في مقهى اتّحاد الكتّاب البلغار

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

في مقهى اتّحاد الكتّاب البلغار

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

في مقهى اتّحاد الكتّاب البلغار


أثناء إقامتي في صوفيا، في التسعينات من الألفية الماضية، تعرّفت على عبد الستار الدُليمي، وهو شاعر من أصل عراقي، ينتسب، كما يدلّ اسمه، لعشيرة الدُليم، يكتب الشعر باللغتين البلغارية والعربية، تبلغرت هويته لطول ما استوطن صوفيا، واقترن ببلغارية انجبت له بنتاً بارة تتولّى رعايته عند الكبر، ومع ذلك لم ينقطع عن الحنين إلى الأزهار النادرة في بادية الأنبار، تحدّثنا عن طريق الهاتف أولاً، ثم اتفقنا على موعد للقاء عند باعة الكتب المستعملة في ميدان بيتكو سلافيكوف، أمام مكتبة المدينة، في وسط صوفيا.

نزلتُ من الترام القادم من حي دَرْفَنيتسا قبيل الميعاد المتفق عليه في ميدان بيتكو سلافيكوف، فدلَّتني على عبد الستّار أوصاف ردائه الشتوي وهو واقف في المدخل العالي، السداسي العتبات، الثلاثي الأبواب لمكتبة المدينة المغلقة، المزانة الواجهة بثلاثة رؤوس حجرية متباعدة، كلّ منها يحرس باباً منفصلاً من الأبواب الثلاثة المطليّة الحواشي باللون البنّي الداكن، والمذهّبة المتون. تتماثل الأبواب في كلّ شيء، ولكلّ منها مصراعان يتوسّط كليهما مستطيل يضمّ شكلاً مذهّباً، يصعب تعيينه، أهو زهرات أم شيء آخر، يتكوّن من تسعة أجسام ناتئة متراصة بعضها فوق بعض. تعلو الأبواب منحوتتان تجسّم اليسرى منهما رجلاً يتفجّر رجولة ببناء جسمه المتين: عريض المنكبين، عاري الصدر، مفتول العضلات، يستر عورته رداء ينسدل من وسطه عديد الثنيات، حافي القدمين، يستند بيسراه على منسأة ( هو البنّاء: رمز القوّة والرجولة، رمز الطبقة العاملة)، وتمثل اليمنى امرأة يلتفّ حول وسطها رداء يغطّي نهدها الأيسر وحده، ثم ينسدل من كتفها الأيسر على الظهر٬ ومن خصرها ينسدل رداء يسترها حتى القدمين
الحافيتين، تحمل على كفّها الأيمن مجسّماً مصغّراً للمكتبة(هي المهندسة: رمز الأنوثة والحكمة). يجلسان بفخار في واجهة صرحهما العظيم، على إفريز خَرساني محمول على ستة أعمدة رباعية الشكل هي الأخرى خرسانيّة البناء، تسِم كلّ عمود منها خطوط عرضيّة محفورة تعدادها عشر. يجلسان متباعدين، كلّ على طرف من الإفريز ليحفظا له التوازن، ويرقبان من مقعديهما اندفاع السابلة المسرعين، وشروع الباعة المجهدين، عند نهاية الدوام، في طيّ مظلّاتهم ولملمة معروضاتهم في الصناديق، والمتاجر المقابلة في شارع قراف إقناتيف، وصفّ أشجار البتولا المرزوعة في يسار الطوار المحاذي لقضبان الحديد، الّتي تصلصل عليها مركبات الترام الصُفْر الطلاء، وفوق التمثالين، في المنتصف، يبرز مجسّم، يترآى لي كطائر عملاق مصبوب من الأسمنت، يحتلّ صدره البارز في اعتداد أسدٌ مهيب هو رمز الدولة البلغاريّة منتصبٌ على قائميه الخلفيين. الطائر المسمَّر في أعلى البناء مضموم الجناحين، كلا الجناحين أجوف، تحتلّ تجويف الأيمن منهما ثلاثة أغصان رفيعة تتدلّى منها ثمرات فاكهة متحجّرة لعلّها الكرز، أمّا تجويف الجناح الأيسر فتشغله ثلاث سنابل من القمح أوالشعير. لوّحتُ لعبد الستّار، وتقدّم كلّ منّا باتّجاه الآخر. كان ينقل خطاه بتثاقل وحذر على طبقة الجليد السميكة، بقامته الطويلة، متوكئاً على عصا، وملتحفاً بمعطف أسود اللون سميك الصوف، مبيض شعر الرأس، يطغى على وجهه البادي النحول شحوب الإعياء كالناهض من سرير المرض.

كان الوقت في أواخر ديسمبر، والطقس يزداد برودة مع تقدّم المساء، فاقترح عبد الستّار أن نحتمي من لسعات الريح الباردة بالمقهى التابع لاتّحاد الكتّاب البلغار القائم في شارع شستي سبتمفري. وحين دخلنا المقهى وجدناه يعجّ بالخلق، بعضهم في حركة دائبة، وثمّة شاب يقف في أحد الأركان وهو يلقي بطريقة تمثيليّة نصّاً أدبياً على جماعة من روّاد المقهى أثنوا على أدائه.

لم أميّز بين الوجوه المجتمعة في المقهى سوى سالي ابراهيم، وهي شاعرة بلغارية مجيدة تنحدر من أرومة غجرية. مشرقة الابتسام لوّحت لنا سالي في إشارة تدعونا للانضمام إلى مائدتها وهي منغمسة في نقاش مع شاعر نسيت اسمه، بدا أنّه كان منتشياً بالنبيذ الاحمر. أعدتني نشوته فطلبت من النادل كأساً من النبيذ الاحمر، ثم سألني عبد الستّار كبطاقة للتعريف أن أتلو على المجموعة إحدى قصائدي، فتلوت عليهم قصيدة "استفاقة"، بينما عبد الستّار في قمّة الطرب يهتزّ كالمجذوب أثناء ترجمته الفوريّة لمقاطع القصيدة كلّما صمتُ، وتناولتُ حسوة من الشراب. كان بارعاً في أدائه للترجمة بفصاحة مبهرة كما لو أنّ البلغارية كانت لغته الامّ.

فرغتُ من الالقاء، فحلّ صمت ارتفعت فيه الأنخاب، وقُرِعتْ فيه الكؤوس، ونفذ من خلاله صوت الشاعر المنتشي يخاطبني: جميل أن تسعدنا بهذا الشعر، لكنّ والديك وأخواتك وإخوانك أولى بأن يسعدوا به قبل غيرهم!

عثمان محمد صالح
آخر تعديل بواسطة عثمان محمد صالح في السبت مايو 12, 2018 7:58 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

نفق محطة بِلِسكا
--------------

جرت أحداث هذه القصّة الّتي أزمع روايتها في السطور التاليّة على مرمى حجر من نُزُل بِلِسكا في صوفيا، عاصمة بلغاريا، وابتدأت في النفق القريب منه، والّذي يصل بين جانبي بوليفارد لينين (جادة لينين) عندما كان ذلك الشارع العريض يحمل اسم القائد الروسي الشهير قبل أن يطويه النسيان بعد هبوب رياح التغيير بعد العاشر من نوفمبر 1989، والّذي طال ومَحى أسماء العديد من الشوارع في بلغاريا، ليختفي لينين ليس كمُسمّى لهذا الشارع فحسب، بل من المشهد السياسي برمته، ويحلّ محلّه"ساريقرادسكو شوسي".

فإذا كان أهل صوفيا قد نسوا بتوالي الزلازل السياسية الّتي قوّضت الأنظمة الشموليّة في شرق ووسط أوربا اسم جادّة لينين بسهولة، وولّوه ظهورهم، فإنّهم لم يفعلوا ذات الشيء مع محطة بِلِسكا، الّتي صمدت لاختبار الزمن وتقلبات الأحوال إلى يومنا هذا وبقيت في ذاكرة المدينة جارية على الألسن على الرغم من أنّ النزل، الّذي تدين له المحطة باسمها، لم يعُد نُزُلاً بعد مارس 2013، حيث تحوّل
إلى المكتب الرئيسي للبنك المركزي التعاوني.

هوتيل بِلِسكا: علم على رأسه نار، من أشهر معالم صوفيا جنباً إلى جنب مع القصر الوطني للثقافة "إن دي كا"، والمبنى الرئيسي لجامعة صوفيا "كليمنت أوخردسكي"، والمكتبة الوطنية "نارودنا بِبْليوتيكا كيرل إي ميتودي"، وحديقة بوريس " بوريسوفاتا قرادينا"، وضريح غيورغي ديمتروف "مافزولي غيورقي ديمتروف"، وجسر النسور" أورلوف موست"، وجسر الأسود" لَفوف موست"، وشارع فيتوشا، وشارع قراف إقناتيف، الحديقة الجنوبية "يوجن بارك"، والمسرح الوطني "إيفان فازوف"، وشارع دوندكوف، والنجمة الحمراء الّتي كانت تعلو دار الحزب الشيوعي البلغاري "بارتِنّيا دوم"، ومركز التسوّق الرئيسي"تسوم"، وشارع ماريا لويزا، وقصر القيصر " تسارسكي دفوريتيس"، وكنيسة ألكساندر نيفسكي، ونصب القيصر المُحرِّر، ومبنى البرلمان "نارودنوتو سبرانيي"، ومسرح الجيش الوطني "تياتر نارودنا آرميا"، والمسجد "جاميّا"، والمصاعد الكهربائية المعلّقة على الأسلاك الّتي تقلّك من سفح فيتوشا إلى قمته، وبحيرة بانجاريفو، والمتاحف العديدة، وحمامات صوفيا الأثرية، وكنيسة بويان " بويانسكا سركفا". كان النُزُل جزء من ممتلكات أفيو كَمْبَني بلكان، الّتي تمّ خصخصتها، حيث كان هو النُزُل المخصَّص لايواء المسافرين عن طريق الخطوط الجويّة البلغاريّة ( بلقان )، وهو لايبعد من وسط صوفيا، ولامن مطارها.

بطوابقه الشاهقة الّتي نسبته إلى قائمة أعلى البنايات في بلغاريا، وبجدرانه الّتي يسترعي النظر بلورها الأزرق زرقة السماء يعتبر نُزُل بِلِسكا علامة بارزة على جادة لينين(ساريقرادسكو شوسي الآن)، والّذي يعدّ أطول شارع في العاصمة يربط تقريباً كافة أجزائها بشبكة من المواصلات
ويمرّ بمحطة النُزُل يوميّاً آلاف الركّاب من شتى أحياء صوفيا.

أمّا الطلّاب الأجانب الدارسون في صوفيا فلاسبيل لئلا يرسخ اسم بِلِسكا في حوافظهم، ذلك أنّه قريب جداً من معهد الطلّاب الأجانب لتعليم اللغة البلغارية "إي جي سي"، حيث يضعون فيه أقدامهم على طريق الدراسة.

في صيف 1989، كنت عابراً، قبيل الغروب، لنفق بِلِسكا، فخطر لي أن أرتاح قليلاً في المقهى القائم تحت الأرض، وأتناول مشروباً بارداً.

كان المكان مزدحماً بالروّاد وأغلبهم أجانب، ممّا اضطرني للجلوس إلى طاولة سبقتني إليها فتاتان رحّبتا بي، وبعد فترة من الصمت وتبادل النظرات تشجّعت، وابتدرت معهما حديثاً عاماً عن المدينة والطقس فسألتاني أسئلة عامة عن وطني، وشيئاً فشيئاً وجدت بي ميلاً لإحدى الفتاتين الّتي أظهرت لي قدراً من اللطف مصحوباً بالابتسامات، فدعوتها للذهاب إلى السينما في وسط المدينة فوافقت. وعندما نهضنا لمغادرة المكان قالت لي فجاة أنّها لاتستطيع أن تذهب معي في الحال لأنّ
لأنّ هناك شيئاً هاماً قد نسيته بالمنزل القريب فقلت لها: مادام المنزل قريباً إذاً انتظرك هنا حتّى تعودين، فقالت: كلّا، بل تذهب معي إلى المنزل، ثم نعود سويّاً. على الرغم من أنّ الأمر قد بدا لي غريباً، لكنّي وافقت. فسرنا مشياً على الأقدام متوغّلين في شوارع حي إزقريف. وفجأة شعرت بأنّنا متبوعين بعربة تخطر ببطء. فكّرتُ في تنبيه الفتاة إلى مخاوفي، لكنّي أحجمتُ عن ذلك في اللحظات الأخيرة عندما تبيّن لي أنّها تراقب العربة المريبة من طرف خفيّ دون أن يبدو عليها الخوف، فتعاظمت هواجسي وشكوكي.

عثمان محمد صالح
أضف رد جديد