سقطة العلامة ابن خلدون

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

سقطة العلامة ابن خلدون

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

أراء جريئة جداً‮ ‬في عالم ‮ ‬استقرت شهرته‮ ‬تاريخياً‮ ‬وعالمياً

سقطة العلامة ابن خلدون

‮ ‬سعيـد بوخليـط [email protected]


ستلبث،‮ ‬صورة سقراط متجرعا السم،‮ ‬فداء للحقيقة.المرجعية المثلي‮ ‬لما ينبغي أن يكون عليه المثقف،‮ ‬أو العارف بسر النار.اعتبارا،لأفق عصره وكذا مصير المجموعة الانسانية التي ينتمي إليها‮. ‬فنادرا،‮ ‬إن لم يكن منعدما،‮ ‬استساغة حديث‮ "‬سلبي‮" ‬عن مثقف وازن،‮ ‬فما بالك‮ ‬بمؤسس من بناة الحضارة،كما الشأن مع ابن خلدون،ومن علي منواله‮.‬

في مقام كهذا،يختلط لدينا‮ ‬غالبا التهيب بالانذهال،‮ ‬إلي درجة التوثين والتقديس‮. ‬هكذا‮ ‬،لن تذهب الجرأة العقلية،بأي واحد منا،مهما بلغ‮ ‬دماغه فطنة و اتساعا لحمولة الاختلاف،‮ ‬كي يعثر لدي ديكارت مثلا،عن فضيحة بشكل من الأشكال،‮ ‬تخلخل صرحه الفلسفي‮. ‬أو،‮ ‬يبرز عند ابن رشد تناقضا فجائعيا بين مادعا إليه فكره،‮ ‬ثم تصرفاته علي مستوي حياته اليومية‮. ‬إلخ‮.‬
بمعني،‮ ‬ذاك التطابق الهوياتي،‮ ‬في أقصي تجليه الميتافيزيقي،بين الانتاج المذهبي للمفكر،‮ ‬وممارسته التجريبية‮. ‬اللهم،‮ ‬ما كان يدخل في إطار الجانب الشخصي،‮ ‬المحض لحيواتهم،‮ ‬ولا يمس من قريب أو بعيد منظومتهم المفهومية،‮ ‬أو يخل بقاعدة مماهاة المفكر لفكره،‮ ‬حينما يختبره الموقف و المسؤولية‮.‬
لقد نمذج لنا التاريخ،‮ ‬حالات كثيرة عن علماء وفلاسفة و أدباء وروائيين،‮ ‬مارسوا الشذوذ واللواط ومختلف الانحرافات الجنسية،‮ ‬وعاشوا يومياتهم متسكعين وبوهيميين ومعربدين‮ ... .‬ذلك شأنهم الخاص،واختياراتهم الفردية،‮ ‬ولايحق لأي محاكمتهم عليها‮.‬
ما يهم أساسا،‮ ‬السلوكات الموضوعية المفصلية،‮ ‬التي بانتقالها إلي دائرة العام،‮ ‬تحول مجري التاريخ نحو هذا المنحي أو ذاك المنتهي.عندما،‮ ‬تطرح الأبعاد الأنطولوجية الكبري‮: ‬الشجاعة،‮ ‬الوفاء‮ ‬،الاختيار،‮ ‬المصير،الرهان،‮ ‬التحدي،‮ ‬المجابهة،‮ ‬إلخ‮. ‬وهي المرتكزات،‮ ‬التي استفاض في تحليلها،‮ ‬الفلاسفة الوجوديون وجل منظري التجارب اليسارية،‮ ‬إلي حد أن سارتر سيتنكر مطلقا لجدوي الأدب،‮ ‬حينما يعجز هذا الأدب،عن القيام بشيء لصالح الإنسان في لحظاته المأساوية‮.‬
بالنسبة،‮ ‬لبيوغرافيا مفكري أوروبا البارزين،‮ ‬تموضعت حالات رصدها المختصون ولاسيما المولعون بالخبايا السيرية،‮ ‬من بينها مثلا،‮ ‬تصنيف النسق الفلسفي الهيجيلي ضمن الاتجاهات الرجعية،‮ ‬وتمهيده الطريق أمام أنظمة حديدية كما الشأن مع بسمارك وهيتلر‮.‬
أو أن ألتوسير‮ ‬،‮ ‬استمر في فترة من الفترات منتجا إيديولوجيا للحزب الشيوعي الفرنسي،علي الرغم من الأخير أضحي كتلة عقائدية جامدة،‮ ‬يبرر كليا الممارسات السياسية لموسكو التي تحولت بدورها إلي وجه إمبريالي،‮ ‬مع أن ألتوسير مفكر لامع،‮ ‬ولايبدو أنه حقا منسجم بانفتاح تأويلاته الفلسفية الذكية،‮ ‬مع انتمائه التنظيمي البيروقراطي‮.‬
أو،شيطنة الموقف السارتيري من الفلسطينيين والعرب إبان حرب1967‮ ‬،‮ ‬وتصنيفه ضمن الدعاية الصهيونية،‮ ‬بالرغم من شهرة سارتر الواسعة،‮ ‬كمدافع صلب بالقلم والقول والممارسة،عن كل الشعوب المناضلة من أجل حقوقها‮... .‬
لكن أبرز حالة،‮ ‬في هذا الإطار تلك النقطة السوداء التي ظلت لصيقة بمسار مارتن هيدغر،‮ ‬لأنه رغم عقله الجبار ونظريته الغارقة في التجريد،‮ ‬رضي لنفسه الانسياق المستلب وراء المنظور النازي،‮ ‬الذي يتنكر لأبسط أوليات العقل،‮ ‬و إن كان هيدغر يعثر بسهولة لكبوته‮ ‬،‮ ‬عن أسبابها ودواعيها المقنعة من خلال الفوهرر وذات القائد التي تبلور نداء القوة‮.‬
لم أكن أعلم قطعا،‮ ‬أن ابن خلدون العالم الاجتماعي الجليل،‮ ‬سيخذل فكره وتراثه وقومه،‮ ‬موظفا بطريقة أكثر من ميكيافلية،‮ ‬رمزيته المعرفية وشهرته وحظوته لدي علّية القوم،‮ ‬وخاصة تطلعه السياسي،‮ ‬كي ينتهي في أواخر حياته منحنيا جاثما علي ركبتيه،‮ ‬يقبّل يد تيمورلنك زعيم التتار،‮ ‬الذي كانت جيوشه تحاصر أسوار دمشق‮. ‬ابن خلدون،‮ ‬لم يكن يطلب خلاصا للمدينة وأهلها،‮ ‬بل يلتمس فقط لنفسه ملجأ آمنا‮. ‬
الفقيد الكبير،الروائي والباحث والمناضل عبد الرحمن منيف،‮ ‬استعاد حيثيات هذه الواقعة،‮ ‬عبر دراسته لمسرحية سعد الله ونوس‮" ‬منمنمات تاريخية‮". ‬نص،‮ ‬يطرح مضمرا إشكالية المثقف ودوره التاريخي وكذا حدود ارتباطه الأخلاقي بما يؤمن به‮:(( ‬العلاقة بين المعرفة والسلوك،دور الثقافة والمعرفة،‮ ‬وهل يجب أن يكونا في خدمة القوة والسلطان،‮ ‬أو في زيادة وعي الناس وصقل أرواحهم،‮ ‬العلاقة بين الطموح المشروع للمثقف وإغراءات السلطة والمال،‮ ‬ثم ماذا يعني المثقف‮...‬هل هو مجرد تقني أم صاحب وجهة نظر وضمير؟‮)).(‬عبد الرحمن منيف‮: ‬لوعة الغياب‮. ‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر.والمركز الثقافي للنشر والتوزيع.الطبعة الثالثة‮ ‬2003‭.‬‮ ‬ص‮ ‬30‮).‬
التقط،‮ ‬سعد الله ونوس،‮ ‬فترة زمانية قصيرة لا تتعدي الشهرين،‮ ‬لكنها مفصلية في حياة ابن خلدون‮. ‬وتشير أساسا إلي حقبة إقامته بدمشق أثناء حصار تيمورلنك لها،‮ ‬ومايقتضيه الوضع من ترقب لنوعية التصرف الممكن صدوره عن رجل من عينة ابن خلدون‮. ‬هو ذاته الإشكال،‮ ‬الذي يتربص بجميع المثقفين في علاقة أولا بذواتهم وضمائرهم،‮ ‬إلي أن تبلغ‮ ‬أحيانا تصوفية الربط بين النظر والعمل،‮ ‬ثم تلك الاختيارات واللحظات الحدية،التي تكشف حقا وبوضوح عن معدن كل مثقف كما يقال‮.‬
ابن خلدون،‮ ‬صاحب نظرية في التاريخ والعمران،‮ ‬ومن علماء الإنسانية الأفذاذ،‮ ‬يريد أن ينأي بنفسه عن ابتذالية دوامة كهذه‮ ‬،‮ ‬لكنها الحقيقة الساطعة التي لاغبار عليها‮. ‬منيف بدوره،‮ ‬لم يستسلم من الوهلة الأولي للادعاء،‮ ‬مما أجبره علي قراءة ثانية لعدد من المصادر التي تناولت الحدث‮:((‬لأني كنت،مثل كثيرين،‮ ‬أميل إلي تركيز نظري علي الجانب الايجابي في هذه الشخصية‮ ‬،‮ ‬ووضعها في سياق من اليقين أقرب إلي الثبات،‮ ‬رغم المرارة الدائمة التي كنت أحس بها نتيجة سقطة ابن خلدون تجاه تيمورلنك‮)).(‬نفسه‮. ‬ص31‮).‬
طبعا،‮ ‬سيمكن ترميم جزئيات المعطي التاريخي،‮ ‬من بلورة موضوعية،‮ ‬تقوّم شخصية ابن خلدون في أبعادها،‮ ‬بعدم إغفال جوانب وقائعية في حياته،‮ ‬مادام يجب أن نضع دائما في الاعتبار.هذا التمييز‮: ((‬بين ابن خلدون العالم،صاحب النظرية،‮ ‬وابن خلدون السياسي.الذي وظف معارفه وكفاءاته من أجل الوصول إلي السلطة‮. ‬ومعظم الذين كتبوا عن ابن خلدون كان يعنيهم،‮ ‬بالدرجة الأولي،‮ ‬الجانب النظري‮. ‬لذلك أهملوا،‮ ‬أو تغاضوا عن الجانب الآخر‮))(‬نفسه ص32‮).‬وهذا ربما،‮ ‬ما يقود إلي انقسام في الآراء،‮ ‬وتعدد الأحكام،‮ ‬حسب ما ينبغي‮ ‬استثماره من ذاكرة ابن خلدون‮. ‬هل ينبغي التقاط زبدة فكره الرائع دون التفات إلي حياته الشخصية التي يكتنفها الغموض والالتباس؟.أم يلزمنا‮ ‬فعلا،‮ ‬تشرب منطق الثقافة ذاته،‮ ‬والتحلي بالنزاهة بغية قياس العالِم بمكيال من ذهب،‮ ‬حيث عقله جنس‮ ‬غرائزه،‮ ‬و الأخيرة توأم لروحه‮. ‬فيغدو،‮ ‬المثقف كل هذا‮: ‬معتقد وسلوك وواجب وموقف‮.‬
مع كل ذلك،‮ ‬لايمكن حسب الروايات الواردة في هذا المقام،‮ ‬فصل خذلان ابن خلدون لشعبه و انبطاحه‮ ‬غير المتوقع أمام تيمورلنك،‮ ‬عن مسارات هذه الشخصية السياسية الطموحة بكل الصيغ،‮ ‬و تواجده الدائم في المواقع الأمامية لجهاز الدولة،‮ ‬وعلاقاته الواسعة بالحكام والأمراء والولاة،‮ ‬ودأبه علي حياة البلاط،‮ ‬فازدادت تطلعاته وكبرت‮:(( ‬الاعتماد أو الاقتصار علي أحد‮ ‬المرتكزين اللذين شكلا حياته‮ : ‬الممارسة العلمية او الكتابات النظرية،‮ ‬لابد أن يقود إلي فهم ناقص أو خاطئ لهذه الاشكالية الشديدة الغني والتعقيد والتنوع والتناقض في آن واحد‮))(‬نفسه.ص39‮). ‬وبالرغم من مغامراته السياسية،‮ ‬وتقلده لمناصب عديدة،‮ ‬وامتلاكه للأموال،‮ ‬وماينعم به من حياة الترف،‮ ‬فقد حرص ابن خلدون دائما،‮ ‬علي الارتباط بمهنة التدريس‮ : ((‬كوسيلة لايصال أفكاره وبث آرائه،‮ ‬ولكسب الأنصار والمؤيدين،‮ ‬وأيضا لمعرفة كيف يفكر الآخرون،‮ ‬وماهي المشاكل والهموم التي تشغلهم أكثر من‮ ‬غيرها‮))(‬نفسه.ص‭.‬39‮)‬
إذن،‮ ‬حين بدأ تداول الأخبار،‮ ‬عن فضائح الغزو التتري وما ارتكبوه في حلب،‮ ‬انطلق السلطان‮ "‬الناصر فرج‮" ‬علي رأس جيشه من مصر للتصدي لهذا الغزو،‮ ‬فاصطحب معه هيئة‮ ‬،‮ ‬تضم كبار موظفي الدولة،‮ ‬ومن بينهم ابن خلدون‮ : ((‬الذي يحاول السير في الحملة،‮ ‬لكن حاجب السلطان‮ "‬بلين القول وجزيل العطاء‮")) (‬نفسه‮ .‬ص43‭.‬‮) ‬سيرغمه علي تغيير رأيه‮. ‬إشارة أساسية أوردها منيف،‮ ‬تكشف عن الطبيعة الزئبقية لشخصيته‮.‬
تواجه الجيشان،‮ ‬وكانت الكفة مائلة إلي جانب معسكر السلطان،‮ ‬نظرا لشدة الدافع النفسي وشدة العزم،‮ ‬من أجل الدفاع عن دمشق ضد الغزو التتري‮. ‬لكن،‮ ‬فجأة وقع تفكك في صفوف جيش الناصر،‮ ‬لما انسحب عدد من الأمراء وقرروا العودة إلي مصر‮. ‬لذا،‮ ‬اضطر السلطان إلي ترك المعركة،‮ ‬وأخذ الطريق ثانية وجهة مصر،‮ ‬كي يلاحق المتمردين‮. ‬طبعا،‮ ‬في خضم أجواء كهذه تراجع زخم المقاومة،‮ ‬وأصبحت دمشق مستباحة أمام تيمورلنك‮.‬
بقي ابن خلدون مع المجموعة،‮ ‬التي لم تغادر‮. ‬بعد أن حدس بعقليته السياسية الذرائعية،‮ ‬موازين القوي فقرر تجنب الهلاك قبل فوات الأوان،‮ ‬بالارتماء في أحضان التتار،لأنهم منتصرون لامحالة‮. ‬يقول ابن خلدون‮ : ( ‬وبتنا تلك الليلة علي أهبة الخروج إليه،‮ ‬فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع،‮ ‬وأنكر البعض ماوقع من الاستنامة إلي القول،‮ ‬وبلغني الخبر فخشيت البادرة علي نفسي،‮ ‬وبكرت سحرا إلي جماعة القضاة عند الباب وطلبت الخروج أو التدلي من السور،‮ ‬لما حدث عندي من توهمات الخبر‮))(‬نفسه.ص45‮). ‬ثم،التقي ابن خلدون بتيمورلنك‮ : ((‬فلما دخلت عليه فاتحته بالسلام،وأوميت إيماءة الخضوع،‮ ‬فرفع رأسه،‮ ‬ومد يده إلي فقبّلتها،‮ ‬وأشار بالجلوس حيث انتهيت،‮ ‬ثم استدعي من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم،‮ ‬فأقعده يترجم بيننا‮))(‬نفسه.ص45‮). ‬لم يفصح فقط ابن خلدون،‮ ‬عن موافقته‮ ‬غير المشروطة لتسليم دمشق،‮ ‬بل،‮ ‬أقر طلبا لتيمورلنك،‮ ‬يحيل مضمونه علي ماننعته بلغتنا المعاصرة،‮ ‬إنجاز تقرير استخباراتي عن أحوال المغرب،‮ ‬حين كلفه بكتابة وصف لبلاد المغرب،
وكل مايتعلق بجغرافيتها و أماكنها‮.‬
عاد ابن خلدون إلي جماعته،‮ ‬وشرع في‮ ‬لعب دور جوهري‮ ‬كي‮ ‬يقنع الوجهاء والقادة،‮ ‬بضرورة تسليم مفاتيح المدينة إلي تيمورلنك،‮ ‬الذي‮ ‬سيدلي‮ ‬أمامه ابن خلدون،‮ ‬بشهادة تنم عن أقصي دلالات التملق والمداهنة السياسية‮ ((‬إنك سلطان العالم،وملك الدنيا،وما أعتقد أنه ظهر في‮ ‬الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك‮))(‬نفسه.ص‭.‬46‮). ‬لم‮ ‬يقف ابن خلدون عند هذا الحد،‮ ‬بل دفعه موقفه الغريب،‮ ‬ملتمسا‮ : ((‬أن‮ ‬يكون في‮ ‬بطانة تيمورلنك،‮ ‬وفي‮ ‬خدمته،كما فعل مع أمراء وسلاطين عديدين سابقا،وربما طمع بلعب دور سياسي‮ ‬جديد،لكن تيمورلنك لم‮ ‬يستجب لمثل هذه الرغبة.ومع ذلك لم‮ ‬ينقطع ابن خلدون عن الزيارة وتقديم الهدايا‮)).(‬نفسه.ص‭.‬47‮).‬
إضافة،‮ ‬إلي هذا الحدث التاريخي،‮ ‬الملغي من طرف الباحثين،ربما حفاظا علي نقاء صورة ابن خلدون،‮ ‬أدرج عبدالرحمن منيف‮ ‬،‮ ‬علي ضوء مسرحية ونوس،‮ ‬حوارا في‮ ‬غاية الإثارة بين العالِم الجليل وتلميذه شرف الدين،‮ ‬بحيث‮ ‬يبدو ابن خلدون متهافتا كل التهافت‮.‬
تتزاحم أسئلة شتي،‮ ‬داخل رأس التلميذ التابع حد الحرقة،‮ ‬نتيجة المواقف‮ ‬غير المفهومة لأستاذه،‮ ‬الذي‮ ‬يحاول الدفاع عن قناعاته،‮ ‬محتميا بقيم العلم وصرامته الموضوعية،‮ ‬مما‮ ‬يدعو إلي التخلي‮ ‬عن كل نزوعات الهوي و الانفعالات والميول القومية والوطنية‮. ‬لذلك،‮ ‬وباسم قانون-موجها الكلام لشرف الدين‮-((‬حين تريد أن تسجل الوقائع،‮ ‬ينبغي‮ ‬أن تسيطر علي الانفعالات والعواطف أو تلغيها‮))(‬نفسه.ص50‮) ‬،‮ ‬يرفض ابن خلدون تماما،‮ ‬تعبئة الناس وتحريضهم وشحذ هممهم،‮ ‬كي‮ ‬يجاهدوا دفاعا عن مدينتهم‮: (( ‬لايتحدث عن الجهاد هذه الأيام،‮ ‬إلا رجل‮ ‬يضرب في‮ ‬الوهم،‮ ‬أو‮ ‬يريد أن‮ ‬يلبس علي الناس‮))(‬نفسه.ص50‮). ‬إذن،‮ ‬سينأي بنفسه‮ ‬عن دائرة المؤد لِج كي‮ ‬يظل عالما‮. ‬قد‮ ‬يبدو كلامه صحيحا،‮ ‬لو اتصف ابن خلدون بنزاهة العلماء وحيادهم منذ البداية،‮ ‬ولم‮ ‬يتدل من سور المدينة،‮ ‬مسرعا نحو النجاة بجلده‮. ‬كما أنه مارس التضليل،‮ ‬فأوهم الناس،ومارس في‮ ‬حقهم خديعة لا تغتفر،‮ ‬لما ساهم إلي جانب آخرين طبعا،‮ ‬علي إقناعهم بضرورة تسليم دمشق سلما كي‮ ‬يتجنبوا الوحشية التتارية‮. ‬لكن العكس ماسيحدث،‮ ‬فرغم ميثاق الأمان،‮ ‬غدت دمشق أنقاضا خربة‮. ‬إذن،‮ ‬حتي ولو أخل تيمورلنك بوعده،‮ ‬و أطلق العنان لهمجيته اتجاه المدينة و أهلها،‮ ‬فابن خلدون علي إيمان مطلق‮: ((‬أنك،‮ ‬إذا لم تسيطر علي قدرة عواطفك فلن تحوز ملكة العالِم وشروطه‮))(‬نفسه.ص‮ ‬51‮). ‬بل،‮ ‬ويستهجن سلوك عالم آخر،‮ ‬من نفس طبقته،‮ ‬وهو هياج التاذلي‮ ‬الذي‮ ‬قتل في‮ ‬المعركة،‮ ‬فقد وصفه ابن خلدون،‮ ‬بأنه تغلبت لديه‮ ( ‬انفعالية الدهماء‮ ‬،علي حكمة العلماء‮))(‬نفسه.ص‭.‬51‮). ‬كما،‮ ‬أن هذا التاذلي‮: ((‬لم‮ ‬يكن إلا موسوسا،‮ ‬وأنا أنفر من الموسوسين‮))(‬نفسه.ص51‮).‬
يستنكر ابن خلدون،‮ ‬وصفه بالحياد إزاء محنة أهله،‮ ‬كما جاء علي لسان تلميذه،‮ ‬بل‮ ‬يفسر تصرفه كونه رجل واقعي‮ ‬يلم إلماما واسعا،‮ ‬بقوانين الأحداث ومجريات الوقائع،‮ ‬لذلك فلا علاقة للعالِم بمهمة،‮ ‬أن‮ ‬يتلمس الناس بواسطته طريق الحقيقة‮. ‬بل،‮ ‬دوره‮ ‬يقف عن مستوي‮(( ‬أن‮ ‬يحلل الواقع كما هو،‮ ‬وأن‮ ‬يكشف كيفيات الأحداث و أسبابها العميقة‮))(‬نفسه.ص‭.‬52‮).‬
يلح‮ ‬،‮ ‬ابن خلدون‮ ‬في‮ ‬التشبث بقيمة المعرفة المجردة‮ ‬،‮ ‬مفندا رأي‮ ‬تابعه المؤمن بالمضمون النهضوي‮ ‬والتحفيزي‮ ‬لكل معرفة‮ ‬،‮ ‬و إلا فما جدواها‮.‬
‮ ‬فالمعرفة في‮ ‬منظورها الخلدوني‮ ‬،تجعلنا نفهم سبب تآكل حكم السلطان‮ ‬،‮ ‬مقابل تألق تيمورلنك‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬سيمثل له في‮ ‬نهاية المطاف‮ ‬،فرصة كي‮:((‬يلتقي‮ ‬الملك علي الطبيعة‮))(‬نفسه.ص53‮). ‬فرغم ماضيه الحافل‮ ‬،‮ ‬بمعاشرة الحكام والآخذين بزمام الشأن العام‮ ‬،‮ ‬إلا أن ابن خلدون‮ ‬يقر لتلميذه عدم اقتناعه الصميمي‮ ‬بتجاربه السابقة‮ ‬،‮ ‬واليوم‮ ‬يلاقي‮ ‬في‮ ‬طريقه تيمورلنك الذي‮ ‬يجسد نموذجه المبحوث عنه‮:( ‬طول حياتي‮ ‬وأنا أعاشر وأخدم أمراء وسلاطين ناقصين‮ ‬،لاتتوفر لهم من شروط الإمارة إلا أقلها‮... ‬،لقد سرت في‮ ‬ركاب أمراء وسلاطين لا‮ ‬يستحقون أن‮ ‬يكونوا جزمة لتيمور‮ )(‬نفسه.ص‭.‬53‮/‬54‮).‬
أخيرا‮ ‬،‮ ‬قرر التلميذ الباحث بصدق وشغف عن علم‮ ‬يستجيب للحق ويحارب كل أشكال الظلم والطغيان‮ ‬،‮ ‬تبني‮ ‬طريق المقاومة‮ ‬،لأن دعوة الواجب‮ ‬يحتم عليه الأمر‮ ‬،والانفصال عن ابن خلدون الذي‮ ‬يريد إفراغ‮ ‬العلم من نبله الإنساني‮. ‬لكن قبل رحيل شرف الدين‮ ‬،‮ ‬استجمع أنفاسه وفجر أمام أستاذه تلك القنبلة الخانقة‮: ‬ماذا سيقول التاريخ في‮ ‬ابن خلدون‮ ‬،حينما‮ ‬يستحضر موقف الإذعان؟ سيعتقد القارئ‮ ‬،‮ ‬أن الرجل تلقي ضربة قاضية بالتالي‮ ‬لن‮ ‬ينطق بعدها ببنت شفة‮ ‬،‮ ‬لكن ابن خلدون أجاب بهدوء الواثق جدا من صنيعه‮: (( ‬لن‮ ‬يذكر التاريخ إلا العلم الذي‮ ‬أبدعته‮ ‬،‮ ‬والكتاب الذي‮ ‬دفعته‮. ‬أما الأحداث والمواقف العابرة‮ ‬،‮ ‬فلن‮ ‬يذكرها أو‮ ‬يهتم بها إلا موسوس مثلك‮))(‬نفسه.ص55‮).‬
سقطة ابن خلدون‮ ‬،‮ ‬صاغها سعد الله ونوس ثانية‮ ‬،‮ ‬قصدا وعمدا في‮ ‬قطعة مسرحية‮ ‬،‮ ‬كي‮ ‬يثير الانتباه مرة أخري‮ ‬،إلي قضية تأسيسية لازلنا نعاني‮ ‬سلبياتها‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬مجتمع عربي‮ ‬لم‮ ‬يحسم بعد معادلاته الصائبة حول منظومته الجوهرية‮. ‬أقصد هنا‮ ‬،‮ ‬موقع المثقف داخل السياق المجتمعي‮ ‬وطبيعة الدور الموكول إليه قياسا إلي شعبه‮. ‬ثم‮ ‬،الموقف النقدي‮ ‬والمسافة التأملية التي‮ ‬ينبغي‮ ‬عليه الاحتفاظ بها‮ ‬،‮ ‬حيال السلطة والمال والإغراءات التي‮ ‬تستهدف تدجينه كليا‮ ‬،وإفراغ‮ ‬مشروعه من أية قيمة مضافة‮.‬
استخلص منيف‮ ‬،أفكارا أهمها‮: ‬الثقافة موقف‮ ‬،لذا لايمكنها أبدا أن تكون محايدة‮ ‬،‮ ‬كما أن مسؤولية المثقف تكبر وتصبح أكثر حساسية‮ ‬،‮ ‬بالتناسب مع الموقع الذي‮ ‬يحتله المثقف في‮ ‬سلم الارتقاء المعرفي‮ ‬،‮ ‬بحيث تبرز حاجة الآخرين إلي معرفته‮ ‬،‮ ‬فيمتلك حيزا واسعا من التوجيه و والتأثير التأطير‮.‬
يفرض الوضع الطبيعي‮ ‬للمثقف‮ ‬،‮ ‬الارتباط بقضايا عصره‮ ‬،‮ ‬يستوعب حمولتها‮ ‬،‮ ‬مجتهدا في‮ ‬سبيل إيصالها إلي الآخرين‮ ‬،‮ ‬لكن مستويات إشعاعه متوقفة علي‮:((‬الجدية والنزاهة والجرأة‮))(‬نفسه.ص60‮). ‬عليه أن‮ ‬يميز‮ ‬،‮ ‬عصره بطابعه كمثقف‮ ‬،‮ ‬انطلاقا من مواقفه المبدئية التي‮ ‬تروم استشراف بدائل أكثر إنسانية‮ ‬،‮ ‬فالثقافة سند لصاحبها‮ ‬،‮ ‬لكنها خاصة فعل وفيصل‮.‬
هذا المثقف الرمز‮ ‬،‮ ‬يقابله نوع ثان‮ ‬،‮ ‬يتوخي فقط المصلحة الشخصية ويبحث من أجل صقل مهارة الثقافة بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة‮ ‬،‮ ‬فينحدر بالثقافة إلي مجرد سلعة وكأي‮ ‬سلعة‮: (( ‬دون أن تلزم صاحبها‮ ‬،‮ ‬أو لا تعني‮ ‬له إلا بمقدار ماتدره من ربح‮. ‬فعندئد تصبح الكلمات الأفكار لعنة‮ ‬،‮ ‬ويصبح الأكثر إتقانا لهذه‮ "‬الصنعة"هو الأكثر خطرا‮))(‬نفسه.ص61‮). ‬فيتحول‮ ‬،إلي مجرد خادم للسلطة و أصحاب المال‮. ‬يغير الحقائق ويزيف الأشياء ويضلل عن مدارج الحقيقة والحرية‮. ‬إنه المثقف المرتزق المماثل‮ ‬،‮ ‬تماما ل‮:(( ‬الجندي‮ ‬المرتزق الذي‮ ‬يحمل السلاح ليس من أجل قضية‮ ‬يؤمن بها ويدافع عنها‮ ‬،و إنما من أجل المال‮ ‬،ولمن‮ ‬يدفع هذا المال‮) (‬نفسه.ص62‮).‬
وتتضاعف مسؤولية المثقف‮ ‬،وتشتد محاسبته‮ ‬،‮ ‬خلال الظروف التاريخية الاستثنائية‮. ‬فتعبيره عن الضمير الجمعي‮ ‬،يمكنه من شفرة سرية في‮ ‬غاية الدقة‮ ‬،يديرها حسب معاييره الخاصة‮ ‬،‮ ‬إن‮ ‬إيجابا أو سلبا‮.
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

العلامات التى تظهر لم اجد طريقة لابعادها
فعذرا للقارئ الكريم
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

هنالك دعابة قديمة تقول ( أين يجلس الرجل الذي طوله حوالي مترين ويزيد وزنه عن مائة وعشرين كيلو جرام ويحمل مدفعاً رشاشاً في عربة قطار مزدحمة ؟ .الإجابة هي : ( في أي مكان يريده ) .
*

أخي الأكرم : ياسر زمراوي
تحية طيبة أن جلبت المقال

وبالرجوع للدعابة القديمة أعلاه
فإني لا أرى في الموضوع اي سقطة
كما تخيلها الكاتب ، وهي محض رؤى مثالية لا ترقى لمعرفة الواقع .
تحية لك

*
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

عبدالله الشقلينى


الشخص الممتلك القوة يبادر بالتصريح , ولكن ليس الكل من يسقط فى فخ الموالاة لتلك القوة
هنالك الكثيرين من المفكرين على امتداد التاريخ الانسانى والعربى والاسلامى فيهم بالذات
من دافعوا عن افكارهو وهويتاهم وشعوبهم , وابن خلدون رغم كونه مفكرا كبيرا مؤثرا فى تأريخ
الانسانية الا ان هذا لاينفى ان موالاته لتيمورلنك الذى قتل اهله وقومه وشردهم تعد سقوطا
أضف رد جديد