدة عموما تأتى من اشتراكات ومعونات الدول الاعضاء. والاحزاب كما هي طبيعتها ووظيفتها في جدل مستمر ومباشر مع السلطات السياسية، وهي نفسها غالبا ما تكون احد اهم الادوات المفضية الى تشكيل الحكومات او تغييرها بحيث تنصب قدرا من اعضاءها في السلطة التشريعية (البرلمان) او السلطة التنفيذية (الحكومة) او كليهما، ثم تظل عادة منظمات مجتمع مدني ولا يصبح الحزب جزءا او ملكا للدولة الا في حالات نادرة لا يعتد بها.
لكن بعد فان اعتبار الاحزاب في عداد المجتمع المدني قد يشكل حرجا كبيرا للمنظمة العالمية في مواجهة بعض الدول الاعضاء والتي قد تعتبر ذلك تدخلا في شئونها الخاصة ربما بسسب دعم مالي قد يكون غير متوازن للاحزاب السياسية.

أما بالنسبة للنقابات فالفكرة تكون نفسها، فالمصنع مثلا (مكان عمل العامل او موقع الموظف) كثيرا ما يكون ملك شركات كبيرة متنفذة بمثل ما قد يكون ملك الدولة، واي دعم مالي للنقابة قد يصبح خصمآ على المالك "صاحب المصنع". ودرءا لمثل هذه المشاكل، من قبيل : (قلنا المصنع حق الدولة .. والعمال أصحاب الحق هي اللي تقرر والتتولى هي البتحدد سير المصنع إيد العامل هي القاع تنتج ما المكنات الأمريكية. "الشاعر حميد"). عليه تم شطب النقابات (trade unions) والاحزاب السياسية من "اللستة"!. أو هكذا اتصور.

بل زيادة على ذلك فإن تعريف الامم المتحدة لم ينطق صراحة بعبارة "منظمات حقوق الانسان" (لذات السبب) وانما ذكر فقط: "منظمات حقوق المرأة" من باب اللطف والكياسة (راجع التعريف موضع الحديث "اعلاه")!..


ويتواصل....

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

وهنا خبر صغير متعلق بالأمر من واقع ملابسات الحياة اليومية (وفي منتهى العادية)!:


وزير الخارجية: الزيارة حزبية و ليست حكومية
Mar 29, 2009

أجراس الحرية: واشنطن: عبد الفتاح عرمان

كشف وزير الخارجية و القيادى بالحركة الشعبية دينق الور فى تصريح خاص
ل(أجراس الحرية) بان زيارة وفد الحركة الشعبية لواشنطن حزبية و ليست حكومية قائلاً:" زياتنا لواشنطن حزبية و ليست حكومية، و أضاف:" سوف نتلقى بنافذين فى البيت الابيض، الخارجية، الكونغرس و منظمات المجتمع المدنى الامريكية و الجالية السودانية....الخ........

تعليق مقتضب:

احدا اهم الاحزاب الحاكمة (يشكل جزءا من الحكومة) ولا يكون في ذاته حكومة ويتصرف في حل عنها، كمنظمة مستقلة في مجاله ك"منظمة مجتمع مدني". أرى ذلك منطقيا وقد تكون وجهة نظر الكثيرين. بل قد يرى البعض ان ذلك امرا لا يستحق الذكر من جراء عاديته. (ولنحقق في هذا الامر الذي يبدو في مظهره عاديا وبسيطا في المرات القادمة).

والآن ادعوكم لشي آخر مختلف لكنه في ذات السياق... لنتحرى معآ، بعض الشي، في أمر الحركة الشعبية نفسها كمنظومة سياسية جبارة شغلت الافاق في بلادنا. ماذا تكون "خلفيتها" ولماذا والى أين والخ؟.

بمثل ما تقصينا قليلا "بالسؤال" عن الحزب الشيوعي و حزب "البجا" حق لنا ان نتساءل من اين جاءت الحركة الشعبية؟. الحركة الشعبية وقائدها التاريخي الراحل د. جون قارانق وفكرتها عن سودان جديد، من أين؟.

يتواصل..... (لبنة المجتمع المدني وبنية الدولة في السودان)

محمد جمال الدين
صورة العضو الرمزية
مصطفى آدم
مشاركات: 1691
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:47 pm

مشاركة بواسطة مصطفى آدم »

مُسجَّل حضور دايم في مقاعد هذا الدرس المفيد جداً في الكتابة المُنيرة

مصطفى آدم
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

هل جاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان ابتداءا، من:
-الدينكاد (القبيلة)؟.
-الدينكا والنوير والشلك (القبائل)؟.
-الدينكا والنوير والشلك والنوبة والفونج والانقسنا (خطوط قبلية واثنية )؟.

و الاجابة العاجلة من عندي: نعم. وكل الاجابات اعلاه صحيحة، بل تبدو بدهية. وربما تكون هناك اجابات أخرى بدورها صحيحة.
وهو أمر قد يكون معروف لأي تلميذ في مدرسة الاساس. وعليه فانني لم آتي بهذا المثال لمناقشة البدهيات. ولكن لنتأمل في قضية أكثر تعقيدا، وهي دور القبيلة (ولوازمها) في تشكيلة المجتمع (المدني) والدولة في السودان.

هل تستطيع القبيلة ان تضطلع بأي بدور موجب (تقدمي) في مواجهة قضايا الديمقراطية و السلام الشامل والتنمية العادلة والمتوازنة والوحدة الوطنية؟. كيف؟. أم ان دور القبيلة في كل الاوقات وفي مواجهة جميع هذه القضايا هو دور سالب ومدمر (ولا للقبلية ولا للطائفية)؟. نعم لمن؟.

كيف استطاع جون قارانق ان يحشد خلفه القبائل وبعض افرادها عراة كما ولدتهم امهاتهم وجوعى واميين وحانقين، ويقول لهم: سنقاتل من اجل حقوقونا و "حقوق الاخرين" : (سودان دا كدا ما صاح، سودان دا ما بتاع دينكا ما بتاع جعليين ما بتاع شايقية ما بتاع دناقلة، سودان دا الازم يكون بتاع كل الناس): سودان جديد. ثم يخرج الينا من الغابة معفرا بالطين والتراب "فارسا منتصرا" يحدثنا عن سودان جديد، فتستقبله الملايين في ساحة الخرطوم احتفاءا، أناس من مختلف القبائل والعرقيات يغضون الطرف عن اصله وعرقه، ثم تضاء له كل عام ملايين الشموع؟.

ودور القبيلة ايضا جدير بالتأمل في حالات اخرى مشابهة مثل: البجا (مؤتمر البجا)، الرشايدة (الاسود الحرة)، الزقاوة (حركة العدل والمساواة "خليل")، الفور (حركة تحرير السودان "عبد الواحد النور")،المحس والسكوت والحلفاويين (حركة كوش)، المناصير (حركة المهجرين) والنوبة (اتحاد عام جبال النوبة). كيف تسطيع القبيلة ان تتمخض عن برنامج سياسي وما هي الضرورة؟.

والسؤال بلا شك يجوز ان نطرحه حول دور الطائفة الدينية (؟).



يتواصل..... (المجتمع المدني والدولة في السودان)

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

الأستاذ مصطفي ادم،


شكرا للمجاملة الجميلة.

ومرحبا بك.

محمد جمال
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

خططت منذ البداية على إدراج مساهمتي في هذا البوست حول " الانسان والمجتمع المدني والدولة في السودان" في ثلاث خطوط عريضة:

1- الانسان "الفرد" والمجتمع المدني في السودان(حلقة 1)
2- المجتمع المدني والدولة في السودان (حلقة 2)، و
3- الانسان والدولة في السودان (حلقة 3)

ولو انني أعرف أن مثل هذه المعالجة الفنية قابلة للاختراق في اي لحظة بفعل طبيعة ووظيفة هذا المنبر، وليس بالضرورة انني اكتب مقالات وانما أدير "خيطآ" خاصتي للنقاش، واطرح في ثناياه بعض افكاري.

وبعد، وضعت تلك الخطوط العريضة على أمل أن تساعد في تسيهل متابعة المتشابكات العديدة التي تنتظم حديثي و كوني اعلم مسبقا انني اتناول موضوعات غاية في التعقيد في واقعها وميدانها الموضوعي. ولعلها تحتاج الى قدر عظيم من الدربة والحنكة والوقت لقراءتها و مقاربتها و تناولها نظريا، وما أظنني سوى رجل شجاع "بنوط المشنقة والمدفع اب ثكلي" (الجري دا ما حقي، حقي المشنقة والمدفع اب ثكلي)!.

وبعد بعد، لا علينا... لنتقدم حثيثآ الى الأمام.

في اللحظات الفائتة كنا نتحدث عن طبيعة العلاقة بين الدولة والقبيلة/العشيرة والطائفة الدينية، وما نزال، اذ لا ننسى أن لدينا تساؤلات وجب الوقوف عليها بعد بروية حول الحركة الشعبية والحركات الاخرى المشابهة التي اتخذانها كأمثلة توضيحية. وتواصلا مع تلك الفقرة موضع الشأن هنا، أرجو أن تقرأوا معى هذا الخبر من صحافة اليوم:


((باقان: وزراء الحركة فى الخرطوم غاضبون
الثلاثاء, 31 مارس 2009 13:54

أجراس الحرية: واشنطن: عبد الفتاح عرمان [باقان] أقام يوم امس سفير السودان لدى واشنطن مادبة عشاء على شرف وفد الحركة الشعبية الزائر لواشنطن هذه الايام و التى حضرها عدد مقدر من السودانيين بمختلف اعراقهم و سحناتهم، ثم خاطب الحضور رئيس وفد الحركة الشعبية و الامين العام باقان اموم اوكيج قائلا:" السودان الان على مفترق طرق و هنالك ثلاثة خيارات تواجه السودان وهى إستمرار الحرب فى دارفور و مشكلة محكمة الجنايات الدولية و هذا الخيار بالغ التكلفة، الخيار الثانى هو ربما نحافظ على البلد و نجلب السلام لدارفور وهذا خيار سوف يحافظ على البلد موحدة ولكن سوف يترتب عليه تنفيذ إتفاقيات السلام التى وقعها المؤتمر الوطنى معنا فى الحركة، إتفاق التجمع، جبهة الشرق و إتفاقية سلام دارفور مما يهيىء الجو الديمقراطى لانتخابات حرة و نزيهة لان تنفيذ الإتفاقيات يعنى تغير القوانين المقيدة للحريات لتتماشى مع دستور الفترة الإنتقالية. هذا هو الخيار المفضل للحركة الشعبية حتى يتم الحفاظ على وحدة السودان وهو خيار ينتظر دعمكم ايضاً لان ما يحدث الان جعل من الإنفصال جاذباً اليوم و من خلال لقاءاتى مع الناس فى الشمال و الجنوب و خارج السودان اؤكد لكم بان 90% من الجنوبيين يفضلون الإنفصال اليوم و لذلك نحن فى الحركة الشعبية اتينا بخيار الوحدة الجاذبة فى إتفاقية السلام الشامل وهو خيار يجب العمل له و لكن حتى الان ليس هنالك عمل فى هذا الإتجاه بل جميع وزراء الحركة فى الخرطوم غاضبون لانهم مهمشون فى الحكومة ولا يريدون العمل فى الخرطوم ولكنهم ينفذون مهاهمهم التى اوكلتها لهم قيادة الحركة الشعبية.
و الطريق الثالث او الخيار الاخير هو تغير السودان بجعله علمانى لا مركزى الحكم و يحترم فيه كل الناس على اختلاف الوانهم و سحناتهم و هذا ما نسميه فى الحركة الشعبية بالسودان الجديد وهو من افضل الخيارات الموجودة على الساحة السياسية الان. و الحركة الشعبية سوف تطرح نفسها كبديل للمؤتمر الوطنى فى الإنتخابات القادمة و التى سوف نفوز بها بدعمكم و سندكم لنا. نصحنا اصدقاءنا فى المؤتمر الوطنى بالتعاون مع محكمة الجنايات الدولية و هذا هو موقفنا فى الحركة الشعبية، وعملية طرد المنظمات الإنسانية فى دارفور لم نستشار فيه وهو قرار إتخذه المؤتمر الوطنى لوحده ونحن طلبنا منهم العدول عن هذا القرار. وفى الختام طالب الامين العام للحركة سفير السودان فى واشنطن باستقبال جميع السودانيين فى مكتبه و بيته و خصوصاً من الاحزاب التى ليس لديها تمثيل فى حكومة الوحدة الوطنية مثل حزب الامة و الشيوعى و ابناء دارفور-على حد قوله- الجدير بالذكر بان وفد الحركة الشعبية فى زيارة رسمية للولايات المتحدة الامريكية حتى يوم الجمعة القادم من الإسبوع الحالى)).

يتواصل.........(المجتمع المدني والدولة في السودان)

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

السودان الجديد مقابل السودان القديم



السودان القديم؟.

تعنى الحركة الشعبية بالسودان القديم (بتصرف مني وكما افهم): الفترة الممتدة بين العهد التركي/المصري وحتى الآن، بخصائصها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحددة. ومن أهم خصائص السودان القديم السياسية هي سيطرة الصفوة الاثنية/القبلية الشمالية على السلطة السياسية كل هذا الوقت بدون استثناء يمكن ذكره. وسيطرة الصفوة الاثنية/القبلية الشمالية على الثروة العامة كل هذا الوقت . وسيطرة الصفوة الاثنية/القبلية الشمالية على ادوات القمع الثقافي عبر استخدام جهاز الدولة كل هذا الوقت... وما يتبع كل ذلك من استغلال للآخرين " الجنوبيين" وصل في الماضى الى حد بيعهم عبيدا في اسواق النخاسة، وجاء بعده حرمانهم من حقوقهم الاساسية "في التنمية البشرية والمادية" كمواطنين في بلادهم المفترضة. كل هذا السوء حدث من الشماليين دون تمييز سواءا كانوا من الوسط، أو الشرق أو الغرب أو اقصى الشمال، لا فرق.

تلك هي اهم الاسباب التي دعت الجنوبيون لرفض الاستقلال الوطني بالطريقة التي حدث بها عام 1956، ومن ثمة التمرد على المركز السياسي في الخرطوم ومحاربته ما يزيد عن خمسين عاما (منادون بوضع جديد ومختلف عن ما هو قائم) حتى اتنهت هذه الحروب اجرائيآ في العام 2005 وبالطريقة المعلومة للجميع.

السودان الجديد؟.
هو ببساطة سودان المساواة بين المواطنين السودانيين بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية او الاقليمية كما هو سودان العدالة بمعناها الشامل. هذا هو بتبسيط شديد فهم الحركة الشعبية المعلن في كل الاوقات للسودان "القديم" وبديله "الجديد".
It is man to man show!.
جنوب سياسي في مواجهة شمال سياسي
صفوة جنوبية في مواجهة صفوة شمالية
جنوب ديمغرافي في مواجهة شمال ديمغرافي
جنوب جغرافي في مواجهة شمال جغرافي
ثقافة جنوبية في مواجهة ثقافة شمالية
حق جنوبي في مواجهة باطل شمالي
وعي جنوبي جديد في مواجه فهم شمالي قديم..الخ...

أي انه كان في كل الاوقات الماضية هناك كتلة "جنوبية" في مواجهة كتلة "شمالية". الامر لم يعد كذلك ابتداءا من العام 1989 (الانقلاب الاسلامي العسكري) فانفجر فيضان غير مسبوق في تاريخ البلاد للحس العرقي/القبلي في مقابل الكسب السياسي.

فذاك الفهم او قل الوعي "الجنوبي" بمعناه الجغرافي والديمغرافي، انسكب بغتة فوق كل صحن السودان فتلقفته مجموعات "ديمغرافية" اخرى تشكل جزءا اصيلا من ذات الشمال الجغرافي لأسباب مختلفة قليلا او كثيرا عن بعضها البعض، لكن تم تلخيصها جميعا في كلمة واحدة، وهي: "التهميش". اكثر هذه المجموعات صيتآ وشهرة: في دارفور (الفور والزغاوة والمساليت) وفي الشرق (البجا واخيرا جبهة الشرق) وفي جبال النوبة (النوبة) وفي النيل الازرق (الفونج والانقسنا) وفي اقصى الشمال (النوبيون). عندها اخد كثير من الناس في الوقت الراهن يتحدثون عن شمال سياسي لا جغرافي، فالسودان القديم "الجغرافي" في خضم هذا الصراع المتمدد في كل الارجاء اصبح هو سودان قديم "معنويا" لا ماديا "جغرافيا". واضحى السودان الجديد يعني: التقسيم العادل للسلطة والثروة المحتكرة بواسطة مجموعة سياسية محددة. لكن ايضا في هذا السياق الجديد ربما عنى السودان القديم (الجغرافي) الوسط النيلي في كثير من لاحيان. وتحدث في كثير من المرات الاشارة الى الاصول العرقية الى سكان هذا الوسط النيلي باعتبارهم يعتبرون انفسهم عربآ (فهم عرب إذآ) في مواجهة الكتل الطرفية الاخرى والتي غالبآ ما اضحت تعتبر نفسها افريقية خالصة (فهم افارقة إذآ)!.

مما يعني ان الكتلة "الشمالية" (في سياق هذا الفهم) بدأت تتحلل أو تتمايز في مواجهة الكتلة الاخرى "الجنوبية" المتماسكة على الدوام في حد المبادئ العرقية والمطالب السياسية الجوهرية في مواجهة الآخر، هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى فان فكرة السودان الجديد تكسب مؤيدين جدد لا حصر لهم ولو بفهم مختلف عن الفكرة عند انطلاقتها الاولى، بحيث اصبحت عبارة السودان الجديد عند اللاعبين الجدد تعني اعادة تقسيم السلطة والثروة على "القبائل" المكونة للسودان (التشكيلات السياسية للقبيلة)ومعظمها يحمل السلاح. وبشكل مجمل فانه يمكن القول بان هناك تحالف عريض يتخلق بين قبائل (اثنية) الاطراف المهمشة في مواجهة حلف قبائل (اثنية) الوسط المسيطرة. ومهما يكن في محتوى هذه الدعوة من خطل او صواب فان القافلة تسير في تلك الوجهة وهناك من الادلة الكثير. ولنقرأ الان على "سبيل المثال" الخطاب السياسي "أدناه" لحركة كوش فى الجلسه الافتتاحيه لاجتماع مندوبى حركات وقوى الهامش السودانى بالولايات المتحده الامريكيه. وهو خطاب ثورى ومتوازن من وجهة نظري الذاتية ومع ذلك فهو اصدق تعبير للصورة في كلياتها:


يتواصل.........(المجتمع المدني والدولة في السودان)

محمد جمال الدين
أضف رد جديد