جين كوكتو:- طفولة شقية- رواية (ترجمة:- إبراهيم جعفر).

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

جين كوكتو:- طفولة شقية- رواية (ترجمة:- إبراهيم جعفر).

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

... رواية ...

جين كوكتو


طفولةٌ شَقِيَّةٌ

" العنوانُ الأصليُّ Les Enfants Terribles "

ترجمتها عن الفِرِنسيّة :- روزاموند ليمان



" الرسوم الإيضاحيّة بريشةِ الكاتب "



ترجمها عن الإنجليزيّة :- إبراهيم جعفر



نُبذةٌ عن مؤلّفِ الرّواية :-

جين كوكتو، الشّاعرُ، كاتبُ المسرحيّات، الرِّوائيُّ، الرّسّامُ الإيضاحيُّ، مؤلّفُ الأفلام، هو واحدٌ من أكثر الكُتّابِ المعاصرين تنوُّعاً إبداعيّاً. وُلِدَ جين كوكتو في مَيْسَوْنْسْ – لافِيْتِي في عام 1889 ودرس في اللّيسيه كَوْنْدَوْرسَيْهْ. ومن بابِ اعتباره لأعماله امتداداً للشّعرِ في وسائطٍ مختلفةٍ – فلم، مسرح، رواية، قصيدٌ، نقدٌ أو خطٌّ – فقد نشر أوّلاً مسرحيّةً بعنوان "موكب" في عام 1917. أسّس جين كوكتو لنفسه سُمعةً ككاتبٍ حيوِيِّ الخيالِ، عفريتيٍّ، وبيلٍ و صادمٍ بنى نسبةً من عمله على ثِيماتٍ ( مضامينٍ ) من الأُسطورةِ اليونانيّةِ ( كانت مسرحيّتُهُ الأُولى هي Orpbee ( 1926)، التي وصفها النّقّادُ بأنّها عبقريّة tour de force. ثمّ كتب، إثرَ ذلكَ، مسرحيّةً La Voix humaine (1930)، جعل منها بَوْيْلَنْسْ أوبرا في عام 1959. تشتملُ أعمالُهُ الأدبيّة التخيّلية على Le Potomak (1919)، وهي مزيجٌ من نصٍّ ورسوماتٍ، وعلى Le Grand ecart و Thomas L`Impposteur (1923). حوّلَ كوكتو مسرحيته Orpbee وروايته " طفولة شقيّة " إلى فلمين سينمائيين. ثمّ تُوُفِّيَ في عام 1963.

وُصِفَ عملُ كوكتو بأنّهُ مالكٌ ’ لميزةٍ فريدةٍ ، ميزةٍ مُتملِّصةٍ كشخصيّةِ خالِقِها الحقيقيّة :- مُنذِرةً وسِرِّيَّةً :- الوجه الشّاحب لمُقَدِّمِ عرضٍ مسرحيٍّ آن الإمساكَ به في شُعاعِ ضُوءٍ صُدَفِيٍّ ... آنَ أن يُرَى، للحظةٍ عابرةٍ، مُؤدِّياً لمهمّةٍ خُصوصِيّةٍ ما. سيستمرُّ كوكتو في أن يُفتِنَنَا ‘.



كُتُبَ عن هذا الكتاب :- 1.

" إنّ الإحساس الأخير الذي يُخَلِّفُهُ هذا الكتاب هو إحساسٌ بالسّعادة؛ ليس هذا، بالطّبعِ، بمعنى أنّه يستبعدُ المعاناة، لكن لأنَّ ليس فيهِ من شيءٍ رُفِضَ، نُفِرَ منهُ أو نُدِمَ عليه ".
و.هـ. أودِن.


2. طفلان يجب أن يموتا في اتِّباعهما لقواعدِ " اللُّعبَة " – و تلكَ شيءٌ اخترعاهُ بِحُسْبَانِهِ فَصْلِهِمَا الغرائبيّ من الحياةِ نفسها. هما شقيقٌ و شقيقتُهُ يُدعيان بول و إليزابيث، ينامان في ذاتِ الحجرةِ، فالحجرةُ هي بيتُ القَصِيْدِ عِنْدَهُمَا. فحيثُما ذهبا، و مهما فَعَلاَ – من عنايةٍ لإليزابيث بأُمِّها المريضةِ و تقديسٍ من بولٍ لدارقِيلوس، رفيقه الطّالب، ثمَّ لصديقةٍ لشقيقتِهِ سيِّئَةِ النَّصيبِ و شديدةِ التّماثُل مع دارقِيلوس – فالحجرةُ هي ما يحتويهُما و " اللُّعبةُ " هي ما يتحكَّمُ فيهُما.

كشاعرٍ، روائيٍّ، رسّامٍ و موسيقيٍّ، راقصِ مسرحٍ و باليه، مؤلِّفِ أفلامٍ، مسرحيٍّ وممثِّلٍ ازدهرت موهبةُ جين كوكتو، المعجزةَ تقريباً، في كلِّ ضربٍ من الفنون. روايتُهُ " طفولة شقيّة " (1929)
[ موضوع الترجمة الحاليّة – المترجم ] هي أكثرَ رواياته شهرةً، فهي آيةٌ في الاختراعِ الظَّلامِيِّ المُخاتِلِ، كما وهي بديعةٌ و قويَّةُ الأسر.
" منشُورات بَيْنْقِوِنْ لكلاسكيّاتِ القرن العشرين "

3. " لم يَرِدْ كوكتو، أبداً، لعمله أن يَمُرَّ كعملِ أيِّ شخصٍ آخرٍ. فحتّى حين يكونُ ذلك العملُ مُقلِّداً لغيره فإنّهُ يظلُّ حاملاً لِصِبْغَةٍ من صِبَغِ خالقِهِ كفيلةً بأن لا تُؤَهِّلْ أيَّ مُزَيِّفٍ ما لتقليدِهِ :- تلكَ هي صِبْغةُ - خَتْمُ مُعَلِّمِ مُفارقَةٍ و حكمةٍ جماليَّةٍ أمدَّنا بوصلٍ فريدٍ – و باقٍ – بينَ الكلاسيكِيِّ و الحديثِ.
فرانسيس اسْتِيْقْمُلَرْ
_______________________________________________
أُخِذَت صورةُ الغلاف [ في الأصلِ الإنجليزيِّ ] عن صورةٍ فوتوغرافيّةٍ من تصويرِ بِلْ بَرَانْدت عنوانُها " صورةٌ لفتاةٍ صغيرةٍ في إيتون بليس بلندن " ( من تصاويرِ المتحف العالميّ للصور الفوتوغرافيّة في " جورج إيْسْتْمَان هاوُس "، لندن).




1
يُحاطُ ذلكَ الجُّزءُ من باريس القديمةِ، و الذي يُعرَفُ بـ " سَايْتَيْ مَوْنْزَايَارْسْ "، من جانبٍ، بشارع " كِلَيْشَيْ "، و من جانبٍ آخرٍ بشارع " أَمِسْتَرْدَامْ ". إن شئتَ أن تعبُرَهُ من جهةِ شارع " كِلَيْشَيْ " سَتَسْتَشْرِفُ بَوَّابَتَي حديدٍ صُلْبٍ : لكنَّكَ، إن كنتَ عابِرَهُ من جهةِ شارعِ " أَمِسْتَرْدَام "، قد تَبْلُغُ مدخلاً آخراً مفتوحاً ليلاً و نهاراً، ممّا يُعطِيْكَ مجالاً للوصُولِ إلى مُجَمَّعٍ سُكَّانِيٍّ، و من ثَمَّ مباشرةً إلى الميدان، و هو ساحةٌ مستطيلةٌ تحتوي على صفٍّ من المنازِلِ الخاصّةِ الصّغيرةِ التي تنتظِمُ، خِفْيَةً، تحتَ حوائط المبني الأساسيّ. جَلِيٌّ أنّ هذه البيوت الصغيرة هي مساكن الفنّانين. فشَبَابِيكُها، المُغطّاةُ بِسُجَفٍ من الصّور، مُسْدَلَةُ السّتائر الدّاخليّة. لكن تخمينَ ما تُخَبِّؤُهُ سهلٌ نسبياً :- حجراتٌ مُكتَظَّةٌ بأسلحةٍ و أَرْتَالٍ من الدِّيباجِ؛ بكانفاساتٍ تُصَوِّرُ إما سلالاً مَلأىْ بقططٍ، أو عائلاتِ دبلوماسيِّين بوليفيّين. هنا يسكُنُ " السَّيِّدُ "، جليلاً، نَكِرَةً. و فيما هو رازِحٌ، تقريباً، تحتَ وطأةِ ألقابِ شَرَفِهِ العامّةِ و مُفَوَّضِيَّاتِهِ يعملُ هذا الحصنُ الحصينُ، الرِّيفِيُّ و المغمورُ، على حجبِهِ عن الإِزعاجِ.

و رُغْمَ ذلكَ فإنّ سكينةَ المكانِ تُقْلَقُ مرَّتين في اليوم :- في العاشرةِ و النِّصفِ صباحاً، و في الرّابعةِ ظهراً. ذلكَ بسببِ صوتِ الجَّلَبَةِ الذي يُحدثُهُ فتحُ بابِ " اللِّيْسَيْه كَونْدَورْسَيْهْ " الصّغير – المُعاكس للمنزلِ الصّغيرِ رقم
" 72 ب " في شارع أَمِسْتَرْدَام – و خروجُ قطيعٍ من صِبْيَةِ المدارسِ ليحتلُّوا ال " سَايْتَيْ " و يُقِيمُوا مَقَرَّ قِيادَتِهِم، حينذاكَ يكتسِبُ المكانُ طابَعَ قرونٍ وُسطى – شيئاً من طبيعةِ " ساحةِ حُبٍّ "، مَلْهَى عجائبٍ ، أُسْتادٍ رياضيٍّ، سُوقِ تَبَادُلِ طوابِعٍ و أيضاً ساحةٍ رومانيَّةٍ؛ كذلكَ أرضٍ للخِرَقِ – خِرَقٌ تُفْرَخُ، أخيراً، في طَبَقَةٍ، عقبَ فترةِ حضانةٍ طويلةٍ، أمامَ عينِ السُّلُطَاتِ اللاّ مُصَدِّقَةِ. إنّهم، قطعاً، لَفَظَائِعٌ، أولئِكَ الأولاد – فظائعُ الصَّفِّ الابتدائيِّ الخامس. بعدَ عامٍ من الآن، حينما يصبحون في الصَّفِّ الرَّابِعِ الابْتِدَائيّ، ستُثيرُ أحذيتُهُم غبارَ شارع أمستردام، و سيترنَّحُونَ في شارعِ كِلَوْمَارْتِنْ بِكُتُبِهِم الأربعةِ المُجَلَّدَةِ بِسَيْرٍ و مُرَبَّعِ لُبَّادٍ بدلاً عن الشَّنْطَةِ المدرسيّةِ.

لكنَّهُم الآنَ في الصَّفِّ الخامسِ حيثُ غرائزُ الطِّفُولَةِ المُرَاوِغَةُ لا تزالُ مُتَمَكِّنَةً :- غرائزٌ حيوانيّةٌ، نباتيّةٌ، تكادُ ألاّ تُعَرَّفُ لأنَّها تَشْتَغِلُ في أقاليمٍ من تحتِ الذَّاكِرَةِ الواعيَةِ و تختفي بلا أثر، كبعضِ مآسي الطِّفُوْلَةِ؛ أيضاً لأنَّ الأطفالَ يتوقَّفُونَ عن الكلامِ حين يُوشِكُ الكبارُ أن يقتَرِبُوا منهم؛ يتوقَّفُونَ عن الكلامِ، يتَّخِذُونَ ملمحَ كينُوناتٍ تنتمي لنظامٍ مُختَلِفٍ من الخَلْقِ – في الحالِ يَمْسَخُوْنَ، بِمَحْضِ الإِرادَةِ، حولَ أَنْفُسِهِم حُلَّةً من الهُلُبِ، أو يتَّخذُونَ سِمتَ السّكونِ الصِّرفِ لشكلٍ ما من أشكالِ الحياةِ النَّباتِيّة. فطُقوُسُهُم مُبهَمَةٌ و لا يُسْبَرُ غَوْرُها. إنّها، كي تُعرَفَ، تتطلَّبُ مكراً لانهائيّاً، امتحاناً بالخوفِ و بالتَّعذِيبِ ممّا يستوجِبُ ضحايا، محاكمات إيجازيّة و قرابين إنسانيّة. و أسرارُهُم الخاصَّةُ، كذلكَ، لا يُمكِنُ اختِرَاقُهَا. فالمُخلِصُونَ لها منهُم يتحدّثونَ لُغةً مُلتَوِيَةً و نحنُ، حتّى لو هُيِّئَ لنا، صُدْفَةً، أن نسمعَها من غيرِ أن نُرَىْ، فلن نُزِدْ حكمتنا عنها. فكُلُّ تجارتِهِم تتعاملُ بالطّوابعِ البريديّةِ و قطعِ الرُّخامِ و تُخْرَجُ منها جِزْيَةٌ تنتفخُ بها جيُوبُ أنصافِ الآلهةِ و القادةِ. أمّا تَمْتَمَةُ المُؤامرةِ فإنّها تَتَسَتَّرُ في ضجيجٍ يصمُّ الآذان. و إذا اتُّفِقَ لأيِّ واحدٍ من تلكَ القبيلةِ المُرَفَّهَةِ، المُتَحَفِّظَةِ برهبَنَةٍ، من الفنّانين أن يَجُرَّ البَكَرَةَ المُحَرِّكَةَ لتلكَ السُّجُفِ عبرَ نافذتِهِ، فإنِّي أشُكُّ في أنَّ المنظرَ الذي سيَتَكَشَّفُ له حينئذ يُمكِنُ أن يُلفِتَهُ لأيٍّ من موضُوعاتِهِ المُفَضَّلَةِ :- لاشيءَ منهُ يُمكِنُهُ استِخدَامَهُ لصُنْعِ صورةٍ مليحةٍ ذاتِ عنوانٍ مثل " لَعِب مساحاتٍ سوداء صغيرة في عالمٍ أبيضٍ "؛ " صَدَفَاتٌ حارَّةٌ "؛ " أوغاد مَيْرِي وَيْ ".

كان هُنالكَ جليدٌ ذلك المساء. و كان يتساقطُ بثباتٍ منذُ البارحةِ، فلا غَرْوَ إنْ غيَّرَ جذريّاً تصميمَ المكانِ الأصلي. تَقَهْقَرَ ال " سَايْتَيْ " في " الزَّمانِ " إذ تَبَدَّى الجَّلِيْدُ و كأنّهُ ما عادَ مُوَزَّعاً، بحيادٍ، فوقَ كلِّ الأرضِ الحيَّةِ الدَّافئةِ و إنّما مُتَقَاطِرَاً، مُتَرَاكِمَاً على هذه البُقعةِ الواحدةِ المعزُولةِ.

الأرضُ الطِّينِيَّةُ الصَّلِبَةُ كانت قد هُضِمَتْ، خُضَّتْ و حُطِّمَتْ و دِيْسَتْ فصارت إلى شرائحٍ بفعلِ الأطفالِ الذَّاهبين إلى المدرسةِ. الجَّلِيدُ المُتْرَبُ خلَّفَ آثاراً على طولِ المجرى. لكن الجَّلِيْدَ صارَ، أيضاً، جليداً على العَتَبَاتِ، الدَّرَجَاتِ، و واجِهَاتِ المنازِلِ :- حُزَمَاً في وزنِ الرِّيشَةِ، سجَّاداتٍ، أَفَارِيْزَ، حشواً لا رأسَ لهُ و لا قعرَ، أثيريَّ، لكنّهُ كريستاليٌّ، و يبدو أنّهُ، بدلاً عن تعتِيمِ ملامحِ الحجرِ الخارجيّة، يُحْيِيْهَا فيُفْعِمُهَا بنوعٍ من النِّبُوءَةِ.

و وامضاً بالبهاءِ اللَّيِّنِ لساعةٍ شمسيّةٍ مُضيئةٍ اتَّخَذَ وهجُ الجّليد، ذاتيّ التّكاثر، طريقَهُ لسبرِ غورِ عينِ روحِ النِّعومةِ، ثمّ دَفَعَهَا قُدُماً من خللِ الحجرِ حتى صارت مرئيّةً، حتّى إذا بها ذلكَ النّسيجَ، ذلكَ الفارشَ السِّحريَّ لل" سايْتَيْ " و المُقَلِّصَ المُحَوِّلَ له إلى طيفِ حجرةِ جلوسٍ.

ذلكَ المرأى، منظوراً إليهِ من الأسفلِ، قد لا يحوي إلاّ القليل مما يستحقُّ الإطراءَ. فمصابيحُ الشّوارع قد أسقطت ضوءاً باهتاً على ما تَبَدَّى أشبه بميدانِ معركةٍ مهجورٍ. و الأرضُ، مسلوخةً بالصّقيعِ، قد تشقَّقَت فتكسّرت، كرصيفٍ مجنونٍ، إلى ألواحِ خشَبٍ مُنْفَلِقَةٍ. و أمامَ كلِّ حفرةٍ – خورٍ وقفت، مُتوعِّدةً سوءاً، كومةُ جليدٍ كالحةٌ، كأنّها كمينٌ مُحتَمَل؛ كما وقد خفقَتْ فوراتُ غازٍ في ريحٍ شماليّةٍ – شرقيّةٍ خائنةٍ و خبَّأت الحفرُ السّوداءُ و الزّوايا موتاها.

بدا الوهمُ المُتَخَلِّقُ، حينَ رُئِيَ من هذه الزّاويةِ، مختلفاً تماماً. فالبيوتُ، في عُرْفِهِ، ما عادت صناديقاً في مسرحٍ أُسطُوريٍّ، بل بيوتاً طُمِسَتْ عمداً، مَتْرَسَها سُكَّانُها لإعاقةِ تقدُّمِ العدُوِّ.

و هكذا فقد ال" سَايْتَيْ "، بأكملِهِ، نظامَهُ المدنِيَّ، شخصيّةَ السُّوق المفتوحة، ساحةَ العرضِ، و مكان المعاملات. فالعاصفةُ الثَّلجيّةُ الحادّةُ قد سيطرت عليهِ كُلِّيّاً و فرضت عليهِ دوراً عسكرياً مُحدّداً، وظيفةً استراتيجيّةً بعينِها. و عند الرابعة و عشر دقائق كانت العمليّة قد تطوّرت إلى حدٍّ يصعُبُ معه على المرء المغامرة بتجاوز رواقه دون التعرّض للخطر. تحتَ ذلكَ الرُّواق تجمّعَ جنودُ الاحتياطيِّ المركزيّ. أعدادُهُم تزايدت بالقادمين الجُّدُد الذين واصلوا الحضُورَ، فرديّاً أو ثُنائياً.

- هل رأيتَ دارْقِيلَوسْ ؟
- نعم ... لا ... لا أدري ...

هذه الإجابةُ أتت من أحدِ فَتِيَّين انغمسا في جلبِ أحدِ أوائل المُصابين إلى داخل الرّواق. كان له منديلاً مربوطاً حول ركبته فيما هو قافزٌ، على رجلٍ واحدةٍ، بينهما و مُسْتَمْسِكٌ بكتفيهما.

جاءَ السُّؤالُ من ولدٍ شاحبِ الوجهِ و ذي عينين مُغْتَمَّتَين – عيني كسيحٍ. مشى، ذلكَ الولدُ، مَشيةً عرجاء و تدلّى معطفُهُ الطّويلُ بشذُوذٍ، و كأنّهُ يُخفِي تشوُّهاً ما، بعضَ نتُوءٍ غريبٍ أو حَدَبَةً. لكنّه، حين اقتربَ من ركنٍ تكوّمت فيه حقائبُ خيشٍ مدرسيّةٍ، رمى، فجأةً، مِعطَفَهُ بعيداً كاشفاً عن طبيعةِ إعاقتِهِ. ما كانت تلكَ شيئاً زائداً، بل شنطةً ثقيلةً مُعلَّقَةً، في توازُنٍ حرجٍ، على أحد رِدْفَيْهِ. أسقطها عنهُ فكفَّ عن أن يكونَ كسيحاً؛ إلاّ أنَّ عينيه ما تغَيَّرتا.

تقدَّمَ، ذلك الولدُ، نحو المعركة.

على اليمين، حين يلتقي الممشى و الرُّواق، أُخضِعَ سجينٌ للتَّحَرِّيات. على الضّوء الخافقِ المُتَقَطَّعِ لفانوسِ غازٍ يستطيعُ المرءُ أن يرى أنّهُ صبيٌّ صغيرٌ مُعْطٍ ظهره للحائط فيما هو مُحْتَجَزٌ لدى أربعةِ أولادٍ. كان أحدُ هؤلاء يجلسُ مُتَقَرْفِصَاً بين رجليه و يلوي أُذنيه فتَصْحَبُ ذلكَ سلسلةٌ من تقلُّصاتٍ قبيحةٍ لوجهِهِ. و حتّى يُتَوَّجُ الرُّعبُ فإنَّ القناعَ الوحشيَّ، دائمَ التَّغَيُّر، الذي يُواجِهُ السّجين كان أخرساً. باكياً نشدَ أن يُغمِضَ عينيه، أن يُحَوِّلَ وجهه. لكنّه، في أيِّ لحظةٍ جاهدَ فيها لذلكَ، أمسكَ جلاّدُهُ قبضَةَ جليدٍ رماديّةً و دعكَ أُذنيه بها. ماخراً عُبابَ المجموعةِ و مُخيطاً درباً ما بينَ رامٍ و قذيفةٍ، مضى الولدُ الشَّاحبُ في سبيله. كان يبحثُ عن دارْقِيْلَوس الذي يُحبُّهُ.

ذلك الحبُّ كان وبالاً عليه؛ فهو قد حُكِمَ عليه بالحبِّ دون إنذارٍ مُسبَقٍ عن طبيعتِهِ. إنَّ داءهُ عُضَالٌ و لا شِفاءَ لهُ – حالةٌ من الرّغبةِ، عفيفةٌ، بريئةٌ من أيِّ هدفٍ أو اسمٍ.

دارقِيْلَوس هو نجمُ عارضي ال " لِيْسَيْه ". و ينبني ازدهارُ عروضه، بذاتِ المقدارِ، على الدّعمِ العامٍّ و على المعارضة العامّة. بمُجَرّد النّظر إلى خُصلاتِ شعره المُهوَّشَةِ، رُكبتيه المُخَدَّشَتَين المُدماتَين، و معطفه بجيوبه الآسرة، فقد الولدُ الشّاحبُ رأسَهُ.

المعركةُ تمنحه الشّجاعة. سيجري، سيبحثُ عن دارقِيْلَوس، سيُقاتِلُ، كتفاً بكتفٍ، دفاعاً عنهُ و سيُرِيه من أيِّ مِعدنٍ هو قد خُلِقَ.

الجّليدُ مضى طائراً، منفجراً ضدَّ المعاطف، مُلَطِّخاً الحوائط بالنِّجُومِ. هنا و هناك، بعضُ صورةٍ متناثرةٍ وقفت، بتفصيلِ رؤيةِ منظارٍ مُقَرِّبٍ، بينَ عماءٍ و آخرٍ؛ فمٌ مفغورٌ في وجهٍ أحمرٍ، يدٌ تُؤَشِّرُ – إلى من ؟ في أيِّ اتّجاهٍ ؟ ... إنّها تُؤَشِّرُ نحوه و ليس سواه. يتعثّرُ، شفتاهُ الشَّاحبتان تنفتحان لتُشَكِّلا صرخةً. تبيَّنَ هيئةَ أحدِ خُدّامِ الإله و هو واقفاً على درجاتِ بابٍ أماميٍّ. إنّهُ هو، ذلكَ الخادمُ الإلهيُّ، من يُدَبِّرُ قضاءهُ. " دَارْقْ ... ". تُبتَرُ صرختُهُ بسرعةٍ. كُرةُ جليدٍ تأتي مصطدمةً بفمه. فكّاهُ ينحشِيان بالصّقيع. لسانُهُ يُشَلُّ. ما أُتيحَ لهُ وقتٌ ليرى الضّحكةَ، و من خللِ الضّحكةِ، محاطاً بمرؤوسيه، هيئةً هي هيئةَ دارقِيْلَوس مُتوَّجَةً بخدّين مُلتهبين و شَعْرٍ مُتَطَوِّحٍ إذ هي ترتفعُ أماماً بإيماءةٍ هائلةٍ.

[رسم 1].



صعقتْهُ تماماً ضربةٌ على الصدر. ضربةٌ ثقيلةٌ. ضربةٌ رُخاميَّةُ القبضةِ؛ رُخاميَّةَُ القلبِ. ذبُلَ عقلُهُ تدريجياً إذ هو يُحيطُ بدارقِيْلَوس مستوياً على شيءٍ كالعرشِ مُضاءاً بصورةٍ فوقَ طبيعِيّةٍ فيما ذراعُهُ ساقطةً إلى الأسفلِ هامدةً.

سقط متمدداً على الأرض. نهرُ دمٍ فاضَ من فمه مُلَوِّناً ذِقْنَه ُ و خدَّهُ و مُتشَرِّباً الجّليدَ. رنّت صافراتٌ. في اللحظةِ التالية هُجِرَ ال" سَايْتَي " – فقط بَقِيَ قليلون بقرب الجّسد، ليس لإغاثته، بل لمراقبة الدّمِ بفضولٍ شره. واحدٌ أو اثنان من هؤلاء ما راقت لهما الأشياءُ فانصرفا سريعاً و هما يَهُزَّان و يُرَنِّحان رأسيهُمَا مُتَوَجِّسَيْنَ شَرَّاً. آخرون انقضُّوا على حقائبهم و انفلتُوا بعيداً. المجموعة الضَّامّة دارقِيْلَوس بَقِيَتْ على الدّرجاتِ قاطعةً الحركةِ. بعد فترةٍ ظهرت السُّلطةُ مُتَشَكِّلَةً في مُشرفِ طُلاّبِ الكُلِّيّةِ و بوّابها يتقدّمهما صبيٌّ هو قِيْرَارد الذي حيّاه بول إثرَ دخوله المعركة و الذي هبَّ للبحثِ عنهما عقب شهوده الكارثة. رفع الرّجلان الجّسد بينهما فيما التفت المشرف ليتفرّس الظّلال .
- ’ هل ذاكَ أنتَ، دارقِيْلَوس ؟ ‘
- ’ نعم، سيِّدِي ‘.
- ’ إِتْبعني ‘.
-
بدأ الموكبُ.

كم هي عظيمةٌ ميزاتُ الجّمالِ، فهي تُخضِعُ لها حتى أولئكَ اللذين لا وعيَ لهم بها. دارقِيلَوس كان مُفضّلاً لدى السّادة. لذا شعر المشرف بكلِّ الأمر المربك مزعجاً لأقصى حدٍّ.

حملوا الضّحيّة إلى مأوى المشرف حيثُ أظهرت زوجتُهُ العطوف بالغَ همَّتَها في حمّامِهِ و إنعاشِهِ.

وقف دارقِيلوس على فُرجةِ الباب تُظَاهِرُهُ ثُلَّةٌ من وجوهٍ فضُوليَّةٍ. انحني قِيرارد بجانبِ صديقِهِ و هو يُمسِكُ بيديهِ دامعاً.
- ’ أخبِرْنِي ماذا حدث، دارقيلَوسْ ؟ ‘ قال المشرف.
- ’ لا شيء يُخبَر، سيّدي. بعضُ الشّبابِ كانوا يُساقِطُونَ كِراتِ ثلجٍ. أنا طوَّحتُ واحدةً باتّجاهِهِ. لا بُدَّ أنّها كانت قاسيةً للغاية. صفعتْهُ على الصّدرِ فصوَّتَ " هَوْ ! " و وقع أرضاً. في البدءِ اعتقَدْتُ أنَّ أنفهُ كان ينزفُ لأنّ كرةً أُخرى قد ضربت وجهه ‘.
- ’ إنّ كرةَ الثّلج لا تهرِسُ ضلوعَ المرء ‘.
- ’ سيِّدي، سيِّدي ! ‘ صرخ الولدُ الذي استجابَ لذكرِ اسمِ قِيرارد :- ’ إنّه قد وضع حجراً داخلَ كرة الثّلج تلكَ؛
- ’ هل هذا صحيحٌ ؟ ‘ استفسرَ المشرف.
هزَّ دارقِيلوس كتفيه.
- ’ أليس لديكَ ما تقُولَهُ ؟
- ’ ما الفائدة ؟ .... أُنظُرْ، إنّه يفتحُ عينيه. يُستحسَنُ أن تسألهُ هو ‘.

بدأ الضّحيّةُ يُظهِرُ علائمَ حياةٍ. سحبَ قِيرارد ذراعاً تحتَ رأسِهِ فاتَّكأَ عليها.

- ’ كيفَ تشعُرُ الآن ؟ ‘
- ’ آسف ... ‘
- ’ لا حاجةَ لأن تعتذر. أنتَ كنتَ عليلاً. أُغمِيَ عليك ‘.
- ’ أَتَذَكَّرُ ذلكَ الآن ‘.
- ’ هل لديكَ أيّةَ فكرةٍ عمّا جَعَلَكَ يُغمى عليك ؟ ‘
- ’ ضربتني كرةُ ثلجٍ في الصَّدرِ ‘.
- ’ كرةُ ثلجٍ ؟ لماذا يجب أن تدفعكَ تلكَ للإغماء ؟ ‘
- ’ إنَّها الشيءُ الوحيد الذي ضربني ‘.
- ’ صديقُكَ أوعزَ لي أنّ بداخلِ تلكَ الكرةِ حجراً ‘.

رأى المريضُ دارقِيلَوس يهزُّ كتفيه.

- ’ يجب أن يكون قِيرارد قد اختُلَّ ‘. قال المُصابُ. ثمّ أضافَ :- ’ إنّ عقلَكَ قد اختلَّ. إنّها كانت فقط كرة ثلجٍ عادية. كنتُ جارياً فتوقّعتُ أن أُوَاجَهَ بصدمةٍ ما ‘.

تنفّس المشرفُ آهة ارتياح.

بدا دارقِيلَوس و كأنّهُ على وشكِ الذّهاب. ثمّ غيّرَ رأيَهُ و تقدّم خُطواتٍ قليلةً نحو الضّحيّة. لكنّه حينما بلغ كاونتر المشرف حيثُ عُرِضَت بضائعٌ كالحبرِ، الحلويّات، مسَّاكات الأقلام، وقف بُرهةً، انتزعَ بنسين من جيبه، رماهُما إلى الأسفلِ، التقطَ جَدِيلةً من نباتِ السُّوسِ – ذلك النوع الشَّائع وسط الصِّبيان و الذي يُشبِهُ أربطةَ الحذاءِ " البُوت " – عبر الصّالة، رفع يداً على هيئةِ تحيّةٍ عسكريّةٍ، ثمّ اختفى.

كان المشرفُ قد سبقَ و طلبَ تاكسيّاً، مُنتَوِياً إيصال المريض إلى منزله. لكن قِيرارد أبى عليهِ ذلكَ مُعتَبِراً أنّه غير ضروريّ. فرُؤيَةُ المشرف، كما أعلن، قد تُنْذِرُ العائلة. و عليه فإنّه
( قِيرارد ) سيُرافِقُهُ شخصياً إلى هناك.
’ على كُلٍّ ‘، أضاف قِيرارد مُخاطباً المشرف ،’ إنّهُ الآن، كما ترى، أفضَلَ كثيراً ‘.

كان المشرفُ لا يحتاجُ إلاّ لقليلٍ من الإقناعِ. فالثّلجُ كان شديداً و منزلُ الصَّبِيِّ كان في الـ"ريو مونتمارتر".

بعد مشاهدته لهما و هما يركبان التَّاكسِيَّ، و ملاحظته لقِيرارد و هو يخلَعُ مِعطفه و كُوفِيَّتَهُ ليَلُفَّهُما حول صديقه استنتج المشرفُ أنّهُ معذورٌ في ’ غُسْلِ ‘ يديهِ من أيَّةِ مسؤوليَّةٍ إضافيَّةٍ عن الأمر.

2

دارت العجلاتُ ببطءٍ على الشّارعِ الأملَسِ. مُنحشِراً في أحدِ الأركانِ، حدَّقَ قِيرارد في الرّأسِ الذي بجواره، و الذي بدا شاحباً إلى درجةٍ صيّرت الرُّكنَ الأقصى للتَّاكسيِّ مُضيئاً. كان ذلك الرّأسُ يتأرجح، بكآبةٍ، مع التَّأرجُحِ المُتَشَنِّج للتّاكسيِّ. جفناهُ المُغلقان كانا، بالكادِ، ظاهِرَين فيما مِنخاراهُ و شفتاهُ ما كانوا إلا ظلاًّ ما زالت تتناثرُ عليهِ لُطَخُ الدّمِ. تمتَمَ قِيرارد :- ’ بول ... ‘.

سمعهُ بول. لكنّه كان غارقاً في عياءٍ بلغ ثِقلُهُ حداً ما استطاع معه تحريكَ لسانه. سحبَ يداً من بينَ خِرَقِهِ و لُفافاتِهِ و وضعها على يدِ قِيْرارد.

إنَّ ردَّ فعلِ طفلٍ على هذا النّوعِ من المصائبِ مُتطَرِّفٌ و ذو حدّين. فالانتفاء علمه كيف أنَّ الحياةَ لها مرسىً ضاربٌ، بعمقٍ و قُوَّةٍ، في داخلِ موارد شفائها الرّحبة فإنّهُ يتصوّرُ، في ذاتِ الوقتِ، بسبب عدم قدرته على تخيُّل الموتِ، يظلُّ الأسوأ لا حقيقياً تماماً بالنِّسبَةِ له.

مضى قِيرارد مُردِّداً :- ’ بول يُحتَضَر؛ إنّهُ سيمُوت ‘. لكنّه ما صدَّقَ ذلكَ. فموتُ بولٍ قد يكونُ جُزءاً من الحُلُمِ؛ من حُلُمِ جليدٍ و رحيلٍ أبدِيٍّ. و رُغمَ أنّهُ يحبُّ بول كحبِّ بول لدارقِيلَوس، إلاّ أنَّ بول قد أخضعهُ له بضعفِهِ و ليس بقوَّته. دارقِيلَوس كان ذلكَ اللَّهب الذي جذبَ نظرةَ بول الهائمة الهاجسة. لذلك يجب عليه هو، قِيرارد الذي كان قوياً و عادلاً، أن يغدو راعي بول فيُراقِبُهُ خِلسَةً و يُنقِذُهُ في أيِّ لحظةٍ يبدو فيها أنّهُ على وشكِ أن يلسَعَ جناحيه بالنّار. كم كان غبيّاً حينما كان في الرُّواق ! ... مُتظاهراً، آنذاكَ، بأنّهُ لم يلحظ أنّ بول قد حضر باحثاً عن دارقِيلَوس، كان يُحدِّثُ نفسَهُ بأنّهُ قطعاً سيُلَقِّن بول درساً لن ينساه .... ذاتُ الغَصْبِ الذي دفعَ بول المفتون باتِّجاهِ المِقْلاةِ هو الذي دبَّسَ، سمَّرَ قِيرارد، بلا حراكٍ، إلى بُقعةٍ واحدةٍ. من بعيد هو رأى بول يسقط، يتمدّدُ نازفاً، فاقدَ الحسّ فقامَ في خاطِرِهِ شيءٌ ما... ذلك كان نوعاً من ميلٍ يبدو أنه قد دعاه إلى أن يُنذر المشهدَ السُّدَى بالبقاءِ على مسافةٍ منهُ. حينذاكَ ما جرأ على التدخّل خِشْيَةَ أن يُبقيه دارقِيلَوس و عصابته بعيداً عن السُّلطاتِ فمضى على عقبيهِ و جرى باحثاً عن عونٍ.

لكنَّ الآنَ عادَ الإيقاعُ المعهود، مرَّةً أُخرى، يُؤَسِّسُ سطوتَه. مرَّةً أُخرى عاد هو إلى وظيفته و هي العناية ببول. إنّه الآن قد حملهُ بعيداً. إنّهُ قد سمقَ في عالمِ حُلُمٍ خُلِقَ من نشوةٍ مُتعاليَةٍ. العجلاتُ اللاتي لا صوتَ لَهُنَّ تحته، التماعُ مصابيح الشّوارع، تشاركت جميعها مع حسِّه التّكريسيِّ في نسجِ رُقيَةٍ سحريّةٍ فهُيِّئَ له أنّ ضعف بول يتحوّل إلى حجرٍ، يكتسبُ أبعاداً عينيّةً نهائيّةً، و شعر أنه، في حملِ ذاكَ عنهُ، قد وجد قضيّةً جديرةً بقُوّته.

فجأةً صدمتهُ واقعةُ أنّه قد اتّهم دارقِيلوس. عنَّ له أنّ الضّغينةَ حملتهُ على ارتِكابِ فعلِ حقدٍ و ظُلمٍ. تذكّر بيت المشرف، ذلكَ الكتف المهزوز في استخفاف، عيون بول الزرقاء اللائمة، جهده فوقَ الإنساني ليُعلن :- ’ إنّ عقلكَ قد اختَلَّ ! ‘، و بالتالي إخلاءهُ سبيل الآثم. شعر بعدم الارتياح. حاول أن يصرف الأمر عن باله، محدثاً نفسه، في اتّجاهِ عذرِ النّفس، أنّ كرةَ ثلجٍ في يديِّ دارقِيلَوس الحديديَّتين قد تكون سلاحاً قُوَى الفتك فيه أكبرَ من تلكَ اللاتي في مِطواته ذات التّسع شَفَرَات. بول، بالتّأكيد، قد ينسى الواقعة. فعالمُ الطّفولةِ الحقيقيُّ لا بُدَّ أن يسودَ بأيِّ ثمنٍ؛ أن يُصَانَ؛ ذلك العالمُ الذي أُطعِمت صفتُهُ السِّرِّيّةُ اللحظيّةُ، البطوليّةُ، على هباءاتٍ هوائيّة، عالمٌ هو من اللاّ تناسب بحيثُ لا يستطيع صموداً أمام قبضة تحقُّقِ البالغين الوحشيّة.

مضى التّاكسيُّ مُهَرْوِلاً عبر السّماء المفتوحة. أتت النجوم نحوه و هي تُناثِرُ، على النوافذ الكَدِرَة المجلودةِ برشاشِ المطرِ، جُزئيّاتِ ضوءٍ ناريّة.

فجأةً سُمِعت صيحةٌ :- نغمتان شاكيتان- خارقتان، زاهيتان بالإنسانيِّ و هما لا إنسانيَّتان. إِرتَجَّت المصاريع. مرت سيّارةُ فريقِ الإطفاءِ عاصفةً. خلال شقوقٍ في الزجاج المغطّى بالصقيعِ استطاع قِيرارد أن يَتَبَيّنَ قواعد الماكينات، السَّلالم القُرمُزِيَّة، رجال الإطفاء واقفينَ بلا حراك، بقُبُّعاتٍ ذهبيَّةٍ في مِشكاتِهِم، مثل أشكالٍ مجازيَّةٍ على نصبٍ تذكاريٍّ. خفقةٌ مُحْمَرَّةٌ رقصت على وجهِ بول. تصَوَّرَهُ قِيرارد و هو يتعافى. لكنَّ آخرَ الزّوبعةِ انقضى تاركاً له في شحوبِ الموتى كما كان. حينذاكَ فقط تنبَّهَ إلى أنَّ اليد التي في يده كانت دافئةً ففهم أنَّ قُدرته على لعب " اللُّعبة " قد تجذَّعت عن صلتِهِ و الدِّفءِ الحيِّ هذا.

كلمةُ " اللُّعبة " هذه ليست، بأيَّةِ حالٍ، دقيقة .. لكنّها هي اللّفظ الذي انتقاهُ بول ليُؤشِّرُ به على تلكَ الوضعيّة شبه – الواعية التي يسبحُ فيها الأطفالُ مُنغَمِرِين. في هذه " اللُّعبة " هو سيِّدٌ عريقٌ؛ ربُّ الزَّمانِ و المكانِ، قاطنُ النِّجومِ الغَسَقِيَّة بين النور و الظَّلام و السَّابح في غُدرانِ الحقيقةِ و الفانتازيا المتلاطمة و الذي بنى لنفسه مملكةً في قاعةِ الدّرسِ و جلسَ على دَرَجِهِ مستوياً على العرشِ فيما انحنى له دارقِيلوس احتراماً، مُطيعاً لإرادتِهِ.

هل يكون هو لاعباً " اللُّعبة " ؟ فكَّرَ قِيرارد بينما هو يُمسِكُ بيدِ بول الدّافئة و يُحدِّقُ، بتكثيفٍ، في الوجه الخامد في ركنه.

بلا حضور بول، هذا التَّاكسيُّ قد لا يكون سوى تاكسيُّ، الجّليدُ ليس أكثرَ من جليدٍ، المصابيحُ مُجرّد مصابيح، و رحلةُ العودةِ هذه لن تكون سوى شأنٍ روتينيٍّ باهتٍ. فطبيعةُ قِيرارد هي طبيعةُ شخصٍ بلغت عاديّته حدّاً يُفقِدُهُ القدرة على أيِّ استدعاءٍ ذاتيٍّ للهذيان.

إنّ بول لَمُمْتَلِكُهُ تماماً، فتعويذتُهُ السّحريّةُ قد تخلّلت، أخيراً، جِماعَ وعيِهِ. و بدلاً عن تَعَلُّمِهِ للنّحوِ، للحسابِ، للجُّغرافيا و للتَّاريخِ الطَّبيعِيِّ فإنّهُ قد حُرِّرَ من مجالٍ للنَّومِ كهذا إذ يسري بحالمِ اليقظةِ وراءَ خطرِ الاسترجاع و يحفظ للأشياء معناها الواقعيَّ. إنَّ الأفيون المُخبّأ في أدراجِهِم – في شكلِ قطعٍ من مطّاطِ الهندِ الممضوغ و حمَّالاتِ أقلامٍ مكسورةٍ – يُزَوِّدُ هؤلاء الأطفال المُدمنين بِمُخَدِّرٍ له من الفعاليّة ما لأيِّ شرابٍ من الشَّرق.

هل كان بول لاعباً " اللُّعبة " ؟

قِيرارد يعلمُ عن " اللُّعبةِ " أشياءَ أخطرَ من أن تجعله يفترضُ أنَّ مجرّدَ أُسطولِ عرباتِ حريقٍ عابرٍ قد يُؤدِّي إلى إزعاجِهِ بشأنِها.

حاول، مرّةً أُخرى، أن يستجمع خيوط الأمر المراوغة. لكن الأوانَ قد فات. فقد بلغ التَّاكسيُّ مَوقِفَه قربَ بابِ المنزل المعنيِّ.

أنهضَ بول نفسه.

’ هل أطلبُ مساعدةً ؟ ‘ سأل قِيرارد. ’ لا حاجةَ لذلكَ ‘. أجابَ بول. ثمَّ أردفَ أنَّهُ إذا كان قِيرارد مادَّاً له يداً فإنّه سيتمكّن من تدبيرِ أمرِ السَّلالم، و أنّه إذا كان قِيرارد سيظلُّ مُمْسِكَاً بشنطته فإنّه .....

أزاح قِيرارد الشَّنطةَ بعيداً، أمسكَ ببول حول الخصر، ثمّ ابتدأ يصعد السُّلّم و ذراعُ بول اليُسرى مُتدلِّيَةً حول عنقه.

عند أوّلِ منزلٍ توقَّفَ قِيرارد و وضع عنه حمله النَّفيس على أريكةٍ خَرِبَةٍ ذاتِ ياياتٍ و حشوةٍ ناتئةٍ من خلالِ مَفْرَشٍ زاهي الخُضرةِ. ذهب نحو الباب المقابل ليده اليمنى و مسَّ الجَّرس.

سُمِعَ وقعُ خُطواتٍ. تَوَقُّفٌ. صمتٌ.

- ’ إليزابيث ! ‘ لا صوتَ هناكَ بعد.
- ’ إليزابيث ‘، ناداها قِيرارد بهمسةٍ حاثَّةٍ. ’ افتحي الباب. أولئكَ نحنُ ‘.
- ’ لن أفتح الباب ‘. نطقَ صوتٌ عنيدٌ من الجِّهةِ الأُخرى للباب.
- ’ أنا سَقِمَةٌ حتى الموت بسببكما أيُّها الصّبيين. تجيئان في هذه الساعة من الليل ! لا بدَّ أنّكما قد جُنِنْتُما. أنا قَرِفَةٌ منكما ‘.
- ’ ليزابث، افتحي افتحي الباب ‘، أصرَّ قِيرارد، ’ إِسرعي. بول مريض ‘.

تلت بُرهةُ صمتٍ. انفتح البابُ جُزئياً فقط و سُمِعَ صوتٌ قائلاً :- ’ مريض ؟ لن تستطيعا التّأثير فيَّ. أعرف أنكما تحاولان إقناعي بإدخالكما ليس إلاّ. إنكما لا تقولان الحقيقة. هل أنتما ليس كذلكَ؟ هل أنتُما؟‘
- ’ بول مريض، أنا أقولُ لكِ، فتعجَّلي تعجَّلي. إنّه على الأريكة. ‘نّه يقشعرُّ ‘.

فُتح البابُ على مصراعيه لينكشف عن فتاةٍ في السّادسة عشر لها شَبَهاً فيزيائياً شديداً ببول. فهي تمتلكُ ذاتَ العينين الزَّرقاوين المُظَلَّلتَين برموشٍ غامقةٍ و ذاتَ شحوبِ السّحنةِ. لكن بينما تشي خطوط وجهه هو بضعفٍ معيّنٍ في مُشَاكَلَتِهَا لخطوط وجهها هي فإنَّ وجهها، الذي يفوقُ وجهه بعامين و الذي يكمنُ تحتَ شعرٍ ناعمٍ مُمَوَّجٍ، قد تعدّى كونه مُخطَّطاً للبورتريه المكتملة. فذلكَ الوجه كان قد تجاوزَ مُسْبَقَاً بداياتَهُ و طفقَ يَلْتَمِسُ أصلَهُ العُضويَّ و يتراكضُ، لاهثاً، لِيُدْرِكَ جَمَالَه.

كان بياضُ إليزابيث هو أوّلُ شيءٍ حوَّمَ حول خلفيّة الصالة المُظلمة. ثمّ لاح، بعده، الشِّحوبُ المُلَطّخُ لآبرول المطبخ و هو مربوطاً حول خِصرها. كان ذلكَ الآبرول، فيما يبدو، شديدَ الطُّولَ عليها.

ما كانت تلكَ " دِعايَةً " إذاً؛ إنّها كانت حقيقةً. هكذا حدّثت نفسها و هي مبهوتةً. بعونِ قِيرارد رفعت بول عن الأريكةِ و ساعدتهُ على الدخول بينما هو مُكِبَّ الهيئةِ، برأسه الغاطسِ في صدره. في اللحظةِ التي بلغوا فيها الصالة شرع قِيرارد في سردِ تقريرٍ عمّا جرى.

- ’ أبله ‘، هسّت إليزابيث، ’ هكذا استلمتَ المجال كالعادة، فأنتَ مأمونٌ على تفتيتِ الأمرِ تفتيتاً ! هل يجب أن تصيح ؟ هل أنتَ لا تستطيع هدوءاً ؟ هل تُريد أن تسمعكَ " أُمِّي " ؟ ‘

عبروا غرفة المعيشة راسمين دائرةً حول المائدة كي يصلوا إلى غُرفةِ نومِ الأطفالِ على جهةِ اليمين.

الأثاثُ، في غرفةِ نومِ الأطفالِ، يتكوّن من سريرين صغيرين جداً، صندوق أدراجٍ، ثلاثة كراسٍ و رفِّ موقدٍ. و يربطُ الغرفةَ بالمطبخِ – غرفةِ اللّباس بابٌ يمرُّ بين السّريرين، فيما يتباهى ذاتُ المطبخ – غرفة اللباس بمدخلٍ ثانٍ من جهةِ الصالة.

تلكَ كانت غرفةَ نومٍ يُجْفِلُ مرآها العينَ غيرَ المعتادة. فهي، إن ما كان هنالكَ سريرين، تبدو – للناظر- غرفةً لسَقْطِ المَتاع. إنّ أرضها لَمُتناثِرةً فيها صناديقٌ فارغةٌ، بشاكير و مُختَلف أشكالِ الألبسةِ الدّاخليّة. و بجانب أولئكَ هي قد زُيِّنَت بسجَّادةٍ واحدةٍ باليةٍ. و يحتلُّ موقعاً مركزياً من رفِّ الموقد تمثالُ كلسٍ نصفيٌّ أُبرِزت ملامحُهُ بعينين مُحبَّرَتَين و شاربٍ. ثمّ أنّ كلَّ بوصةٍ شاغرةٍ في فضاء الحائط قد ثُبِّتت فيها دبابيسُ رسمٍ " خَوْزَقَتْ " أوراقَ جرائدٍ، صَفحاتٍ مُزِّقَتْ من مجلاتٍ، لوائحَ، صورَ نجومِ سينما، قَتَلَةً و ملاكمين.

إرتادت إليزابيث الطريقَ ساخطةً، سابّةً، و فارضةً لها درباً بين الصناديق بفعل لكماتٍ عنيفةٍ مُوجَّهةٍ يُمنةً و يُسرةً. و بعد لأيٍ مددوه على السرير وسط كومةِ كتبٍ مُقَلّبَةٍ. ثمّ حكى قِيرارد حكايته.

’ كفى .. ! .. كفى ! ‘، انفجرت إليزابيث. ’ هنا أنا، مُقيَّدةً يداً و قدماً إلى أُمِّي المسكينة المريضة، فيما أنتُما تتقاذفان بكراتِ الثلج. ثُنائيٌّ عزيز، يجب أن أقول. أُمِّي المسكينة المريضة ‘. قالت العبارة الأخيرة مرّةً أخرى و هي باديةَ التَّأثُّر و الرّضا بها و بحسِّ الكرامةِ الذي منحتها إيّاه. ’ أنا أرعى أُمّي على فراشِ مرضها فيما أنتما تُرفِّهان عن نفسيكما بكراتِ الثّلج. أُراهنُ على أنَّكَ أنتَ، كالعادة، هو من جعل بول يفعلُ ذلكَ. أنتَ، أيُّها الأبله !‘

أمسِكَ قِيرارد لسانه. إنّه معتادٌ على الإنشاءِ الانفعاليِّ المصحوب بعاميّةِ صبيِّ المدرسةِ الذي يَتَصَنَّعانَهُ ( هي و بول ) فيما بينهما، تماماً كما على وضعيّةِ التّوتُّرِ العصبيِّ الملازمة دوماً لعلاقتهما. لكنه ظلَّ خجِلاً، رغمَ ذلك التّعوُّد، و ما استطاع أن يكون غيرَ منزعجٍ قليلاً بذلك.

- ’ من الذي سيُمارضُ بول ‘، واصلت إليزابيث الحديث، ’ أنتَ أم أنا ؟ لم أنتَ واقفاً هناك مُحدّقاً فيَّ ؟ ‘
- ’ لِبِي، عزيزتي ... ‘
- ’ أنا لستُ ’ لِبِي ‘ و لستُ عزيزتك. من فضلك احفظْ لسانك، مهذّباً، في رأسك. عدا هذا ... ‘

صوتٌ بعيدٌ دخل عليهما :-
- ’ قِيرارد، أيُّها الشابُّ العجوز ‘، تمتم بول، ’ لا تضع اعتباراً للوغدة، فشأنُها مُضجرٌ ،.
اهتاجت إليزابيث :-
- ’ آهٍ، أنا وغدة، أليسَ كذلك ؟ حسناً، أيُّها الكلبان القذران، أنا مُغادرة، تستطيعان تماماً، عليكما اللعنة، تدبير شأنكما. إنها النهاية. تصوّروني أهتمُّ بأمرِ جحشٍ واهن القوى لا يستطيع أن يُجابه كرةَ ثلجٍ صغيرة غير مؤذية ! أُنظُرْ، قِيرارد ‘، واصلت إليزابيث الحديث بلا انقطاع، ’ انتبه ‘. نفَّذت ضربةً عاليةً عنيفةً مُفاجِأَةً طوّحت بقدمها اليمنى إلى مستوىً أعلى من رأسها. ’ كنتُ مُمارسةً لذلك لأسابيع ‘. كرّرت العرض. ’ و الآن غَادِرْ ! هيّا تحرَّكْ ‘.

أشارت إلى الباب. تردد قِيرارد في فُرجَتِهِ :- ’ رُبّما ‘، قال مُتلجْلِجَاً، ’ يجب علينا أن نستدعي طبيباً ... ‘

رفعت إليزابيث إحدى رجليها عالياً :- ’ طبيب ؟ كنتُ مُؤَمِّلةً كثيراً في أن أُجني فائدةً من استشارتك. ما معنى أن يكون المرءُ ذكياً ! ربّما التمستُ، بتواضُعٍ، مقدم الدكتور ليرى أمي في السابعة و فكّرتُ في جعله يُلقي نظرةً على بول. إذْهَبْ الآن، إغرُبْ عنِّي ! ‘ ثم أضافت، إذ رأت أنَّ قِيرارد لا يزال مُحوِّماً حولها بتردُّدٍ :- ’ أم أنّكَ، بحكمِ مصادفةٍ ما، قد صرتَ رجلَ طبٍّ ؟ آهٍ، أأنتَ لستَ كذلك ؟ ... إذاً غادِرْ هذا المنزل. " هلاَّ ذهبْت " ... ‘

ضربت الأرض بقدمها و شعّت عيناها فولاذاً. و فيما هو مُتخَبِّطاً في تراجُعٍ عَجِلٍ إلى الوراء و عبرَ حجرةِ المعيشة المظلمة أطاح قِيرارد بكرسيٍّ. ’ أبله ! أبله ! ‘، قالت مُكرّرةً، ’ لا ترفعه. إنّكَ فقط قد تُطيح بكرسيٍّ آخر، إن فعلتَ ذلك. تَعَجّلْ، بحقِّ السّماء ! ثمّ حاذِرْ ألاّ تصفق الباب ‘.

تذكّر قِيرارد، أثناء هبوطه، أنَّ التّاكسيَّ لا يزال منتظراً و أنّه لا يملك قرشاً واحداً في جيوبه. لم يجرأ على قرع الجّرس مرةً أُخرى. إنّها ( إليزابيث ) ستتجاهله. أو، إن لم تتجاهله، فإنّها قد تكون توقّعته أن يكون الطّبيب. لكن حينما تستبين أنه ليس الأخير، بل قِيرارد، فإنّها ستسلخهُ بلسانها.

كان قِيرارد يعيشُ مع وليِّ أمره، فهو ابن أخته، في شارع لافَايْتَي. لذا قرر أن يستمرَّ في استقلال التّاكسيِّ حتى يبلغ المنزل، ثمَّ يشرح الوضع لخاله و يستميله إلى دفعِ الفاتورة بأكملها.

غطس في ركن التّاكسيِّ الذي كان بول قابعاً فيه. ثمّ عَمَدَ إلى تركِ رأسه ينثني إلى الوراء مستسلماً، كما كان بول، إلى الياياتِ المُرتجّة. لم يبذل أيَّ محاولةٍ للعب " اللُّعبة ". كان يحسُّ بالقهرِ. فقد انتهت رحلته الخرافيّة و هو الآن قد عاد إلى ذاتِ مناخ الانكسار الذي يكتنفُ علاقة إليزابيث و بول. إنّها ( إليزابيث ) قد حطّمت حُلُمَهُ ببول و هو في ضعفِه السّاذج؛ طعنَتْهُ حدَّ اليقظةِ بِتَذْكِرَاتِها له بنزواته الأنانيّة. فبول، في علاقته بدارقِيلَوس،
بول – الضّحيّة، بول المُنهزم، ليس هو ذلك ال ’ بول ‘ الذي هو، قِيرارد، أسيراً له.

إنَّ هناكَ شيئاً من الانحراف، من هوسٍ يكادُ يكون نيكروفيليّاً [ من " نيكروفيليا "، و تلك هيَ مُصطلحٌ سايكولوجيٌّ – باراسايكولوجيٌّ يعني الهوس الجِّنسيّ بالأجساد الميّتة – المترجم ]، في المتع اللذيذة لتلك الرحلة مع صبيٍّ فاقد الوعي. لكن ذلكَ لا يعني أنه قد يتصوّر الأمر وفقَ هذا المصطلح السايكوباتِيِّ القحِّ. على كلٍّ، هو قد أحسَّ أنَّ إغماءةَ بول و الجليد المتساقط قد ساهما معاً في خلقِ وهمٍ ما. فبول قد بدا له، آنذاكَ، غائباً، ميّتاً. فقط كان الوهج المُحمرُّ الذي عكستهُ عرباتُ الإطفاء المسرعة يُضفي عليه، حينذاكَ، حياةً زائفةً. هو قد فهم إليزابيث – طبعاً هو قد أدركَ أنَّ مودَّتها نحوه ليست سوى امتدادٍ لعبادتها لشقيقها. أوه، نعم إنّه صديقهما الذي شهدَ شحناتِ حبِّهما المفرط، النّظرات العاصفة اللاّتي تبادلاها، صدام تخيُّلاتهما المتصارعة و لسانيهما الحاقدين. أمال نفسه، في التَّاكسيِّ، بتمهُّلٍ إلى الخلف، ثمّ تركَ رأسه يتدحرج جيئةً و ذهابا. شعر بالبرودةِ الجَّافّةِ على ظهرِ عنقه فشرع في ردِّ عالمه إلى نِسَبٍ تتوافق و الحسِّ العام. لكن مدخلاً عقلياً إلى العالم له مساوئ بنفسِ القدر الذي له محاسن. فإن كان، من جهةٍ، يُمكّنه من اسْتِبَانَةِ قلبٍ رهيفٍ كامنٍ تحتَ فظاظةِ إليزابيث الظّاهرة فإنّه، من الجِّهةِ الأخرى، يُجْبِرُهُ على أن يرى انقباضَ بول على ما هو قد كان عليه :- نوبة إغماءٍ واقعيّة لشخصٍ راشدٍ تُنذِرُ باحتمالاتٍ خَطِرَة.

توقّف التّاكسيُّ أمام الباب الأمامي لداره. و بعد أن بذل كلَّ ما استطاع ليُطَيِّب خاطر السّائق السّاخط اندفع إلى أعلى المنزل ليجد خاله الذي وهب لأمره عطفاً و اهتماماً ناجزين.

هبط، مرّةً أخرى، إلى أسفل المنزل. الشارع كان يمتدُّ فضاءاً ما وَسِعَ العين أن ترى. خالياً كان من كلِّ شيءٍ سوى الجّليد. من المُرجَّح أنَّ السّائق قد أدخلَ يده في جيبه، التقطَ أُجرةً أُخرى بُغيةَ تسوية المبلغ الذي سبقَ و سجّلَهُ المقياس، ثمّ ساقَ سيّارته و ذهب. وضع قِيرارد مالَ خاله في جيبه. فكَّرَ :- ’ سأحتفظُ به و لن أقولَ شيئاً. سأستخدمه في شراء هدية لإليزابيث. ذلكَ حتى يكون لي عذرٌ لأذهب إليها في المنزل و أراها، و من ثمَّ أعرف المزيد من الأخبار ‘.

في ذلك الأثناء، و بعد دحرها لقِيرارد، كانت إليزابيث في " الرِّيو مونمارتر " برفقةِ أُمِّها. كانت الأمُّ المريضةُ مُستَلْقِيَةً، و عينيها مغلقتين، في حجرةِ نومٍ مفتوحةٍ على حجرةِ جلوسٍ رثَّةٍ تقع على الجّانب الأيسر من الشَّقَة. قبل أربعة أشهر كانت خلت كانت هذه المرأةُ شابّةً مفعمةً بالحياة. ثمَّ، بلا إنذارٍ، هدَّ الشَّلَلُ قواها فبدت، الآن، مثل امرأةٍ عجوز. كانت في الخامسة و الثلاثين و بها حنينٌ إلى الموت. إنَّ تلكَ المرأةَ قد سُحِرَتْ، ذُلِّلَتْ، ثمَّ، أخيراً، هُجِرَتْ من قِبَلِ زوجٍها لثلاثةِ أعوامٍ. دَرَجَ ذلك الزوج على زيارةِ عائلته لُمَامَاً فقط و لفتراتٍ قصيرةٍ. و بما أنه، آنذاكَ، قد أُصيبَ بتلَيُّفِ الكبدِ فإنّهُ، خلال تلكَ الزِّيارات، قد صار يُلَوِّح بِمُسَدَّسَاتِهِ مُهدِّداً بالانتحار، ثمّ يأمر العائلة بتمريضه كربٍّ للبيتِ. فخليلتُهُ التي عاش معها وقتذاك رفضت تلك المهمة و باتت تلفظُهُ خارجاً كلَّما داهمته نوباتُ المرض. لذا فهو قد اعتاد أن يرجع إلى منزلها ما أن يشعر بالتّحسّن. في أحد الأيام جاء إلى منزل عائلته مغتاظاً متخبِّطاً. مضى إلى سريره. وجد نفسه لا يستطيع النهوض منه مرةً أخرى. ثمّ مات، واهباً، بذلكَ، نهايته لزوجةٍ كان مُنكِراً لها في حياته.

انفعالُ تمرّدٍ قد صيّرَ هذه المرأةَ، الآن، إلى أُمٍّ مهملةٍ لأطفالها فغشت الأنديةَ الليليّة، اتَّخذت لنفسها هيئةَ عاهرةٍ، صَرَفَتْ وصيفتها عنها مرّةً كلَّ أسبوعٍ، تسوَّلت و استدانت بلا تبصُّرٍ.

ورثت إليزابيث – كما و بول – عن أمها شحوبها و انخطاف مُحَيّاها. أما ميراثهما من اللا استقرار، التّقلّب المزاجيّ المفرط و الأناقة الطبيعيّة فهو قد واتاهما عن أبيهما.

الآنَ، إذ هي راقدةً هناك، كانت الأمُّ تُسائلُ نفسها :- ’ لماذا أستمرُّ في الحياة ؟ ‘ فطبيبي صديقٌ قديمٌ، لذا يُمكنُهُ أن يُولي الأطفالَ عنايته و يرى إلى أنهم لا ينتهونَ إلى الأسى. إنّها قد أضحت مسؤوليَّةً لا رجاءَ وراءها :- حجرَ طاحونٍ مُعلَّقاً على رقبةِ ابنتِها؛ عبئاً عليهم كلّهم.

- ’ هل أنتِ نائمةٌ يا أمّي ؟ ‘
- ’ لا، أنا نَعِسَةٌ ليس إلاّ ‘.
- ’ بول قد أجهدَ نفسهُ و أنا أودعتَهُ سريره. سأسأل الدكتور أن يراه ‘.
- ’ هل هو يتألّم ؟ ‘
- ’ يقولُ إنّهُ يتأذَّى حين يُمشي. إنّهُ يُبْلِغُكِ الحبَّ. قد حصلَ على ما يُريده من صُحفٍ، وهو الآن يقوم بقطعِ أجزاءٍ منها ‘.

تأوّهت المرأةُ العليلةُ؛ خبا اهتمامها بالأمر. فهي ذاتُ أنانيّةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عن المعاناة، كما و أنَّ لها عادةً مستقرَّةً من الاعتماد على ابنتها.

- ’ ماذا عن خادمة ؟‘
- ، أستطيعُ التَّدُبُّرَ بدونها ‘.

آبت إليزابيث إلى مقرِّها. وجدت بول راقداً على السرير و وجهه مستقبلاً الحائط. وقفت إزاءه و قالت :- ’ هل أنتَ نائمٌ ؟ ‘
- ’ دعيني وحدي ‘.
- ’ هذا، قطعاً، غايةَ التَّهذيب ! أخلاقٌ مليحة ! أعتقدُ أنّكَ قد ذهبتَ بعيداً [ ’ يذهبُ/ تذهبُ بعيداً ‘، مصطلحٌ خاصٌّ في " اللُّعبة ". مثلاً، هم، على منواله، يقولون :- ’ أنا سأذهبُ بعيداً ‘؛ ’ أنا ذاهبٌ
بعيداً ‘؛ ’ أنا ذهبتُ بعيداً ‘ ). فإذا أزعجتَ ’ لاعباً ‘ آن بلوغ المرحلة الثالثة من الذَّهاب ( مرحلة ’ أنا ذهبتُ بعيداً ‘ ) فإنَّ ذلكَ يُعدُّ غير مغتَفَر ]. أنا هنا أكدحُ و أستعبِدُ نفسي، فيما أنتَ ’ تذهبُ بعيداً ‘. إنّكَ لفظٌّ؛ فظٌّ بصورةٍ مُقرِفَةٍ. هيّا، ارفع قدمك عالياً و دعني أخلع عنكَ نعليك. إنَّ قدميكَ مُتجمِّدتان. انتَظِرْ ... سأجلب لكَ زجاجةَ ماءٍ ساخنٍ ‘.

وضعت حذاءيه المُطَيَّنَين على رفِّ الموقد، بجوار التّمثال النّصفيّ، ثمّ تلاشت في المطبخ. حاليّاً تُسْتَطَاعُ أن تُسمعَ و هي تُضيءُ الغاز. قفلت عائدةً، بعد ذلك، و شرعت في خلعِ ملابسِ بول عنه. أطلقَ غمغمةً، لكنه لم يُبد احتجاجاً أبعدَ من ذلكَ، بل أطاع، بين الفينة و الأخرى، مناشداتٍ مثل :- ’ ارفَعْ رأسِكَ ‘؛ ’ أرفَعْ رجلك ‘؛ ’ هلاّ استطعتَ، من فضلِكَ، إيقافَ تصنُّع الموت هذا ؟ يبدو أني لن أتمكن أبداً من تنحيةِ هذا الكم ‘.

و فيما هي نازعة ملابسه عنه أخلت جيوبه من محتوياتٍ شتّى :- بند 1- منديلٌ ملطّخٌ بالحبرِ، بند 2- طُعمُ سمكٍ، بند 3- لوزِنْقَسْ [ نوعٌ من الحلوى الصّمغيّة – المترجم ] ملصقةً مع بعضها بزغبٍ. رمت بكلِّ أولئكَ على الأرضِ. أما بقيةُ المؤونة المشتملة على يدِ عاجٍ صغيرةٍ، قطعةِ رخامٍ، غطاء قلم فاونتين، فإنّها قد أودعتها أحد أدراج دولاب الملابس.

في ذلكَ الدَّرَج كان الكنزُ؛ كنزٌ يستحيلُ وصفه لأنّ متنوّعات الأشياء المختلفة في الدّرج المعنيّ قد جُرِّدَت، إلى حدٍّ كبيرٍ، من وظيفتها الأساسيّة فغدت، بذلكَ، مشحونةً بالرّمزيّة، و ما بقِيَ منها بعد ليس إلاّ ثمة ما بدا أنّه مجرّد نفايات قديمة :- زجاجات اسبرين فارغة، حلقات معدنية، مفاتيح، دبابيس شعر ... أشياء تافهة و لا قيمةَ لها، اللّهُمّ إلاّ لعينٍ مدرَّبَة – لأسبابٍ شخصيّةٍ أو استثنائيّة – على أن تقرأ فيها " معنىً " ما.

ملأت إليزابيث الزجاجة الفارغة و زَلَقَتْهَا بين الملاءات. نزعت عنه قميص النّهار فعرّتهُ كأرنبٍ. سبَّتْهُ. وضعت عليهِ قميص النّوم. و في ذلكَ كلّه كانت، كالعادة، فاقدةً لأيِّ مقاومةٍ لسطوةِ حسنِ و جمالِ جسده اللذين ذوَّباها لحدٍّ كاد يُدمِعُها. هيّأتهُ للنّوم. رتّبت وضعه على السرير. ثمّ قالت، بإشارةِ انتباذٍ صغيرةٍ :- ’ نَمْ، أيّها العبيط ‘. بعد ذلكَ، إذ هي مُستدعِيَةً نظرةَ تركيزٍ مهووسة، شرعت في أداءِ بضعةِ تمارينٍ ... أجفلت على وقعِ الرّنين الخفيف لجرسِ الباب الأمامي؛ فهو قد حُشِيَ بقطعةِ قماشٍ كي تَكتمَ صوته فأضحى مسموعاً بالكاد. الطّبيبُ جاء. خفّت للقائه، خَمشَت معطفه لتجرّه ناحية مرقد بول فيما فاضت شروحاً.

’ اذهبِي و ائتِ بمقياسِ الحرارة، ثمّ انطلقي به إلى حيثُ المريض، أيّتها الفتاة الطيّبة. تستطيعين الانتظار، بعد ذلكَ، في حجرة الجلوس، فأنا سأفحص صدره و لا أحبُّ أن يكون لديَّ مشاهدين‘. هكذا تحدّث الطبيب.

عبرت إليزابيث حجرة المعيشة و ذهبت إلى حجرة الجلوس. هنا أيضاً كان الجليد منهمكاً في عمله السّحريِّ. فالحجرة، بفعله، قد تعلّقت في منتصف الهواء و تدلّت هناك بإعجازٍ. متغيِّرةً صارت و غير مألوفة للطفلة التي وقفت هناك، جامدةً كطوبةٍ و محدِّقَةً خاف أحد كراسي الجّلوس. أما الرصيف المقابل فقد طبع إِشراقُهُ، المُضاء بالمصابيح، على السقف أشكالاً لنوافذٍ صُنِعَتْ من مُربَّعاتٍ من ظلٍّ و نصفِ ظلٍّ أُسدِلَت عليه ستائرٌ من أرابيسكاتِ ضوءٍ. على هذا الأساس دارت، مُتلاشِيَةً كأنّها تصاويرٌ متحرِّكةٌ على جصٍّ، أشكالٌ ظلِّيَّةٌ لعابرين.

أضافت المرآةُ، التي بدت الحياةُ تدبُّ فيها الآن، إذ هي تكشفُ في أعماقها عن طيفِ هيئةٍ ساكنةٍ مُنتصِبَةٍ في المُنتصَفِ بين البلاطِ و الإفريز، لمسةَ انمساخٍ إضافيَّةٍ لهذا البيت الأثيريِّ الذي باتت، بين الفينة و الأخرى، تجرُفُهُ، تحتَ غبشِ ضوئها الغامر، أضواءُ المصابيح الأمامية لعربةٍ عابرةٍ.

حاولت إليزابيث أن تلعب " اللُّعبة "، لكنها وجدت نفسها غير قادرةٍ عليها. فقلبُها، معتمداً، مثل قلب قِيرارد، على إدراكه أنّ أسطورتها الخاصة قد لا تستوعب ضمنها حادثةَ كرة الثلج و نتائجها، أضحى يقرعُ جرسَ إنذارٍ ... فتلكَ أحداثٌ تنتمي لعالمٍ ما عَرِفَتْهُ بعد؛ عالمٌ ملؤهُ الخوف و الأطبّاء؛ عالمٌ ناسُهُ يقيسون الحرارة، ثمّ يدركون موتهم.

في ومضةٍ رأت اليزابيث حقيقة الأمر :- أُمُّها مشلولةٌ، أخوها يُحْتَضَر، لا معينٌ في المنزل، لا حبٌّ، الخزانةُ خاليةٌ، فَتَاتٌ باردٌ، بسكويتٌ جافٌّ يُقضَمُ في ساعاتٍ مُخَالِفَةٍ، ثمّ ... لا شيء – ربّما طاسُ مَرَقٍ خلّفها جارٌ وراءه.

في إطارِ أسطورتهما صار استهلاك كميّات كبيرة من السُّكّر الحاف في الفراش تقليداً راسخاً لديهما - مُصَاحَبَةً
مُحصِّنَةً لفترات شجارهما الاحتفاليّة حول الكتب. هما يقرآن ذاتَ الكتب، كرَّةً ثمَّ كرَّةً أخرى. يتنازعان عليها، فيما بينهما، بحدَّةٍ. يلتهمانها في رعونةٍ نهمةٍ هادِفَيْنَ، بذلكَ، إلى أن يصلا حدَّ الشّبع، ومن ثمَّ النّفور، منها ... و هكذا تبدأ " اللُّعبةُ " التي ما صُمِّمَت مرحلتُها الافتتاحيّة هذه إلاّ على شَبَهِ أيِّ مرحلةٍ أُخرى منها – بدءاً من التَّهيئةِ الطَّقسيّة للسّريرين، تسويتهما و إزالة النِّفايات عنهما - على أن يخدمَ ذلكَ جميعُهُ غايتها الوحيدة و يُعطيها أجنحةً للتَّحليق.

كانت اليزابيث قد ذهبت بعيداً في الشّرود حينما سمعت اسمها يُنادى :- ’ لِزِي !‘ صدر ذلك النداء عن الطبيب فصدمها بإعادتها إلى عالم الأسى. فتحت الباب. ’ تعالي الآن ‘، قال الطبيب، ’ لا داعي لأن تُثْقِلِي الجّوَّ تأثُّراً بالأمر. إنّ مرضهُ ليس خطيراً. حالتُهُ تستدعي الاهتمام، لكنّها – إن تعلمي – ليست خَطِرَة. إنَّ أخفَّ لكمةٍ على صدرٍ ضعيفٍ كصدره ..... لا مدرسة بعد اليوم – ذاك شيءٌ غيرُ خاضعٍ للنّقاش – الرّاحة، الرّاحة، ثمَّ أيضاً
" الرَّاحة ". كنتِ مُحقَّةً في أن تُخبري أُمَّكِّ أنَّ الأمر لا يعدو كونه فتوراً – لا نريد لها أن تنزعج. إنَّكِ فتاةٌ عاقلةٌ و أنا أستطيعُ الاعتماد عليك. هل لي في كلمةٍ مع خادمتكم ؟ ‘
- ’ ما عادت لدينا خادمة ‘.
- ’ عظيم. سأُرسِلُ إليكم ممرضتين غداً. إنّهما ستتناوبان إدارة المنزل و ستقومان بالتَّسَوُّق. أنتِ ستكونين رئيستهما طبعاً ‘.

لم تشكره. إنّها قد اعتادت على المعجزات كجزءٍ من الحياة اليومية. إنّها قد توقعت حدوثها، و قد حدثت دائماً.

أنهى الطبيب زيارته الروتينية لمريضه الآخر، ثمَّ غادر المكان.

نام بول. ظلّت اليزابيث بجواره و هي تُنصت لصوتِ تنفُّسِهِ فاستنفذت، بذلكَ، غضبها المحتدم أو، بالأحرى، تحوُّلَ ذلكَ الغضب، في نفسها، إلى تأمُّلٍ مشوبٍ بعاطفةٍ رقيقةٍ. سَقِمَاً و نائماً، صار بول منكشفاً للتَّقَصِّي، لكنه مُحصَّنٌ ضدَّ الإغاظة. استطاعت اليزابيث – الآن – أن تفحص اللُّطخ الغامقة الزُّرقة تحت جفونه، امتلاء شفته العليا و حافّتها الأمامية. كما و استطاعت، كذلك، أن تُلقي برأسها على ذراعه الصبيانيّة. ما هذا الزئير في
أُذنيها ؟ و فيما هي سادَّةً إحدى أذنيها جهدت في التَّصَنُّت فسمعت نبضاتها الطارقة و هي تُضخِّم نبضاته، أعلى، فأعلى ؟ ... فزِعت. بالتّأكيد، إذا استمرَّ الأمرُ هكذا فينبغي أن يعني الموت. ’ اسْتَيْقِظْ ! ‘، صاحت به، إذ أحسَّت بأنَّها يجب أن تُوقظَهُ.
- ’ حبيبي ! ‘
- ’ ماما ؟ ماذا تُريدين ؟ ‘ تمطَّى. واجههُ وجهُها المنخسف.
- ’ ما الأمر ؟ هل جُننتِ ؟ ‘
- ’ أأنا مجنونة ؟! ‘
- ’ نعم، أنتِ كذلك. كم أنتِ مُكَدِّرَةً للمزاج ! هلاّ تركتِ شابّاً يريد أن ينام و شأنه ؟ ‘
- ’ ... ’ بعضُ ‘ الناس يستطيعون الاكتفاء بقليلٍ من النوم. لكن، يا عزيزي، لا ! ينبغي ’ لهم ‘ أن يصغُوا إلى مناكفةِ الآخرين ‘.
- ’ أيُّ مناكفةٍ ؟ ‘
- ’ مناكفةٌ مزعجةٌ للغاية ‘.
- ’ بلهاء ! ‘
- ’أنا كنتُ أُريدُ أن أقولَ لكَ شيئاً– بعضَ أخبارٍ مثيرة. لكن، بما أنني بلهاء، ما عدتُ أكترث لذلك ‘.

شحذ أُذنيه. أنباءٌ مثيرة ؟ ... لكنّه قد شمَّ " فأراً " [ كنايةً عن تلمُّسِ خدعةٍ ما – المترجم ]. إنه لن يدع نفسه يُؤخذ بسهولة. ’ تستطيعينَ أن تحتفظي بأنبائك القديمة ‘، قال بول،’ أنا لا أهتمّ بها البتّة ‘.

خلعت ملابسها. لا أحدٌ منهما يعرف معنى الحرج في حضور الآخر. فهذه الحجرة التي يتقاسمان ليست سوى قوقعة يعيشان فيها، يغتسلان، يرتديان ملابسهما بطبيعيةِ توأمين ما هما إلاّ نِصْفَي جسدٍ واحدٍ.

و ضَعَتْ صحناً من لحمٍ مجفّفٍ باردٍ، بضعةَ موزاتٍ، و كوباً من الحليب، بجوارِ رأسه. ثمّ، لنفسها، أحضَرَتْ زجاجةَ عصير زنجبيل و قليلاً من البسكويت الحلو. رَقَدَتْ على السَّريرِ و فتحت كتاباً. قرأت في كتابها و مضغت الطّعام في هدوءٍ إلى أن تحدَّثَ بول، إذ التهمه الفضولُ فجأةً، مُناشداً إيّاها إطلاعه على حكم الطبيب في شأنه. ليس ذلكَ لأنَّ به رغبةٌ في معرفةِ ذاكَ كرأيٍ طبِّيٍّ بحت، و إنّما الأخبارُ – حيثُ غَلُبَ ظنُّهُ أنّها مرتبطةٌ بالأمرِ بكيفيَّةٍ ما – هي التي كانت صنَّارتُهُ هادفةً أن تصطاد.

استمرّت اليزابيث في مضغِ طعامها و عينيها مُغمضَتَين على صفحةِ الكتاب، بينما هي تتفكَّرُ في ورطتها. كانت فاترةً عن " تنويرِهِ " بإجابةِ الطّبيب عمّا سألها عنه لكنّها، في ذاتِ الوقتِ، أحسّت أنّ لا حكمةً تُرى في رفضِ ذلك مباشرةً. أخيراً قذفَتْهُ، في إشارةٍ بعيدة المغزى، ببعضِ ما قال الطبيب :- ’ قال إنّكَ سوف لا تعود إلى المدرسة ‘.

أغلقَ بول عينيه. تثاءبت أمامه مراءٍ لا تُطاق و فيها جميعاً يتلاشى دارقِيلَوس هابطاً إلى الأسفل؛ دارقِيلَوس، إلى الأبد – أينما وجَّهَ نظراً أو انتباهاً – غائباً مُطلقَاً عن المستقبل. كان الألمُ حادّاً جدّاً فصاح :-
- ’ لِزِي ! ‘
- ’ ماذا ؟ ‘
- ’ أنا لا أشعرُ بأنِّي مُعافىً ‘.
- ’ ماذا بكَ الآن ؟ ‘

نهضت. تعثَّرت، فإحدى القدمين قد باتت نائمةً. ’ ماذا تُريد ؟ ‘، واصَلَت الحديثَ. ’ أُريدُكِ أن تبقِي معي، بجوارِ سريري ‘.

انهمرت الدموع على وجهه. بكى كما يُبكي الأطفال الصِّغار جدّاً. تمرَّغَ في الدَّمع و المُخاط و تمطَّت شفتُهُ السُّفلى إلى الأمام. جرّت سريرها عبر بلاط المطبخ، مقرِّبَةً إيّاه من سريره، ثمّ عاودت الرُّقاد. مدّت يدها، عبر الكُرسيِّ المفرِّق بينهما، إلى يده و شرعت تُلاطِفُها.

’ أُنْظُرُوا ‘، قالت اليزابيث، ’ انظُروا ! انظُروا ... من هو التَّيس الأحمق ؟ تقولُ له إنه لن يُعاود الذّهاب إلى المدرسة فإذا به كلّه زعيقاً. فقط فكِّرْ ! ... إننا لن نحتاج أبداً أن نخرج من هذه الحجرة. الآن سيكون لدينا ممرِّضتان ترتديان ثياباً بيضاء. الطبيبُ وعدني بذلك. لذا أنا لن أتركك إلا حين أذهبُ لشراء حلوى أو كُتُباً ‘.

لم تتوقّف دموعه عن الهطول و هي تتري خطوطاً على وجهه المبلّل المصفَرَّ شحوباً و تناثرت على وسادته.

محتارةً، مأخوذةً بأمرِه عضّت اليزابيث شفتها و قالت :-
- ’ هل لديكَ ارتفاعٌ في خفقانِ القلب ؟ ‘
- ’ لا ‘.
- ’ هل أنتَ حريصٌ على دروسِكَ لهذه الدَّرجة البعيدة ؟ ‘
- ’ لا ‘.
- ’ إذاً ماذا، بحقِّ هذه الدّنيا ‘ ... اسْمَعْ ... فلْتَنْفَقِعْ ... ‘ هزَّت ذراعه، ’ هل تُريد أن تلعبَ " اللُّعبة " ؟ امْسَحْ أنفك. انظُرْ إليَّ. أنا سأنَوِّمُكَ مغناطيسياً ‘.

انحنت عليه وهي تُوَسِّعُ عينيها إلى مداهما الأقصى.

بكى بول و تشنّج. بدأت اليزابيث تشعر بالتّعب. هي أرادت أن تلعب " اللُّعبة "، أن تُنَوِّمُهُ مغناطيسياً، أن تُسْرِي عنه، أن تفهمهُ و تُحسَّهُ. لكن النوم كان يُلقي بثقله عليها مُغْشِيَاً على عقلها أشعةً عريضةً مُعتمةً كأنوارِ مصابيحِ عربةٍ أماميّةٍ مُتَخَلِّلَةً للجَّليد و ماحيةً لكلِّ جهودها.

في اليوم التالي دخل البيتَ تحوُّلٌ جذريٌّ، فقد أُعيدَ ترتيبُهُ. و حينما وصل قِيرارد إليه في الخامسةِ و النّصف و هو يحملُ زهورَ " بارما " البنفسجيّة الاصطناعيّة وجد، في استقبالِهِ، ممرِّضَةً مدرَّبَةً مرتديَةً آبرولاً أبيضاً. أثَّرت الباقةُ كثيراً في نفس اليزابيث. ’ اذْهَبْ لترى بول ‘. حثَّتهُ على ذلكَ بحرارةٍ لا شُبهةَ فيها. ’ أنا مشغولةٌ في هذه اللحظةِ – يجبُ أن أشرِفَ على حقنِ ماما ‘، قالت مُردِفَةً.

بدا بول نضِراً بنظافته و بشعره المُسَرَّح بأناقة. سأل قِيرارد عن أخبار المدرسة. لكن تلكَ قد كانت صادمةً. فدارقِيلَوس قد استدعاه النَّاظِرُ لمزيدٍ من التَّحقيق. لكنه، خلال ذلك التحقيق، اعتكر مزاجُهُ فأجاب على بعض استفسارات الناظر بطريقةٍ موغلةٍ في الوقاحةِ مما دعا الأخير إلى أن يقفز من كُرسيِّه و يُهدِّده بقبضته المشدودة. في ردِّ فعله على ذاك جذب دارقِيلَوس كيسَ فُلفُلٍ من جيبه و قذف محتوياتَهُ كلَّها في وجهِ النَّاظر.

كانت نتائجُ أفعاله تلكَ جَدَّ خاطِفَةٍ، جدَّ مُفزِعَةٍ إلى حدٍّ جعلهُ يقفزُ حالاً، و هو مُفرط الفزع، فوق أحد الكراسي فأشبه حاله ذاك حال من داهمه انفلاتٌ وحشيٌّ لفيضانٍ عاتٍ فلم يسعهُ تصرُّفاً إلاّ ما أملتْهُ عليه غريزةُ السَّلامة فيه آنذاك. من هذا الموقع المتقدِّم شهد دارقِيلوس مرأى رجلٍ عجوزٍ أعمى يُنازع ياقته تمزيقاً، يجأرُ صارخاً، يتدحرجُ على الطّاولة و يُظهِرُ كلَّ أعراضِ لوثةٍ هاذيةٍ. هذا هو المنظر الذي صافح عيون المراقب حينما، مُنْذَرَاً بأصواتِ الزَّئيرِ، هرع لإنقاذِ الموقف :- مجنونٌ هاذٍ و دارقِيلَوس جاثماً على كُرسيِّهِ، منبهتاً، تماماً كما كان عقب قذفه لكرة الثلج.

نُقِلَ الناظرُ إلى المستشفى و حُكِمَ على دارقِيلَوس، ليس بالموت، طالما أنَّ صبيان المدارس مستثنون من العقوبة العظمى، ولكن بالطّرد من المدرسة. عبر دارقِيلَوس ساحة المدرسة إلى خارجها مرفوع الرَّأس و عابساً بشراسةٍ. لم يُصافح أحداً.

إننا لا نحتاج إلى التَّمَعُّنِ طويلاً في ردودِ أفعالِ بول على هذه القصة الصادمة ... لكن، بما أنَّ قِيرارد كان شديدَ الجُّهدِ في كتمِ أيِّ نزعةٍ في نفسهِ نحو الصِّياح ( كديكٍ )، فواضحٌ أنّه قد لا يكون من اللاّئق له أن يُطلقَ مواكبَ قلقه. حاول أن يُسيطر على نفسه، لكنه ما استطاع فقال في الحال :- ’ هل تعرف عنوانه ؟ ‘
- ’لا، أيُّها الولد العجوز، إنني لا أعرفه. فالشَّبابُ أمثاله لا يفلتْ منهم أبداً ما يدُلُّ على حيثُ
يعيشون ‘.
- ’ مسكين دارقِيلَوس ! قُضِيَ الأمرُ إذاً. اذْهَبْ وائتني بالصور الفوتوغرافيّة ‘.

وجد قِيرارد صورتين فوتوغرافيّتين لدارقِيلَوس خلف التمثال النِّصفيِّ و ناولهما إيّاه. إحداهما كانت لمجموعةٍ مدرسيَّةٍ تشتملُ على كلِّ فصلهما الدِّراسيِّ و قد رُتِّبَ فيها التَّلاميذُ حسب أطوالهم. و يظهرُ بول و دارقِيلَوس فيها على يسار مشرف الفصل، قابعَيْنَ جنباً إلى جنبٍ. مضموم الذِّراعين، صلفاً و متّخذاً هيئة لاعب كرة قدم استعرضَ دارقِيلَوس ( في الصورة الفوتوغرافيّة تلك ) ساقين طالما ساهما، بتميُّزٍ، في صنعِ أُبُّهَتِهِ. أما الصورة الفوتوغرافية الأخرى فتُبديه – دارقِيلَوس – مُتزَيِّياً على طريقةِ " أثالي" – ذاكَ دورٌ قد تاق قلبه إلى أدائه، مؤخّراً، في عرضٍ مسرحيٍّ مدرسيٍّ لمسرحيّةِ " أثالي " أُقيمَ على شرفِ يوم القِدِّيس شارلمان. مُتَنَمِّراً تحت أقنعته و سُجُفِهِ المبهرجةِ كان دارقيلَوس يُشبِهُ، في تلكَ الصُّورةِ، ممثِّلَةً تراجيديَّةً عظيمةً في أواخر القرن التّاسع عشر.

قطع دخول اليزابيث الحجرة مشهداً من التّذكُّرِ التَّقِيِّ.
- ’ إلى " الداخل "، بها الآن، أعتقدُ، ألا تُوافقِيني ؟ ‘
قال بول و هو يُلَوِّح لاليزابيث بالصورة الفوتوغرافية الثانية.
- ’ ماذا ؟ أين ؟ ‘ قالت اليزابيث.
- ’ إلى داخل الخزانة ‘.
- ’ ما الذي سيذهبُ إلى الخزانة ؟ ‘

أظلمَ جبينُ اليزابيث. فالخزانةُ مقدَّسةٌ و لا يُمكنُ العبثَ بها. كانت غَيْورةً على قدسيتها و على حقوقها فيها.

- ’ إن وافقتِنِي ‘، قال بول، ’ إنّه هو الشابُّ الذي رمى كرة الثلج ‘ – هذه صورته الفوتوغرافية ‘.
- ’ دعنِي أراها ‘.

تفرّست اليزابيث في الصورة الفوتوغرافية، في صمتٍ، لمدّةٍ طويلةٍ.

- ’ إنّه قد رمى كرة الثلج ‘، مضى بول قائلاً، ’ و قذف الفلفل نحو الناظر فطًُرِدَ من المدرسة ‘.

استمرت اليزابيث تذرع المكان جيئةً و ذهابا و هي عاضَّةً على ظفرِ إبهامها و مُستغرَقَةً في تأمُّلٍ هادئٍ و حوارٍ. أخيراً فتحت الدَّرَجَ فتحةً صغيرةً، دفعت الصورةَ الفوتوغرافيَّةَ داخله، ثمَّ أعادت إغلاقَهُ.

’ هذا وجهٌ شِرِّيرٌ ‘، قالت اليزابيث، ’ احْرَصْ على أن لا تُتْعِبْ بول، يا " زراف " ( اسمُ تدليلها لقِيرارد ). يجب أن أرجع إلى ماما. ينبغي عليَّ أن أُراقبَ الممرَّضَتَين. هذا صعبٌ، كما تعلمان. إنّهما تُحاولان أن تكون لهما اليد العليا. لا أجرؤُ على تركهما وحدهما للحظةٍ ‘.

نِصفَ جادَّةٍ و نِصفَ هازئةٍ بنفسها مثَّلت اليزابيث إيماءةً دراميَّةً فمرَّرت أصابعها خلال شعرها. ثمَّ، جاريَةً، انفلتت من الحجرةِ و كأنَّها تستقِلُّ قطاراً خياليَّاً.

3

شكراً للطبيب. فحياةُ الطفلين الآن توافقت و صيغةً أقلَّ لا عاديَّةً إلى حدٍّ ما. هما، على كلٍّ، لا يكترثا إطلاقاً لأيِّ اجتماعيّاتٍ عرفيّةٍ. فكلُّ أنسٍ يستمتعان به فيما بينهما إنما هو ملكهما وحدهما و لا ينتمي ل" هذا " العالم. فقط دارقِيلوس هو الذي كان بإمكانه ترغيب بول في العودة إلى المدرسة. و " اللِّيسيه كوندورسيه "، بعد أن أُقْصِيَ عنه دارقِيلوس بعيداً، صار سجناً.

عدا ذلك كانت سطوة دارقِيلوس قد بدأت تُعاني تغيُّراً في الدرجة. فبدلاً عن الاضمحلال كانت هيئته تكبر، تستشرف مناحي " الحجرة " العليا. هاتان العينان الغائرتان. هاتان الشفتان الجدَّ خشنتين. ضفيرة الشَّعَر تلك. هاتان اليدان الخرقاوان. تلك الركبتان بكلِّ ندوبهما. كلُّ أولئكَ صاروا إلى نجومٍ مفردةٍ في مجرَّةٍ واحدةٍ عظيمةٍ، راقصاتٍ، دائراتٍ في فراغٍ نجميٍّ متشابك، متلاطم. باختصارٍ، ذهب دارقِيلوس إلى داخل الخزانة لينضمَّ إلى صورته الفوتوغرافية. الصورة و الأصل تطابقا. فقد النُّموذج وظيفته. كتجريدٍ، كصورةٍ مثاليَّةٍ لصاحبٍ وسيمٍ، صار دارقِيلوس مِلكيّةً قيِّمَةً، قديراً في المجالِ السِّحرِيِّ. و هكذا انغمس بول، إذ هو قد أُعفِيَ من حضور دارقِيلوس العيني، على هواه في المتع العذبة للمرض و الإجازة الدَّائمة.

أمّا " الحجرة " فإنَّ جهد الممرضتين قد برهن على عدم جدواه في الهيمنة عليها. و إنّما، على الضِّدِّ من ذلك، انتشرت فيها البرّيّة بسرعة. ثم نجح المريض بعد، في زمنٍ ليس طويلاً، في فرض مدينته الشخصية و مشهده على هيولاها. تلوّت شوارع تلك المدينة " البوليَّة " ( من الاسم " بول " ) داخلةً و خارجةً عبر النُّثارة، فالصناديق قد خاصرت مداخل صاحبها العريضة إليها فغدت الأوراق المتناثرة بُحيراته، و أكوامٌ مُنْتَبَذةٌ من أقمشةٍ و أغطيةٍ منزليّةٍ جباله. و قد تشبُّ اليزابيث على كلِّ هذا و تهدمه متمتمةً ’ في انتظارِ ال... غاسلة ... ‘ فيما هي مبتهجةً بالخراب الذي " خَلَقَتْهُ "، بمجالِ العاصفةِ التي هي دائماً وشيكة الهبوب و الذي هو نَفَس الحياة لهما معاً.

زارهما قِيرارد يومياً فحيّانه بوابلٍ من لغةٍ بذيئةٍ قَبِلَها وديعاً مبتسماً. فالألفة المطوّلة و تكتيكهما في الترحيب قد صيَّراه محصَّناً ضدّها :- الكلماتُ التي قُذِفَ بها آنذاكَ غدت لأُذنيهِ، في الغالب، مجرّد مداعبات. بعد ذلك الترحيب الوقح قد ينفجر بول و اليزابيث من الضّحك و يعلّقان، بازدراء، على حال شفته العليا المتصلِّبة، ثمّ يُقيمان استعراضاً كبيراً قِوامه قهقهة متآمرة و همساً.
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

[size=24][size=24][رسم 2].

لكن قِيرارد قد سبق و حاز على كلِّ العرضِ مطبوعاً على شريط. بثباتٍ، و بلا كللٍ في متابعة تقصِّياته، مضى يمشّط " الحجرة " بحثاً عن أثارِ ما قد يكون قُضِيَ تدبيرُهُ، تحت ختم شمع السِّرِّيَّة، من مقالبٍ جديدة ... هكذا حدث، في أحد الأيام، أن مرَّ على العبارات التالية و هي مطبوعةً على الصابون عند المرآة :- " الانتحارُ خطيئةٌ قاتلةٌ ".

ذاكَ تأكيدٌ مجلجلٌ طُبِعَ بثباتٍ، رغمَ أنّ الأطفال، لا شكَّ، قد افترضوا أنه لن يكون أظهر ( على الصابون ) من خربشةٍ على الماء. إنَّ الشعارَ - الذي هو، لا ريب، معادلاً رمزياً للشارب الذي زيّن التمثال النّصفيَّ – ينطوي على شهادةٍ على مِزَاجٍ غنائيٍّ نادرٍ قد لا يُشارك سرَّهُ أحد.

ثمَّ، إثرَ بعضِ رميةٍ خرقاء من قِيرارد، قد يهجره بول إلى صيدٍ أكثرَ قيمةٍ فيلتفتُ إلى شقيقته قائلاً و هو يتأوّه :- ’ أُه ... انتظرِيْ حتى تكون لديَّ حجرتي الخاصّة ‘.
- ’ انتظِرْ أنتَ حتى تكون لديَّ حجرتي الخاصّة ‘.
- ’ ستكون حجرَتِك تلكَ جميلةً في نوعها ! ‘
- ’ بل ستكون أفضل جداً، في المرأى، من حجرتِك ! أقولُ لكَ، يا زراف، إنّه سيمتلكُ شمعداناً ... ‘
- ’ إخرسي ! ‘
- ’ و عنقاء، يا زراف؛ ستكون لديه عنقاءُ من الجِّبس على رفِّ الموقد، كما و أنَّهُ سيُجري على شمعدانه – من طراز لويس السادس عشر – طبقةً من الطِّلاء ‘. انهارت اليزابيث ضحكاً.
- ’ صحيح جداً. أنا أنوي أن أملك عنقاء و شمعداناً. لن تتفهّمي ذلك، كالعادة. إنّكِ جدُّ جاهلة ‘.
- ’ حسناً أنا مُغادرة. سأستأجرُ غرفةً في الفندق. قد حزمتُ حقيبتي. سأذهبُ و أعيشُ في الفندق. هو ( بول ) يستطيع، تماماً جداً، أن يعتني بنفسه. أنا أرفض، ببساطة، الاستمرار في العيش هنا. حزمتُ حقيبتي. أنا لن أعيش مع الأخرق الكبير لحظةً أُخرى ‘.

كان العرض ينتهي، غالباً، باليزابيث و هي تمدُّ لسانها خارجاً، تُمطرُ الفوضى المُخَطّطَةَ للمدينة – النموذج ضرباتٍ، ثمَّ تذهب كعاصفة. قد يبصِقُ بول إثرَ تراجُعِها خارجةً. و قد تُوسِعُ هي، من بعدِ ذلكَ، البابَ ضرباً – هي الآن قد تُسمعُ و هي قاصِفَةً الأبواب الأُخرى قصفاً.

أحياناً كانت تعتري بول نوباتٌ قصيرةٌ من المشي أثناء النّوم. لكن وقوع ذلك، بدلاً عن إنذارِ شقيقته، كان يملؤها نشوةً. فتلك النوباتُ وحدُها هي التي كانت تُجبرُ هذا " المعتوه " المُسْرَجَةَ به نفسُها على مغادرة سريره.

في اللحظة التي كانت اليزابيث ترى فيها زوج ساقين يبرزان و يبدآن في التحرك على هيئةٍ بذاتها قد تغدو مُسمَّرةً، منتبهةً، ماسكَةً نَفَسَها لترقب ما يجري، فيما يخطو أمامها تمثالٌ حيٌّ يجولُ مناوراً المسافة بحذقٍ، ثمَّ يتسلّق سريره عائداً إليه و مستقراً فيه مرةً أخرى.

فجأةً مات أمُّهما – صدمةٌ أذهلتهما. مُعتَقِدَيْنَ أنها خالدةٌ كانا يُعاملانها باعتبارٍ قليلٍ. لكنهما، مع ذلكَ، قد أحبّاها. و لجعل الأمور أسوأ شعرا بأنهما المُلامان. ذلك لأنها ماتت دون سابق علمٍ منهما باحتضارها – كانا يتشاجران في حجرتها آنذاك، و كان ذلك ذات المساء الذي نهض فيه بول عن سريره لأول مرة.

كانت الممرضة في المطبخ. تدنّت المشادَّة إلى تبادلٍ للكمات. بخدين ملتهبين خفّت اليزابيث ناشدةً حصانةً بقرب كرسيِّ أمها فوجدت نفسها مواجهةً بامرأةٍ غير معروفةٍ تُحدِّقُ فيها بعينين و فمٍ تراجيديِّين مفتُوحِينَ على سعتِهم.

لقد فوجئت بالموتِ مؤبَّداً في هكذا هيئةٍ لا يتصوّرها إلاّ الموت وحده :- يدين مصرورتين، ذراعين متصلّبتين بطول ذراعي الكرسي. كان الطبيب قد تنبأ بأنّ النهاية قد تأتي بلا إنذار. لكن الطفلين وحدهما، مشدوهَيْن بهذا الانمساخ المفاجئ، بهذه الدمية التي أخذت مكان إنسانٍ حيٍّ، بهذه الغريبةِ المتقنّعة بقناع قدّيسٍ منحوتٍ، تفرَّسا فيها و هي مُسْوَدَّةَ الزُّرقة؛ في سكون الحجر كانا هما أمام نظرتها المتحجّرة، أمام صرختها التي قُدَّت من حجرٍ.

لم تنمحي الصورة الوسواسةُ سريعاً من لياليهما. زمنٌ من الذِّهول، من الدموع و الحداد، من انتكاسٍ لبول و من كلماتِ عزاءٍ قالها الطبيب و خال قِيرارد، قد بدأ. كان ذلك أيضاً زمنٌ من السّندِ العمليِّ لهما في حالهما استقامَ عندهما في شكلِ ممرِّضَةٍ مدرَّبة. و حين تمَّ قهرُ هذه الأزمات معاً وجد الطفلان نفسيهما وحيدَين معاً، مرّةً أُخرى.

لم تُوَرِّث الأم اليزابيث و بول تِرْكَةَ ضَنَكٍ، بل هي قد فعلت، بموتها الخرافيِّ، الكثيرَ مما يرفع رصيدها في تقدير طفليها. كان الأمر كأنّ صاعقةً قد كوَّرت لها صورةً لا علاقةَ لها إطلاقاً بالشخص الذي فقداه – هذا مع تسليمنا بأنها صورة مُروِّعة. إضافةً إلى هذا، فمخلوقان بدائيّان و غير مُفسَدَين مثلهما لن يكونا، على كلٍّ، واعيين بشؤون الفقد في معناه الاجتماعيِّ. لذا كانت ردود فعلهما عليه حيوانيَّةً، غريزيَّةً؛ و الحيوانات المُيَتَّمَة لها مدخلٌ ساخرٌ، بصورةٍ سيِّئَة الصّيت، إلى الموت.

لم تُحظ الأم التي تلاشت بحدادٍ طويل. فما أن ذهبت، بلا عودةٍ، من مكانها المألوف حتى قُبِلَ غيابُها. إلاّ أنّه، بفضلٍ من صدمتها الواحدة الغريبة الأخيرة، تمكّنت، في آخرِ المطاف، من أن تطبع صورتها على ذاكرةِ طفليها. بجانبِ هذا فإنَّ " الحجرة " قد تاقت إلى المعجزات. و موتها هذا، الذي لا مُنازعة في أنّهُ مُعجزة، جعل منها تابوتاً حجريّاً، نُصباً غوطيَّاً، مقاماً مقدّساً في " الحجرة ". لذا فهو خليقٌ برفعها، في كبرياءٍ مكانيّةٍ، إلى أبديّةِ الأحلام، إلى سماءِ الأحلام السّحريّة.

4

كانت انتكاسة بول خطيرة و طويلة، واستلمت الممرضة ماريَيْتِي – تلك الشخصيّة المكرِّسة لذاتها – إدارة المكان، و أصبح الطبيب ضابطاً صارماً و رابطاً* [ * في الأصل martinet، و ذلك، أساساً، اسمٌ لضابطٍ فرنسيٍّ متطرّف في الضبط و الربط عاش في القرن السابع عشر – المترجم ]. أضحى ( الطبيب ) مصراً على الكثير من الراحة، الكثير من التغذية، و على تجنّب بول للإثارة. جعل من نفسه مسؤولاً مالياً عن البيت، زائراً منتظماً له و مُوجِّهاً لساكنيه تعليمات صارمة كان يحرص جداً على تمام تنفيذها كلما جاء في زيارةٍ تاليةٍ لتلك التي أصدرها فيها.

في البدء اتخذت اليزابيث، حيال هذا الوضع الجديد، موقفاً شرسَ العناد و العدوانيّة. لكن، بتوالي الزمان، وجدت نفسها غير قادرة على مقاومة وجه ماريَيتِي الوردي الممتلئ، خصلاتها الفضيّة المجعّدة، و تفانيها الراسخ و إن امتُحِنَ بحدّة. إنها قد كانت فلاّحةً أُمِّيَّةً ذاتَ سويداء فؤادٍ موهوبةً لحفيدٍ في مَرَابِعِ أهلها في بِريْتَاني. و هذا الحبُّ هو الذي علّمها كيف تفكُّ شفرة أسرار الطفولة. ربّما عدَّ المواطن العامُّ المستقيمُ بول و اليزابيث شخصيّتين عبثيّتين. و ربّما عمد، بلا ريبٍ، إلى استنطاق تركيبهما الوراثيِّ المشوّش – خالةٌ ممسوسةٌ؛ والدٌ حياته خمرا – كي يُساعده على فهمهما. حقاً هما عبثيان. كذلكَ وردةٌ. و كذلك الحجج الرصينة للمواطنين المتوسِّطين المستقيمين. لكن ماريَيتِي، في ( أو ل ) بساطتها الكاملة، فهمت الذي لا يُفهم. فحالة البراءة هي حالةٌ في نفسها لها شعورُ ألفةٍ؛ ليس لديها رغبةٌ لتحليلها. تجلّت لها في " الحجرة " شفافيّةُ مدىً جدَّ صافٍ، جدَّ حيويٍّ و لا مأوىً فيه لأيِّ جُرثومةٍ لما هو سافلٍ أو رذيلٍ؛ بُعْدٌ روحيٌّ مُجاوِزٌ للفساد.

آوت ماريَيْتِي اليزابيث و بول تحت جناحها مَهْدِيَّةً إلى ذلكَ باستجابةٍ أُموميَّةٍ غريزيّةٍ لمتطلّبات العبقريّة و بحكمةٍ صافية النِّيّة مكّنتها، كأنّما بكشفِ عرافةٍ ما، من احترام العبقرية الخلاقة الفاعلة في داخل الحجرة. ذلك لأنّ ما قد كان هذان الطفلان يخلقانه هو، بلا نزاع، آيةً إبداعيّةً خاليةً من المحتوى الثَّقافي ( الذِّهني )، خاليةً – و هذا ما صيَّرها معجزةً – من أيِّ هدفٍ دنيويٍّ؛ آيةَ كينونتها الخاصّة.

لا يحتاج المرء، إلا فيما قلَّ، الإضافةَ لما سبق أنّ بول ما أضاعَ فرصةً للتلاعب بمقياس الحرارة و استغلال وضعية صحته السيئة عموماً. " سوء " معاملة اليزابيث له ما منعه من ذلك إذ أنه ما أنتجَ أيَّ ردِّ فعلٍ ما في نفسه بل، على العكس، ظلَّ هو إزاءه لا مكترثاً، صامتاً... استاءت اليزابيث من حاله و انسحبت إلى صمتٍ مُقَرِّعٍ. و حينما اسْتُنْفِذَ هذا الاستياء و هذا الصمت تخلّت عنهما و قدّمت نفسها في دورٍ مطلقَ الجِّدّة تمثَّلَ في شخصيّةِ بنتٍ سليطة اللسان تحوّلت إلى ملاكٍ رضيٍّ و مُعين. ماشيةً، في أرجاء المكان، على أطراف الأصابع، متحدثةً في صوتٍ ما علا على الهمس إلاّ قليلاً، فاتحةً و مُغلِقَةً الأبواب بلباقةٍ لا نهائيّةٍ، مُعْجِزَةً في وهبِ النّفسِ، مارَضَتْ اليزابيث بول في روحٍ رحيمةٍ كرّست ذاتها في خدمة المساكين واهني العقول.

قررت – اليزابيث – أن تصبح ممرضةَ مستشفى؛ أن تأخذ دروساً في التمريض على يد ماريَيتِي. أغلقت الأبواب على نفسها، لساعاتٍ لا تُحصى، مع تمثال الجِّبس النِّصفيِّ ذي الشَّارب، و أيضاً مع بعضِ قمصانٍ ممزقةٍ، قطناً طبياً، شاشاً و دبابيسَ مُبطَّنةً. حين تُجيء ماريَيتِي إلى الغرفة غير المضاءة قد ترى التمثال النّصفي متفرِّساً فيها، خلال الظُّلمة، من زاويةٍ لا متوقّعة – بشِعاً، زرّيَّ الهيئةِ و ملفوفاً بالعُصابات. في كلِّ مرّةٍ رأته فيها – على صورته تلك - كادت تموت فَرَقَا.

هنَّأ الطبيب اليزابيث على تحوُّلٍ بدا له، على الأقلِّ، معجزةً.

مضت اليزابيث، تدريجياً و بعنادٍ، في صونِ ذلك التحول فيها حتى تجعل منه أمراً واقعاً جديراً باعتبارها. و لأنّه لم يكن ثمة شيءٍ واعٍ في ذاتي بطلنا و بطلتنا فإنّهما ما خطر لهما تصوُّرٌ ما، و لو شاحبٌ، عن الانطباع الخارجي الذي يُولِّدانه. إنهما قد عاشا حلمهما، " حجرتهما " و هما يتخيلان أنهما يمقتان ما قد ولعا به. استمرا في " التخطيط " لأن يملُكا غرفتين منفصلتين، لكن لم يخطر لأيٍّ منهما أن ينتقل إلى الغرفة الخالية في مسكنهما. لنكن أكثرَ دقَّة. إنّ اليزابيث قد أعطت – في الحقِّ – المشروع ساعةً من اعتبارها. لكن ذكرى المرأة المُتوفّاة، و قد سمت الآن في " الحجرة " نفسها، باتت مروِّعةً جداً في حجرة النوم تلك. لا غرو إذاً أن انتهت اليزابيث – في تفكُّرِ السّاعةِ ذاك – إلى تحديث نفسها بأنها ما كان لها أن تتخلّى عن المريض فبقيت معه.

فوق كلِّ شيءٍ آخرٍ، تنامت الآن آلام بول. قابعاً في ’ مأوى الخفير ‘، الذي بناه من الوسائد، كان يشكو من أوجاعٍ حادّةٍ في بطنه. قد لا تهتمُّ اليزابيث بذلك؛ تنصرفُ بعيداً، خِفيةً، و إصبعٌ على شفتها، في مشيةِ و وقعِ خطوِ شابٍّ زاحفٍ إلى منزله، كسارقٍ، في الهزيعِ الأخيرِ من الليل بينما يحمل حذاءيه في يده. أما بول فقد يُغضِي عن ذلك و يُواصل " اللُّعبة ".

في أبريل نهض بول عن فراشه. ما عاد قادراً على الوقوف. تداعت رجلاه ’ الوليدتان ‘ تحته. غدا الآن أطولَ من اليزابيث بنصفِ رأسٍ، مما ساءها لأقصى حدٍّ فعاقبته بتبنّي هيئةِ قِدِّيسةٍ و هرعت لسنده، لإنزاله على بطن كرسيّه، فيما هي تُغطِّيه باللُّفافات – باختصارٍ، ردّتهُ إلى مرتبةِ عجوزٍ مُخَرِّفٍ مصابٍ بالنُّقرس.

و رغم أن بول قد قُلْقِلَ بـ’ رميتِها ‘ الجديدة هذه إلا أنه سيطر على نزقٍ جامحٍ فيه لأن يردَّ عليها مقاتلاً فما أعارها اهتماماً. فهو، قياساً إليها في النِّزال الدائم بينهما منذُ ميلاده، قد اكتسب فطنةً تاكتيكيّة. ذلك فضلاً عن أنه كان كسولاً لحدٍّ لم يدع له خياراً سوى أن يكون سلبياً. غلت دخيلةُ اليزابيث ... مرةً أخرى عاد القتال و استقام التوازن، فنصابيهما قد تعادلا.

بدأت اليزابيث، على درجاتٍ ملتبسٍ إدراكها، تتخذ في قلب قِيرارد ذاتَ المكان الذي اتخذه بول يوماً. صار انتفاء بقائه معها شيئاً، بالكاد، غير مطاق. إذا تحدثنا بدقة في هذا الشأن فقد نقول إن الأمر قد كان، بدءاً، البيت في الريومونمارتر، "الجمعيّة" المسماة "بول واليزابيث"، فهذه "الجمعيّة" هي ما ولع به هو ( قِيرارد ) في بول. لكن، الآن وحتماً، تأرجحت بؤرة الضوء بعيداً عن بول لتضيء هيئةً تخلع عنها الطفولة وتنزلق في داخل فتوّتها اليافعة تاركةً زمانَ هزء الصبايا لزمان توق الصّبايا.

و بما أنه معزول عن غرفة المريض بأوامر الطبيب فإنه كدّ ذهنه في سبيل وسائل أخرى لبلوغها. أخيراً تمكّن من إقناع خاله بأن يأخذ " لِزِي " و العليل في رحلةٍ على شاطئ البحر. هذا الخال قد كان عازباً أنيساً و ثرياً مُثقلاً بالاجتماعات التنفيذية و مسؤوليات العمل. و قد تبنّى قِيرارد – الذي هو ابن أختٍ له أرملةً تُوُفِّيت أثناء ولادتها لقِيرارد – وضمن مستقبله بمخصّصٍ كريمٍ من وصيّته. راقت له فكرة الإجازة؛ إنه بحاجةٍ لقليلٍ من الراحة.

على خلاف الاستقبال المِنْجَلِيِّ الباتر الذي توقّعه وجد قِيرارد نفسه محلَّ ترحيبِ " قدِّيسةٍ و ساذج " و أمطِرَ بالتّشكُّرات والمباركات. ما الذي هما متواطئان عليه؟ هل كانا يدبران لشنِّ هجومٍ جديد؟ أثناء تدبره لهذه الشِّؤون تَقَاطَعَ مع تبادلٍ لإشارتين – واحدةٌ تمثّلت في وميضٍ خلال رمشٍ قدّيسٍ خفيضٍ، و أخرى تمثّلت في ارتجافةٍ للمنخر أتت من " السَّاذج " – فتحقّق من أنّ " اللُّعبة " قد كانت قائمةً. هذه التّبدّياتُ ما كانت مستهدفةً له فهو قد أمسكَ، اتّفاقاً، بطرفٍ من عرضٍ كان في تمام قيامه ليس إلاّ. دورةٌ أخرى من ذاك – فيما يبدو – قد ابتدأت. فقط عليه أن يُوائم نفسه مع إيقاعٍ غير مألوفٍ و أن يشكر نجومَ حظِّه على منحها له علائم فألٍ مواتيةٍ لرحلتهم. فهذان الضيفان الكيِّسان حسنا التنشئة لن يستطيعا، إلا بصعوبةٍ، أن يفشلا في إرضاء مُضيفهما المرتقب. لم يفشلا في ذلك. فخال قِيرارد قد فوجئ تماماً بالخِلاقِ الجميلةِ لصَدِيْقَي قِيرارد السيئي السمعة هذين.

آلت اليزابيث على نفسها إبهاجه. ’ كما تعلم ‘، قالت و هي تبتسم ببلاهة، ’ إنَّ أخي الصغير كثير الخجل ... ‘ ... سمعت أذن قِيرارد المنتبهة كلمة ’ وَغْدَة ! ‘ مُغَمْغَمَةً من أخيها الصغير. لكن لا شيء آخر أفلت من شفتيه.

في القطار كان عليهم أن يُمارسوا مساعٍ بطولية ليصونوا شكلاً من التّماسك. و لأنّهم، بما هم عليه، غير راقين كلياً فإنّ " مركبة قطار مضاءة " مثلت لهم قمة التّنعُّم. لكن تنشئتهم الطبيعية الحسنة الممزوجة بحسٍّ " أُسلوبيٍّ " مكنتهم من أن يبدو – مع ذلك – على راحتهم تماماً.

قُضِيَ على النائم أن يستحضر " الحجرة ". ذاتُ الفكرة ومضت في عقليهما معاً :- ’ سوف تكون لنا حجرتين وسريرين في الفندق ‘.

رقد بول بلا حراك. تتبعت اليزابيث، بين جفنيه المخفوضين، تخطيط وجهه الجانبي المشع، بشحوبٍ، تحت ’ ضوء الليل ‘ الأزرق. على مدى مراقباتٍ عميقةٍ و خفيّةٍ عديدةٍ صارت عارفةً بتوانٍ وبائيٍّ فيه و بحقيقةِ أنّه، منذ اعتزاله العلاجيّ الأخير، كان مستسلماً، تدريجياً، له. أزعجها ذقنه المائل للغوران، فذقنها هي بارزٌ. مالت إلى أن تقولَ له، بعاديّةٍ :- ’ بول، انتبه لذقنك ‘. ذلك بطريقةٍ أموميّةٍ على نحو :- ’ قف مستقيماً ‘ أو ’ ارفع مرفقيك عن الطاولة ! ‘ رده حينذاك، كما تصورته، سوف يكون بعض بذاءةٍ قارعةٍ. لكنها، على كلٍّ، ما احتاجت لذلك إذ ضبطته، أكثر من مرةٍ، و هو يُعالجُ زاوية فكّه أمام المرآة.

في العام السابق عاشت اليزابيث مرحلةً كانت تضع خلالها علاّقَة ثيابها على أنفها أثناء النوم ظانّةً أنّ ذلك سيُكسب وجهها ملمحاً جانبياً يونانياً. أما بول فإنه – خلال ذات المرحلة و لذات الهدف – قد درج على النوم و هو نصف مخنوق بعُصابةٍ لدنة. لكنه، حينما صدته عن ذلك العلامة العلامة الحمراء التي خلّفتها، كفَّ عن ’ الاستشهاد الذاتي ‘ هذا وقنع عن ملمح الوجه الجانبي بملمح وجهٍ كاملٍ أو ثلاثة أرباع وجه.

ما كانا معنيين بأيِّ انطباعٍ قد يكوناه لدى الآخرين. فتجاريبهما ما كان لها مقصدٌ سوى رضائهما الخاص.

مُبْعَدَاً عن تأثير دارقِيلوس، منفِيَّاً في نطاقه الخاصِّ بفعل انسحاب اليزابيث إلى الصمت، محروماً من حافز منازعاته معها اتّبع بول طبعَهُ الخاص. الرخاوة دخلتهُ فغدا به ميلٌ نحو الخمول. بدأ يصيرُ مائعاً. كان تخمين اليزابيث صحيحاً. ما فاتها شيءٌ. انقضَّت على كلِّ فرائسِ الأعراض. و لأنها تمقت كلَّ ما هو ينزُّ بنكهة الموقد العائلي، و لأنها قُدَّت من نارٍ و ثلجٍ فإنها ما كان بمستطاعها استساغة وجبة فاترة. و كما حدث مع الرسالة المبعوثة إلى ملاكِ " لاودِيْسْيَا " فإنها ما فعلت شيئاً لتلك الوجبة سوى أن " استفرغتها مباشرةً من فمها ". عريقةُ المحتد هي. لذا يتعيّن على بول كذلك أن يكون عريق المحتد.

اندفع القطار في مساره، فيما حمولته الإنسانية نائمةٌ أسفلَ خيمةِ أبخرةِ طائرةٍ تشُقُّها، بين الفينة و الأخرى، صرخاتٌ ثاقبةٌ. لكن، في هذه الرحلة الأولى الحقيقية لها، صمّاءَ عن طَرْقَعَةِ العجلاتِ الدَّائرةِ طَقْ طَرَقْ طَقْ طَرَقْ .. طَقْ ..... صفيرُ الماكينة المخبول، عمياءَ عن عُرفِ الدُّخان الوحشيِّ اليفيضُ حولهم جلست اليزابيث، هذه الفتاة، مُنْكَبَّةً على أخيها، مُتَفَحِّصَةً وجهَهُ بعيونٍ شَرِهَةٍ.

5
كانت هنالك خيبة أملٍ تنتظر الشباب. فقد وصلوا إلى مقصدهم ليجدوا الفنادق كلها محشوَّةً لأقصى سعتها بالناس. بخلاف الحجرة التي حُجِزت لخال قِيرارد ما بقيت هناك سوى حجرة واحدةٍ تقع في الطرف الأقصى للممر. أُقتُرِحَ على الصبيين أن يتقاسماها على أن تُوهب اليزابيث سرير أليافٍ ( سرير معسكر ) تنصبه في الحمام المتصل بها. ما حدث، في الواقع، هو أنّ اليزابيث و بول استحوذا على حجرة النوم الواحدة تاركين الحمام لقِيرارد.

حين حلّ الليل تدهور الوضع. ابتغت اليزابيث حماماً، وكذلك بول. عبسا، اغتاظا، انقلب أحدهما على الآخر، طوّحا بالبابين فتحاً، عادا و صفقاهما بعشوائية، ثم انتهيا أخيراً إلى طرفين متعاكسين من حمامٍ واحدٍ يغلي و بول مُستَغْرَقَاً في نوبات ضحك. أثار مرأى أعضاء بول طافيةً، في البخار، كأعشابِ بحرٍ، حفيظة اليزابيث. عقِبَ ذلك تبادلٌ للكمات. في اليوم التالي، على المائدة، كانا لا يزالان متلاكمين. ما فوق غطاء المائدة رأى مضيفهما وجهين باسمين. حربٌ صامتةٌ كانت جاريةً تحتها.

هذا الصراع المتصاعد ليس هو الوسيلة الوحيدة التي، دون وعيٍ منهما، أفلحت في جذب الانتباه نحوهما. كانت الرُّقيةُ تفعل فعلها فقد غدت مائدتهم صائرةً، بسرعةٍ، نقطةً مركزيّةً لفضولٍ منشرح. كانت روح " الجّمعيّة "، بالنسبة إلى اليزابيث، موضع لعنةٍ شديدةٍ. هي كانت إما هازئةً ب " الآخرين " أو واقعةً بجنونٍ في حبِّ شخصٍ غريبٍ تماماً. حتى الآن ما تعدت موضوعات عاطفتها مُنتَقَيَاتَ رُتَبٍ من أوثان الحفلات النهارية هؤلاء اللذين زيّنت أقنعتهم جدران حجرتها ( و بول ).. الفندق لم يمنحها مجالاً. فالحفلات العائلية كانت جميعاً سواءَ لديها في قبحها، شراهة مرتاديها و قذارتها. و جمهور أولئك الحفلات - في تصورها – يشتمل على فتياتٍ صغيراتٍ نحيلاتٍ ( كأنّهُنَّ جلداً على عظمٍ فقط ) لا تخترقهُنَّ ضرباتُ والديهُنَّ فيما هنَّ يلفُفْنَ رقابهُنَّ ليتفرّجْنَ على المائدة المدهشة، على معركةِ الأعضاء في الأسفل و الطّلعات المسالمة في الأعلى.

لاليزابيث ليس الجمال شيئاً سوى ذريعة لاقتناء الدِّهانات، علاّقات الثِّياب، و لتنكُّراتٍ خفيّةٍ في مُتَنَوِّعاتٍ خيالَ – مآتيّة [ من " خيال المآتة " – المترجم ] من قِطَعٍ و رُقَعٍ. خلافاً لأن يُديرَ نجاحها الحاضر رأسها أو يُخَفِّفُهُ فإنّهُ، ما عدا، في نظرها، كونه مجرّد لُعبةٍ من نوعٍ جديدٍ أو تحوُّلٍ عن قواعد " اللُّعبة " العريقة الصارمة؛ إنّها عاملةٌ ذاتُ ياقةٍ بيضاء في رحلةٍ لصيدِ السّمك. إنها و بول في عطلةٍ عن " الحجرة "، عن ما سمَّياه ’ مُستعمرة الجُّناة‘... كذلك صارت تبدو "الحجرة" لخيالهما:- زنزانةً هما مُدانَين فيها مدى الحياة حيثُ يجُرَّان سلسلةً ثقيلةً بينهما. لم يتراءى لذلك الخيال، حينئذ، ما في السجن من فتنةٍ. هما ما قدَّرَا ما فيه من مدىً شعريٍّ (الشيءُّ الذي هو أعزّ لماريَيْتِي منه لهما). لذا بقيت "اللُّعبة" هي المبعث الوحيد فيه– فيها ( السّجن – الحجرة ) – لسلواهما و انطلاقهما.

هذه " اللُّعبة " الجديدة بدأت في حجرة المعيشة. و قد انهمك اليزابيث و بول فيها بمستوىً هال قِيرارد. فهما كانا يمارسانها تحت أنف خاله مباشرةً. لكن الرجل الطيّب ما رأى شيئاً سوى ملامح ملاكين توأمين.

محورُ لُعبتهما كان إخافةَ الفتيات الصغيرات النحيلات عبر إضفاء تشنُّجات مفاجئة على وجهيهما. كانا ينتظران، بصبرٍ، لحظةً مواتيةً، لحظةَ تراخٍ عامٍّ في الانتباه. تلكَ لحظةٌ كانا قد يُغافلا فيها، من بين أُخرياتٍ مثلها، طفلةً صغيرةً ضئيلةً ( تكاد تخبو ) مُزَحْزَحَةً عن كرسيِّها و فاغرةً فاها باتجاه مائدتهم ليَشُدَّاها، أوّلاً، بابتسامةٍ، ثمّ بِصَرٍّ مُنْكَرٍ للوجه. حينذاك قد تلتفتُ هي بعيداً مُنْذَرَةً. و كانا قد يُعِيْدَا مشهدَ هذا التعامل معها حتى تستغرق في الدموع و تشكو لأمها، و هي فاقدةً لأعصابها تماماً، فتنظر الأم باتجاه مائدتها فلا ترى إلاّ اليزابيث و هي مشرقةً بابتسامةٍ تُبادِلُها هي إياها، في استجابةٍ تلقائيّةٍ، ثمّ لا تُجني الضَّحيّةُ، بعد، من أمها سوى لطمٍ و تقريعٍ يُودي بها، في النهاية، إلى الصمت فحسب. كان المتآمران يُسجِّلان هذه النقطة – التي هي في صالحهما – في وكزتين بالمرفقين مُتبادلتَين بينهما فيستفزُّ هذا الوكز نوباتِ قهقهاتٍ مكتومةٍ يُشاركُ فيها قِيرارد ثمَّ تنفجرُ، أخيراً، في حجرةِ النّومِ.




[رسم 3].



في أحد الأمسيات، و فيما هما يتهيآن لمغادرة المائدة، شنّت طفلةٌ متلاشيةُ الحجمِ، كانت ’ تمضُغُ ‘ طريقها بوثوقٍ مكينٍ عبر دستةِ وجوهٍ مُنْكَرَةٍ، هجوماً مضاداً عليهما حين مدت لسانها، خفيةً، لهما. احتفيا بها طبعاً. فهي قد أعطت " اللُّعبة " بعداً جديداً. ثمّ شرعا يتمثّلا مغانمهما بهوسٍ، كأيٍّ مدمنٍ للرّميِ و الصّيد. مدحا الطفلة، ناقشا لعب اليوم، ثمّ قررا تشديد قواعده. بهذا طبع مبارزاتهما اللفظية مشهدُ حياةٍ مستمرِّةٍ، طازجةٍ و مُفعمةٍ أكثر بالضّراوة و التّوحُّش. تضرّع إليهما قِيرارد أن يُبطِآ وقع ما هما فيه؛ أن يكفّا عن ترك حنفيّات المياه مفتوحةً، عن محاولة التّنُفُّس تحت الماء، عن مطاردةِ بعضهما و التّلويح بالكراسي لبعضهما، ثم إطلاق صيحاتِ استغاثة.

تمازج الضحك و اللكمات، عند اليزابيث و بول، بصورةٍ لا فاصمَ لها. فالمتفرِّج عليهما، كيفما قد يكون شأوه في التّكَيُّف مع " شَقْلَبَاتِها " العاطفيّة، ما كان سيستطيع – كأيِّ شخصٍ آخرٍ – التّنبؤ باللحظة التي قد يتوقف فيها هذان الجُّزآن المفترقان عن كينونةٍ مفردةٍ عن الشِّقاق و يصيرا كائناً واحداً مرّةً أخرى – تلك ظاهرةٌ كان قِيرارد يرغبها و يفزعُ منها أيضاً. يرغبُها من أجلِ خاله و الجيران. و يفزعُ منها لأنها تعني قيام جبهة جامعة لاليزابيث و بول ضدّه.

حالياً اتسع مجال " اللُّعبة " فغزا غرفة جلوس الفندق، الشارع، الشاطئ و رصيف البحر. جرت اليزابيث قِيرارد إلى معمعان شغبهما الصاخب. و رابضةً، متسلِّقَةً كلَّ ما يُتَسَلّق، ذاهبةً و آيبَةً ركضاً، مُكَشِّرَةً، حَانِفَةً لوجهها بقبحٍ، تقدّمت العصابة في كلِّ الاتجاهات. انتشر الروع. أطفالٌ مُعَوَّجُو الرّقاب، فاغرو الأفواه، بارزوا العيون جرجرهم قُدُماً، لُطِمُوا، ضُرِبُوا على عجائزهم و مُنِعُوا من النُّزهات. فقط حين بلغت البليّة قمتها زالت. اكتشفت العصابة انشغالاً أكثرَ تسليةً :- السَّرِقَة.

خلفهما جرجر قِيرارد الذّيول و قد صار، آنذاك، عصبياً بمستوىً صَعُبَ عليه معه حتى صياغة مخاوفه السِّرِّيّة لنفسه. ما كانت السرقة عندهما من أجلِ مغنمٍ ما. ما كانت تلهُّفاً على امتلاكِ فاكهةٍ مُحرَّمَةٍ. إنها كانت، ببساطةٍ، سرقة من أجل السرقة فقط – كان ما يغويهما في تلك السرقة ما تنطوي عليها ممارستها من خطرٍ مميت.

صحبا خال قِيرارد في رحلاتِ تسوُّقِهِ و عادا بجيوبهما محشوَّةً لآخرها بأشياءٍ تافهةٍ لا فائدةَ فيها. ذلكَ لأنّ ما سنّاه لأنفسهما من لوائحٍ بهذا الخصوص حرم سرقة الأشياء المفيدة. ذاتَ يومٍ حاولا جعل قِيرارد يُعيدُ كتاباً سرقه لأنه كان مكتوباً بالفرنسية. و انتهت المحاولة بكسبه النّسبيِّ للقضيّة حين قبل أن يسرق شيئاً سرقته صعبة لأقصى حد و إلاّ فهو مُلاقٍ عقاباً مؤجّلاً مشترطاً بهذا فقط و ليس خلافه – ’ شيئاً كإبريقِ سقي النباتات مثلاً ‘، كما ذكرت اليزابيث.

لهذا الغرض البساهُ بُرْنُسَاً ضخماً. أنجز الشّابُّ السّيئ الحظ مهمته إذاً. فهو، بِخَرَقِهِ و بالبروز الملفت لإبريق سقي النباتات على جسده، قد خلق انطباعاً عميقاً لدى بائع الأواني المنزلية الذي وقف محدِّقاً في اتجاه الثُّلاثي المتراجع و هو في انشداهةِ ارتيابٍ محبوسٍ و عدم تصديق. ’ إِسْرِعْ ! إِسرِعْ ! أيها الأبله ‘، همست اليزابيث، ’ إنهم يراقبوننا ‘. حينما التقوا حول المنحنى و صاروا بمنأى عن الخطر تنفسوا مرةً أخرى و أطلقوا سيقانهم للريح.

في ليلةِ ذاك اليوم ظهر سرطانٌ في أحلام قِيرارد. كانت أياديه تُمسكُ به من الكتف. تهيّأ له أنّ ذلك السّرطان هو الحدَّادُ عينه. ثم تمثله و هو يتصل بالشرطة. ثمّ هجس :- إنهم قد جاءوا لاعتقالي .. إنني قد يُحالُ بيني و ميراثي في وصية خالي ... إنني .... إلى آخره مما قد ’ يركبُ ‘ مخيلة الهاجسين.

توالت المنهوبات – و هي أشياءٌ كحلقات الستائر، المَفَكَّات، المفاتيح الكهربائية، ملصقات مُصَنِّفَة للبضائع، أحذية جُمباز فائقة للأحجام الطبيعية – في التّكوّم عند الفندق حيث صارت إلى نوعٍ ما من " تقليدِ كنزٍ "، كما هو شأن تلك الجواهر المغشوشة اللاتي ترتديها النساء في الإجازات، تاركات جواهرهُنَّ الأصليّة في منازلهُنَّ.

بقدر ما اعتبرته اليزابيث، فإنّ هذا السلوك الذي لا يفترق، في لا مسئوليته، في شيءٍ عن سلوك أطفالٍ غير منشئين أو مشذّبين؛ هذا السلوك الوقح لحدِّ الجريمة؛ هذه اللاّ استطاعة على تمييز الخير عن الشر؛ هذا التمثُّل بالقرصان قد تجذَّع كلُّه عن غريزتها المريدة إنقاذ بول من الرخاوة التي كانت تهولها فيه. فطالما هي قد كان بإمكانها أن تُبقيه لاهثاً، عَجِلاً، متصلّباً خوفاً، عابساً وجهه، لاعناً، طالعاً دامعاً و نازلاً دامعاً، فإنه لن يستطيع ترك نفسه يُرَدُّ إلى أسفلٍ أو إلى عنصرِ المادة الهامدة. سترى إلى أين قادها الدسُ قبلَ أن تنتهي عن بول و عن تربيته.

عادا إلى المنزل. وجدتهما ماريَيْتِي متغيّرين إلى مدىً صعُبَ عليها فيه – تقريباً – التعرّف عليهما. فما استنشقاهُ من أوزون قد عافاهما بدرجةٍ ممتازةٍ ... ما كانت ’ الطَّرحة ‘ التي جلباها لها كهديَّةٍ شيئاً مسروقاً.

6

حينذاكَ فقط وُضعت " الحجرةُ "، كسفينةٍ عظيمةٍ، في عرضِ البحرِ. مع علوِّ الأمواج، مع اتِّساع الآفاق كانت الحمولة تُضحي أكثرَ عِزَّةً و أكثرَ عُرضةً للتَّهلُكة.

في عالم طفولتها الغريب، في عالم الفعل– في– اللاّ فعل هذا، و الذي هو أشبه بحلمِ يقظةِ ’ آكلِي ‘ أفيون، يستوي البقاء هادئاً و رصيناً، في خطره، مع التحرّك و التّقدّم بسرعةٍ داقَّةٍ للعنق.

بقي قِيرارد معهما في كلِّ الأوقات التي ذهب فيها خاله بعيداً في رحلات عمل. و كانا، آن مقدمه إليهما، يَلُزَّانَهُ أسفلاً حتى يقع فوقَ كومٍ من الوسائدِ، ثمَّ يُغطِّيانه بمعاطفٍ قديمةٍ. إزاءه كان يعلو، كبرجٍ، مسرح سريريهما. في كلِّ ليلةٍ كان نظام الإضاءة هو الذي يُطلقُ ’ المسرحيّة ‘ في حركتها الدّائبة. تصادفَ للمصباح الكهربائيِّ أن يكون معلَّقاً فوق سرير بول. كان بول يُغطِّيه، كلَّ ليلةٍ، بقطعةِ نسيجِ راياتٍ صوفيٍّ فتغطس " الحجرة " في ظلٍّ مُحْمَرٍّ. و كلُّ ليلةٍ، كذلك، كانت اليزابيث تعترض على هذا الإظلام الجُّزئي و تقفزُ خارجَ سريرها مُستشِيطةً غضباً و تُزيلُ النّسيجَ عن المصباح. لكن بول كان يعيد وضعه هناك. حينذاكَ – طبعاً – كانت تنشبُ بينهما حربُ شدٍّ و جذبٍ تنتهي، عادةً، ببول ظافراً و اليزابيث منسحقةً و بنسيج الرّايات الصّوفي مرةً أخرى معلّقاً حول المصباح. فمنذ عودتهما من الرحلة البحرية بات بول دائماً صاحب اليد العليا. يبدو أنّ ما خشِيَتْهُ اليزابيث عندما رأته ينهض، لأوّل مرة، عن سرير مرضه و هو أطول بنصفِ رأسٍ منها قد آن وقتُ وقوعه :- ما عاد بول قانعاً بأداء دور الواهن. كما و يبدو أيضاً أنَّ جهودها الأخيرة للارتقاء بمستوى رفاهه المعنوي قد أضحت تُعطي ثماراً فوقَ حساباتها. بعد استبانة اليزابيث لذلك راحت تسخر منه، بلا جدوى، قائلةً :- ’ هل هذا ليس
" لذيذاً " ؟ هل تذكر يا زراف – " كلُّ شيءٍ " الآن لذيذ. الأفلام " لذيذة ". الكتبُ " لذيذة ". كم هو " لذيذٌ " هذا الكرسي ؟ شرابُ الزنجبيل الفوّار و منقوعات ثمر العُلَّيق هي، ببساطة، " لذيذة ". أقول، يا زراف، هل هو ليس مقززاً ؟ أُنظُرْ إليه ! أُنْظُرْ ! مزهوّاً بنفسه كطاؤوس ‘.

تلك السخرية الساذجة باتت غير مجدية معه. ف" رضيعها " الذي كان ما عاد طفلاً. إنه قد تخطاها في السباق بمسافةٍ كادت أن تكون حاسمةَ الطول. " الحجرةُ " نفسها ـأفصحت عن ذلك، فهي باديةٌ الآن و كأنْ قد انبنت على مستويين مختلفين. بول الآن – حسب ذاكَ البُدُوّ – في الطابق الأعلى، بكلِّ ممتلكاته السحرية هيِّنة المتناول، بينما هي مُسَلَّمَةً للطابق تحت– الأرضي و مُلْزَمَةً بأن تغوص، أو تدبُّ بخزيٍ في أنحائه، إن شاءت أن تلقى ممتلكاتها السحريّة.

لكن اليزابيث قد وَقَعَتْ على طرقٍ جديدةٍ للتعامل معه بتوازن. شرعت، بُعَيْدَ إلقائها على الأرض لأسلحة الفتاة المُسترجلة، في استغلال مواردها الأنثويّة البِكر يُمالئها في ذلك قِيرارد. شعرت أنها قادرةٌ على تعذيب بول بفعالية أكثر حين يكون هناك مشاهدون. و بما أن قِيرارد هو أنسب شخص في متناول اليد لهذا الغرض فإنها كانت ترحب به عندما يأتيهما و تستفيد منه، بأقصى ما يُمكن، في هذا الشَّأن.

ارتفع الستار في الحادية عشر ليلاً. ما كانت هنالك حفلات نهارية سوى في يوم الأحد.

في السابعة عشر ماثل مرأى اليزابيث عمرها لا أكثر و لا أقل. من الناحية الأخرى بدا بول أكبر بأربع سنين من سنينه الخمسة عشر. هو الآن قد بدأ يُشاهد كثيراً و هو غاشٍ، في أرجاء المدينة، لدور سينما " لذيذة " و قاعات موسيقى و مُصطحِباً لفتياتٍ " لذيذاتٍ ". بات إغواءُ داعرةٍ حقيقيةٍ له هو أكثر شيء لذيذ في هذه الدنيا.

كان، حينما يعود من غَشَوَاتِهِ، يُعدّد مغانمه. كان يصفها بحبورٍ خلِّيٍّ، تقريباً، من أيِّ حسٍّ أخلاقيٍّ ( أو اجتماعيٍّ) :- حبورٌ بدائيٌّ؛ ثمَّ، كذلكَ، في صراحةِ قولٍ ليس فيه شَيَّةٌ من مُفارقَةٍ، سخريةٍ أو رذيلةٍ، مما جعلها و كأنّها البراءةُ ذاتُها.

قد تُغايِظُهُ اليزابيث آنذاك فتُسائله كرّةً فكرَّةً أخرى غيرَ وانيةً. ثم، فجأةً، بلا سابق إنذار، تستثني تفصيلاً صغيراً غير مؤذٍ نسبياً ثم، من آنذاك فصاعداً، تجذب رأسها و ذقنها إلى الوراء، تخمشُ ورقةً و تتقهقر خلفها في استعراضٍ عظيمٍ لتركيزٍ جليدِيٍّ.

كان قِيرلرد و بول مُعتادَين على اللقاء، قُبَيل مجيئهما معاً إلى البيت، بين الحادية عشرةِ من الليل و منتصفه في أحد مقاهي مونتمارتر الكبرى. أثناء ذلك كانت اليزابيث تذرع الممر جيئةً و ذهابا، في توفُّزٍ نافذ الصبر. و عند سماعها صوت الرنين ناحية الباب الأمامي كانت تنبذ موقعها ذاك و تهرع راجعةً إلى " الحجرة " كي يُكشَفَ عنها جالسةً و على رأسها شبكة شعر، مادَّةً لسانها قليلاً إلى الخارج و هي تصقل أظافرها.

طوّح بول ملابسه بعيداً عن جسده وعنه. ارتدى قِيرارد قفطانه الليلي ثم أُعينَ على الذهاب إلى السرير. طَرَقَت عبقريّةُ " الحجرة " المجال ثلاثاً. بدأ اللعب. لكن ينبغي أن يُتَذَكَّرَ أنه ما بات أيٌّ من الغرماء – ليس حتى ذلك الذي لعب دور المراقب الوحيد – معنياً، بوعيٍ، باعتمادِ " وهمِ التَّصديقِ " أساساً للهوه. ففي ذات لا إدراكيّة اللاعبين العتيقة غدا اللعب خرافةَ شبابٍ خالدٍ. و بدون معرفتهم بذلك تراقص اللعب – " الحجرة " على حافّةِ الأُسطورة.

عكست شريحة نسيج الرايات الصوفي وهجاً مُحمَرَّاً على التشكيلة. عارياً، تجوّل بول صعوداً و نزولاً مُسَوِّياً فراشه، مُطرِياً للملاءات، مُسْمِنَاً " بيوت " المخدّات و مُرتِّباً " معدّات شغله النموذجيّة " بجانبه على كرسيٍّ. متَّكئةً على مرفقها الأيسر، لابسةً القناع الصارم لإمبراطورةٍ بيزنطية رقدت اليزابيث محدقةً في أخيها. هرشت رأسها بيدها اليمنى. و حينما أسفر ذلك عن سحج المناطق اللاتي هرشتهُنَّ على رأسها مسحتهُنَّ بمرهمٍ أخلته من جرّةٍ حُفِظَت لهذا الغرض، عند المخدّة ... ’ بلهاء ‘، أعلن بول. ثمّ أضاف قائلاً :- ’ إن كان هناك ثمة منظرٍ مُغثٍ فذاك هو منظر هذه البلهاء و جرّة دُهنها. إنها تعتقد أنه مفيدٌ لقشرة الرّأس. قد أتت بتلك النصيحة الناجعة من أحد مجلات أفلام هَوْلِيْوُوْدْ، يا قِيرارد ! ‘

- ’ ماذا ؟‘
- ’ هل أنتَ مُصغٍ ؟ ‘
- ’ نعم ‘.
- ’ قِيرارد، من يراكَ يرى شخصاً مفرط الصّبر. اذهَبْ لتنام و لا تدع بول يُكَدِّرَكْ ‘. قالت اليزابيث.

تلا ذلك صمتٌ. عضَّ بول شفته. وَمَضَتْ عيونه ناراً. متّسعةً، نديّةً، جليلةً شملته تحديقتُها إلى أن ذهب، أخيراً، إلى سريره، عدّل وضعه فوقه، جرّبَ هيئتي رقادٍ، أو ثلاث، على المخدّات – ما كان نادراً أن يرفض ترتيبَ رقاده كلّه و يبدأه ثانيةً من الحضيضِ إلى أن يبلغ فيه هيئةً يودّها تماماً. لكنه حين يحقق تلك الوضعية المثالية لا قوةٌ ما كانت تستطيع زحزحته عنها. فالأمر معه قد تعدّى كونه تمهيداً للنوم و بات ليس أقلَّ من ’ تحنيطٍ‘. فهو، بعُصاباتِهِ الجّنائزيّة، بطعامه و شرابه و خُرْدُوَاتِهِ المقدّسة قد مضى حثيثاً في رحلته إلى الظلال.

ليلةً إثرَ ليلةٍ انتظرت اليزابيث لحظة الرحيل العظمى هذه. و خلال أربع سنينٍ طوالٍ ما تغيّر ’ موقف‘ انتظارها لها. الشَّيءُ الذي يعزُّ على التصديق في هذا الشَّأن كله هو أنّ جوهر اللعب، باستثناء تنويعات طفيفة قليلة جداً فيه، قد بقي على ما هو عليه خلال سنّيهِ جميعها. قد يكون الشاهد أنّ كائنات عُنصُرِيَّة ( من ’عُنْصُر‘ ) كهذه تتَّبِع قانوناً طبيعياً يُبَاطِنُهُ و يُوجِبُهُ سرٌّ [ سرٌّ كينونيٌّ – المترجم ] ما. ذلك تماماً كالقانون الذي يحملَ الزِّهور على أن تُغلقَ بِتِلاَّتِها على ذاتها في الليل.

كانت اليزابيث هي من أدخل التنويعات تلك على اللعب. فهي قد خططت لكلِّ مفاجأةٍ تخللته. في إحدى الليالي ألغت طقس التمسُّح بالمرهم و غطست تحت السرير فأوردت طاس سَلَطَةٍ من الزجاج المقطوع ملآنةً بسمكاتِ سلطعونٍ. حاضنةً لها على صدرها بذراعين كلتيهما عاريتين و جميلتين تفحّصت محتويات الطاس، ثم أخيها، بعينين شرستَي التَّفَرُّس.

’ هل أُعطِيْكَ سمك سلطعون يا قِيرارد ؟ يجب أن تأخذه، فهو كامل التَّتبيل ‘، قالت اليزابيث. كانت تعلم غرام بول بسندويتشات سمك السلطعون المبهّرة. ما جرأ قِيرارد على الرفض فنزل عن السرير.

’ البقرة ! ‘، غمغم بول، ’ إنها تمقت سمك السلطعون. إنها تمقت أيَّ شيءٍ مُفَلْفَلٍ. ما شَهِدْتَ هو كل ما تستطيع فعله كي تُخرجه من مكانه ‘.

مضي الفصل المسرحي حتى اللحظة التي ما استطاع بول فيها تحمّله أكثر فتسوّلها أن تدعه يذوق السمك. الآن قد وضعته تحت رحمتها. الآن تستطيع أن تقتَصَّ من طمعه المقزز.

’ تخيّل ولداً في السادسة عشر يتسوّل سمكة سلطعون، يا قِيرارد ! هل هناك أدنأ من ذلك ؟ بصراحةٍ، أنتَ تعلم أنه قد يلحس السمكات من فوق السجادة. قد يدبُّ متذللاً من أجلهنَّ. لا، لا تأخذ السمكة إليه. دعه يأتي بنفسه لأخذها ! هذا المائعُ الكبير. إنه، ببساطة، لَمُنَفِّرٌ جداً. إنه يموت طمعاً. لكنه بلا همّة تُحرّكه لنيل ما يريد. لن يحصل على سمكة سلطعون، فأنا مُستَحْيِيَة لأجله ‘.

ثمَّ، إذا حرَّكتها الرّوح، قد تعتلي صهوة مقعدها ذي الثلاث قوائم و تُقدّم أحد تشخيصاتها الدراميّة الشّهيرة
ل" الكاهنة " [ في الأصل Sibyl، بحرف الكبير – المترجم ]. قد يسُدُّ بول آنذاك أذنيه، أو يخطف كتاباً و يشرع في قراءته بصوتٍ عالٍ – هو يُفضِّل، في حالٍ كهذه، أن يقرأ شيئاً من سينت سيمون أو شارلس بودلير. أصمَّاً عن العِرَافَةِ [ في الأصل Oracle، بحرف الكبير – المترجم ] قد يقول :- ’ اسْمَعْ يا قِيرارد ‘، ثمَّ يُنشد :-
J`aime son mauvais gout، sa jupe biggarrie،
Son grand chale boiteux، sa parole egaree،
Et son front retreci

ما كان يدري أنّ إنشاده لهذا المقطع الشعري قد استدعى، على نحوٍ سحريٍّ، الحجرة – جمال اليزابيث.

في هذه الأثناء كانت اليزابيث قد قبضت على ورقةٍ. و في صوتٍ قُصِدَ به أن يكون تقليداً ساخراً لصوت بول مضت تُثرثر بمحتويات عمود النَّميمة في إحدى الصُّحف. و كلما حاول بول إسكاتها صار ترديد تلاوتها، وراء حجاب الصحيفة، أكثر ارتفاعاً. لكنها كانت، في كلِّ فعلها ذلك، غافلةً عنه بذاتِ الدرجة التي هي بها مُتْمَتْرِسَةً خلف صحيفتها.

منتهزاً فرصته هذى أطلق بول ذراعه في الفضاء و أفلت، قبل أن يتمكّن قِيرارد من إيقافه، حاويةَ لبنٍ كرتونيَّة تجاهها. ’ الشَّقِيُّ ! الوحش !‘، صاحت بغيظٍ غُصَّ به حلقُها.

التصقت الورقة العطنة بالسائل بها كلزقةٍ دَبِقَة. انسرب اللبن فوقها كنُهيراتٍ صغيرةٍ. لكن لا ينبغي لبول أن يحوز على الرضى الناجم عن ردِّها إلى فتاةٍ دامعةٍ و حسب.

’ اسْمَعْنِي دقيقةً، يا قِيرارد ‘، واصلت الكلام، ’ اعْطِنِي يداً مُعينة. ائتِنِي بقماشٍ. ساعِدْنِي في مسحِ هذا الوسخ عنِّي. ارْمْ هذه الورقة في المطبخ ‘. ثمّ، خافضةً صوتها، ’ كنتُ على وشك السّماح له بأخذ بعضٍ من سمك السّلطعون .... هل تريدُ واحدةً ؟ انتبه ! ما يزالُ اللبن يقطر. أين القماش ؟ أنا ممتنّةً لكَ كثيراً، يا قِيرارد ‘.

وصل الحديث عن سمك السّلطعون، إلى أُذنَي بول، منكتماً. كان النوم متلصصاً عليه. صار سمك السلطعون شيئاً لا يؤبه له. فهو قد ألقى بثقل مرساته؛ سحب سلسلتها و قذف، في البحر، جُلَّةَ ( صابُورَةَ ) شهِيَّاته اليقظة؛ مقيَّداً يداً و قدماً أُلْقِىَ في الغياهب القاتمة [ عبارة " الغياهب القاتمة " هي ترجمة ابتدعتُها لكلمة ، بحرف الكبير في المبتدئِ. في الأصل اليوناني هي اسمٌ لنهرٍ يجري في " العالم السُّفلي " – المترجم ] لمدِّ و جذرِ البحر.

الآن، كذروة لدراماها التي شهدنا، سعت اليزابيث إلى منتهى غايتها الوحيدة منها و هي خلخلة وضعيّتها الأساسية التي جَهُدَت في التحايل على إدخالها في كينونة العالم. ففي اللحظة التي باتت فيها متأكدةً من أنها أبلته إلى حدِّ تجاوز مرحلة الشفاء نهضت، ذهبت إلى جانب سريره و وضعت طاس السَّلَطَة على ركبتيه.

’ هلُمَّ، أيّها " الرّعب ". إنني لستُ بخيلةً كلّ ذلك البخل. تفضّل و خذ ما تشاء من سمك السَّلطعون ‘. قالت له.

لكن يبدو أنه قد فات الأوان. فرأسه قد رقدت في مدِّ و جذر النوم. و جفناه المتورمان أُغلقا بقوة. أما شفتاه فهما الآن كانتا تجذبان نَفَسَاً من هواءٍ آخرٍ غير الهواء الإنسانيّ.

’ هلُمَّ، كُلهُ. أنتَ قاتَ إنّكَ تريده. الآن أنتاَ لا تُريده. هذه هي فرصتك الأخيرة. أنا ذاهبة ‘. حينئذ، كرأسٍ مقطوعٍ يبذل جهداً أخيراً في سبيل التواصل، فتح بول، في فمه، فُرجَةً صغيرةً. ’ حسناً، إذاً. إن كان هذا لا يكفي لأخذ كعكةٍ ! أيا بول ! دونك سمك السلطعون العزيز لديك ‘. قشَّرت واحدةً من السَّمك و أدخلتها بين فكّيه.

’ إنه يمضغ في نومه ! انظُرْ، يا قِيرارد. هذا شيءٌ عجيب. الخنزير الجّشِع ! إنه حقاً مغيظ في تجاوزه للحد ‘.

متَّسِعَةً مناخيرها، بارزٌ طرفُ لسانها و كأنّها مُستَغْرَقَةً في تجربةٍ علميّةٍ مضت في إطعامه. مُكِبَّةً عليه، مشغولةً و مجنونةً كانت تبدو – امرأةً مجنونةً منحنيةً فوق طفلٍ ميِّتٍ و حاشيَةً له بالطّعام.

عن هذه الجلسة المُعَلِّمَة انحفر في ذات قِيرارد انطباعٌ واحدٌ لا غير. ذلك، تحديداً، هو انطباع اللحظة التي خاطبته فيها اليزابيث لأوّل مرّة بالعبارة الأليفة ’tu‘ [tu، في اللغة الفرنسية تعني ’ أنتَ ‘ حين تُوجّه إلى شخصٍ للمرء معه صلةٌ حميمة. و هذا طبعاً يختلف عن معنى ’ أنتَ ‘ العام، في العربية و الإنجليزية معاً. لذل تُرِكَتْ، عند الترجمة، كما هي – المترجم ]. في الصباح التالي، وهو خائفٌ، خوفَ حياةٍ أو موتٍ، على وجهه أن يُلطمَ، حملَ نفسهُ على أن يدخل على اليزابيث من باب ذات المدخل – الفاتحة ( الموسيقيّة ). و حين وجد أنَّ ذلكَ المدخل – الفاتحة قد قُبِلَ لديها بإضمارٍ، أو ضمنيّاً، شعرَ بمخاضِ ألمِ انزعاجٍ غريبِ العذوبة.

7

أطالت " الحجرة " شعائرها حتى الهزيع الأخير من الليل. هذا أدى إلى الاستيقاظ المتأخر لقاطنيها. في الحادية عشر صباحاً جاءتهما ماريَيْتِي بقهوة الصباح. لم يَمَسَّاها و عادا إلى النوم. و في المرة التالية التي نادتهما فيها أصبحت القهوةُ باردةً فبدت ليست شيئاً يُرَجَّى بترقُّبٍ. أما في المرة الثالثة لذات النداء باتا أوغلَ في النوم من أن يستيقظا – رُفِضَت القهوةُ، بلحمها و جلدها و كلِّها، أخيراً. تعهَّدت ماريَيْتِي بأن تعرج على الطابق الأسفل حيثُ المقهى المسمّى ’ كافَيْ شارلس ‘ و تجلب معها مشروبات و ساندويتشات. إنها كانت قد تُفضِّل ممارسة فنون طباخة بريتانيَّة جيّدة، لكنها تعلّمت أن تُخضع عاداتها و رغباتها لانفعالاتهما الجامحة. مع ذلك هي، أحياناً، قد لا تتركهما لحالهما بل تُنكِّدُهما بدفعهما دفعاً إلى داخل حجرة المعيشة حيثُ تُرغمهما على الجلوس إلى المائدة و تناول وجبةٍ حقّةٍ. ذلك حدث في تلك المرّة.

زلقت اليزابيث معطفاً فوق لباسها الليلي، ثم غرقت في بطنِ حلمٍ ما و هي متّكئةً بأحد مرفقيها على المائدة فيما يدها ساندةً خدّها. ذلك في هيئةٍ مستعيدةٍ ذكرى بعض شكلٍ أنثويٍّ مجازيٍّ رامزٍ " للعلم"*، أو " الزِّراعة "**، أو " الفصول "*** [ * و ** و *** في الأصل Science ، Agriculture ، the Seasons- المترجم ]. إلى جوارها تمايل بول ناعساً و هو متزَيٍّ ب’ مُخَطَّط ‘ لباسٍ. أكلا بصمتٍ كرياضيين ناشطين كانا، آنذاك، يرتاحان بين عروضهما. ساعاتُ ’ ضوء النَّهار ‘ الخالية أثقلت عليهما. تركا خفق التّيّار يحملهما تجاه الليل، تجاه التجدد، الحياة، " الحجرة ".

كانت ماريَيْتِي ماهرةً في أن تُبْقِى الحجرة نظيفة دون أن تمسَّ فوضاها الأساسيّة بسوءٍ. من الرابعة حتى الخامسة بعد الظهر خاطت ملابساً .... ثم أخيراً، بعد أن تركت لهما عشاءاً بارداً، ذهبت إلى أهلها. بذهابها حانت الساعة التي كان فيها بول يحوم في الشوارع المهجورة جارياً وراء أيِّ فتاةٍ قد يُوحي شكلُها، أو ملامحها، بأنَّ نموذجها الأصليَّ كامنٌ في سوناتة بودلير.

وحيدةً في المنزل، باتت اليزابيث منحنيةً تارّةً، واقفةً تارّةً، جالسةً تارّةً، في هيئاتٍ مُكابرةٍ. إنها ما كانت تُغادر البيت قط إلاّ لتشتري ’ مفاجآت ‘ تُسرع بهُنَّ إليه ( بول ) ثانيةً، ثمَّ تُخَبِّؤُهُنَّ. جالت مهوِّمةً، بانشغالِ بالٍ، من حجرةٍ إلى حجرةٍ، عليلةً برعبِ حجرةٍ واحدةٍ، حجرةٍ واحدةٍ فيها رقد جسدٌ :- امرأةٌ مغمورةٌ ميِّتَةٌ و ليست الأُمّ التي تذكرتها و التي ظلّت مستمرّةً في العيشِ بداخلها.

عند حلول الليل زاد توفُّزها فتقدّمت إلى مركز الحجرة الميّت و وقفت منتبهةً و ذراعيها ملقاتين على جانبيها، محدِّقَةً قُدَّامها خلال الظِّلال الطَّاوية للمكان. كانت الحجرة غارقةً و على وشك أن تُغمرَ. هي أيضاً كانت غارقةً و لا أمَّ لها. وقفت، كقبطانٍ، على الجّسرِ، ثم تركت نفسها تنزلُ، ثمَّ تنزلُ، ثمَّ تنزلُ أسفلاً.

8
وراء حدود عالم الحيوات و المنازل العادي تكمن، غير محلوم بها في فلسفة حسِّهما المشترك ( العام )، مملكة اللا احتمالي الرحيب :- عالمٌ، كما قد يبدو، هو من اللاّ ترتيب بحيثُ أنَّه لا يقوى على التَّماسك لأسبوعين، دعكَ من أعوامٍ عددا. مع ذلك تستمرُّ هذه الحيوات، هذه المنازل، محافظةً على توازنٍ مضطرب متحدِّيَةً، بذلك، كلَّ قوانين الإنسان و الطَّبيعة. على كلٍّ، فإنّ الأشخاص اللذين يؤسسون حساباتهم على ضغط قوة الظرف الذي لا يلين يُسَلِّمون، بحقٍّ، بأنَّ أمثال تلك الحيوات قدرها الهلاك.

يدينُ العالم بفتنته إلى ذلكما المخلوقين المُلفتين و تهاويلهما. لكن تعقيده المركّب يرفضهما. مُوطئَينَ روحيهما بالحسك، تراجيديَّين، مُهَيِّجَين لشجى القلب بزواليَّتِهِما، يوجبُ عليهما العالم ألاّ يَنِيَا مُساقين في مهبِّ ريحه، رأساً إلى فناءٍ مُحقَّق. وبعد، فإنَّ كلَّ هذا سبقته بدايةٌ غيرُ مؤذية. فهو قد ابتُدر فقط بألعابٍ طفوليَّةٍ و ضحك ...

و هكذا، في الريو مونمارتر، انقضت ثلاثة أعوام متشابهة و مكثَّفة بلا هوادة. و خلال هاتيك السنين مضت اليزابيث و مضى بول، إذ ما استطاعا أن يرشدا، في أرجحة مخدعيهما التّوأمين. أحبَّ قِيرارد اليزابيث. أُغرِمَ كلٌّ من اليزابيث و بول ببعضهما البعض؛ التهم أحدهما الآخر ! كانت اليزابيث، مرّةً كلِّ أسبوعين و بعد مشاجرةٍ ليليّة، تُعبِّئ حقيبةً و تُغادر البيت لتعيش فندقٍ. مرت ليلةٌ عاصفةٌ إثر ليلةٍ عاصفةٍ تبعتهُنَّ صباحاتٌ مُثقلةَ الجِّفون، ثمَّ ظهيراتٌ طويلةٌ فيهُنَّ انساقوا مُسَرْنِمين، عُمياً كالبغال ... أحياناً رافقت اليزابيث قِيرارد في خروجها، فيما ظلَّ بول صائداً وحيداً. لكن لا شيءَ ممّا شاهدوا، أو سمعوا، انتمى إليهم كأفراد. فهم قد كانوا ملزمي أنفسهم، إلزاماً قاطعاً، بأن يُودعوا ما قد كانوا يسلبونه من حلويّات غذاءاً لمخزن ’ العسلِ ‘ العامِّ.

ما مست نفس هذا الثنائي اليتيم المعدم ( اليزابيث و بول ) أي إشارة إلى أنهما " خارجان عن القانون " يعيشان في زمنٍ مستلفٍ بُعَيْدَ زمان الكدح اليوميِّ و معتمد على سخاء قدرٍ مراوغٍ. لذا تبدى لهما أنه ليس إلا شيئاً طبيعياً أن يرفدهما الطبيب و خال قِيرلرد بموارد معاشهما.

الثروة هي موقفٌ إدراكيٌّ فطريٌّ، كالفقر. فالمُسغب الذي جمع كوم العطايا إليه قد يستعرض مغانمه بزهو. لكنه – ما دام مُسغباً – لن يستطيع استعمال هاتيك المغانم بصورةٍ تُقنع الآخرين بأنه مالكها الطبيعي. و هذان الطفلان قد وُلدا غنيان بحيثُ أن لاشيء مما في هذه الدنيا من ثروات و نِعَمٍ كان سيستطيع، ولو احتمالاً، أن يُغيّر حياتيهما. فإن كانا قد ناما، ثم صحيا، في الصباح التالي، على كنزٍ و رثاه بليلٍ فإنّهما كانا سيكونان مُحصَّنينَ ضدَّه.

مُتوانيان، طائشان، هما كانا نقيضاً حياً للمثال البيوريتاني؛ مثالاً حياً لكلمات ’ الفيلسوف‘ التالية :- " جوهرين حيويّين، متقلّبين لا مُباليين، شاربين من النبع المقدس " [ في الأصل هذه العبارة صيغت كالآتي :- vital essences، volatile، indifferent، drinkers at the sacred fount . طبعاً هي قد حُوِّلت، في الترجمة، إلى صيغة المُثنّى تمشياً و قواعد النحو العربي ].

كانت لهما غريزةٌ للتخطيط، الدراسة، تصيُّد الوظائف، نزع الأسلاك [ كناية عن الخبرات العملية – المترجم ] ضعيفةً كضعف غريزة حراسة القطيع لدى كلب الحِجر الصغير المدلل [ ’ كلبُ الحجر ‘ : ترجمة للكلمة الإنجليزية المألوفة ’lapdog ‘. و ذلك هو كلبٌ بيتيٌّ أليفٌ صغيرٌ قد يحتضنه من يحبُّه في حِجرِهِ –
المترجم ] ... في الصحف كانا يقرآن تقارير الجريمة فقط و لا شيء آخر. و لانعدام أيّ إطارٍ اجتماعيٍّ ضامٍّ لهما فإنّهما عُدَّا من تلك القبيلة التي تُقَوَّمُ في موطنها بنيويورك ثمَّ تُنفى، اختيارياً، إلى باريس. إذاً عندما أعلنت اليزابيث فجأةً، صادمةً بول و قِيرارد بدهشةٍ جزِعة، انتواءها البحث عن عملٍ ما كان، على أيِّ نحوٍ، دافعها إلى ذلك اعتباراتٌ عمليّة. فما حركها حثيثاً نحوه، كما أقرَّت، هو برمها بان تكون مُستَعْبَدةً... يستطيع بول أن يتدبَّر أمرَه تماماً. ثمَّ إنها، على كلٍّ حالٍ، في التاسعة عشر و صحتها آيلةً، شيئاً فشيئاً، إلى الاعتلال ... سوف لن تتحمَّل مزيداً مما هي فيه لحظةً أخرى. تابعت هذا النزوع فيها فقالت :- ’ أنتَ تعلم، يا قِيرارد، أنّ بول ليس لديه علاقات. بجانب هذا، هو لا نفعَ له... إنه لا خيرَ فيه. إنه أبله؛ مجنونٌ عملياً. يتعيَّنُ عليَّ أن أُعيلَ نفسي. ثمَّ ماذا سيحدث له إن لم أعمل ؟ يجب عليَّ أن أكسب عيشي. سأحصل على عمل. يجب عليَّ ذلك ‘.

فهمها قِيرارد. استبان له الأمر الآن. فقد تردد صوت القضبان الجّهمة في الحجرة و هي تنفتح على مضمونس جديدٍ في حياتها و فيها. اكتمل استعداد اليزابيث و قِيرارد للخروج. رقد بول محنّطاً، ضحيّةً لا حيلةَ لها إزاءَ هذا البطش اللاّ مألوف. ’ يا للطفل المسكين ! ‘، واصلت اليزابيث الحديث، ’ إنه يحتاج إلى عون. فكما ترى، إن صحته ليست، في الحقيقة، أفضل كثيراً. الطبيب ... ( لا تنزعج يا ’ زراف ‘. لا مشكلة هناك فهو نائم ). الطبيب كان مهموماً، بفظاعةٍ، عليه. إنه لن يستطيع أبداً الذّهاب، مرةً أخرى، إلى المدرسة. ذلك ليس خطأه. أنا لا ألومه. إنَّ الأمر فقط هو أنني قد حُمَِّلَتْ يداي عبءُ عليلٍ مزمن. عجيبٌ أن يفكر المرء أن كرةَ ثلجٍ واحدة صغيرة تستطيع أن تُودي به هكذا ! ‘

’ الشَّيطانة ! الشَّيطانة ! ‘ فكّر بول. تمادى في التظاهر بالنوم. لكن التواءةً عصبيّةً فضحت تحفُّزه. انحنت اليزابيث فوقه باهتمام و هي تضع إصبعها على إحدى شفتيها ثم بدأت، كرّةً أخرى، في برمِ المفكَّات بأصابعٍ خبيرةٍ ضاغطةً، بذلك، على مكامن الحساسية العاطفية لحالته الحاضرة. و حينما اعترض قِيرارد على ما قالت عن بول و أبان كيف أنه كان يبدو معافىً، كيف أنه كان قد كبُرَ كثيراً، كيف انه كان قوياً واجهته اليزابيث مُتَّهِمَةً بول بالجَّشع، قلّة الهمّة و الخمول.

أخيراً، حينما لم يتمكن بول من السيطرة على نفسه لأيِّ لحظةٍ أخرى اهتزَّ على سريره كأنه موشك على الاستيقاظ. غيّرت اليزابيث الموضوع في الحال و سألته، بلهجةٍ عسلِيّةٍ، عما يريد.

عمر بول الآن سبعة عشر عاماً. بعد شهورِ الرُّقادِ تلكَ قد يحسبه المرءُ بالغاً العشرين. إنَّ له سكّراً زائداً، سمكَ سلطعونٍ زائداً ! إنَّ الوقت قد حان، فكّرت شقيقته، لرفع المُثْقِلاتِ !

و لأنَّ النوم قد وضعه في موقعٍ خُسْرٍ فإنه قد بدا لبول أنَّ من الأوفق له أن يُغَيِّر تاكتيكاته. قام بهجمةٍ مباغتةٍ. في الحال تحولت اليزابيث عن موقف الشكوى إلى موقف الإساءة و التَّنابُذ الشّديد فصار عندها إلى دودةٍ، محتالٍ و مُسَبِّبٍ محتملٍ لموتها، ثمَّ إلى شخصٍ قد لا يتورّع من أن يُنَصِّبَ نفسه قوَّاداً لها كي تستبيح جسدها للعابرين. أمّا نفسها فهي قد وصفتها، في معرض الشَّتائم هذا، بأنها ليست إلاّ كيساً ملئه الريح، هيئةً هزليّةً، أُتاناً عجوزاً بلهاء و لا نفع لها.

هاتيك الصفات أجبرتها على هجر الكلام إلى الفعل. توسّلت قِيرارد أن يُقدّمها إلى امرأةٍ من معارفه رئيسةَ لأحدِ بيوتِ الأزياء الكبرى عساها تعمل عندها بائعة.

9

قدّم قِيرارد اليزابيث إلى صانعة الملابس التي شُدِهَت بجمالها. إلاّ أنه، لسوء الحظ، كان على كلِّ البائعات أن يلممن بلغاتٍ أجنبيّةٍ. لذا فهي – كما قيلَ لها – ليس لديها خيارٌ سوى التعاقُد، مع المحلِّ، على العمل كمانيكان، إن شاءت. فإن فعلت ذلك فستكون تحت رعاية أيادٍ طيبة . فقد تصادف أن تكون في خدمة المحل فتاةٌ يتيمةٌ أخرى اسمها أقاثا. هذه الفتاة – كما طمأنتها صانعةُ الملابس – سوف تضعها نُصبَ عينها. بائعة ؟ مانيكان ؟ ما رأت اليزابيث فرقاً في المكانة بين الاثنين. بالعكس، بدا لها دخولها إلى المجتمع كمانيكان بمثابة شيءٍ موازٍ، بالكاد، لتدشينها فيه كممثلة. تمت موافقتها على ما عُرِضَ عليها فأسفر الأمر عن أثرٍ بعيدٍ و مشهودٍ على علاقتها بشقيقها. كانت قد توقّعت أن يُكدِّر هذا التحوّل بول. في الواقع هو، لعدة أسبابٍ غامضةٍ، قد هوى، بصورةٍ حقيقيةٍ تماماً، في توثُّباتٍ انفعالية تنمُّ عن الغيظِ و المهانة فصاح فيها، هازّاً ذراعيه، بأنه ما تخيّل أبداً أن يكون شقيقَ عاهرةٍ من الدّرجة الأولى، و بأنه قد يراها، قريباً، و هي تتسكّع في الشوارع بحثاً عن زبائن.

’ ليس لي أن أفعل ذلك ‘، ردت اليزابيث عليه، ’ فقد أصطدمُ بكَ أثناء ذلك التَّسَكُّع ! ‘ ... ’ يا فتاتي المسكينة !‘، قال بول هازئاً، ’ انظُرِيْ إلى نفسك في المرآة. إنكِ فقط ستجعلين نفسك فُرْجَةً للقصي و الدّاني. إنّكِ ستكونين منكشفةَ الأعضاء الجنسية خلال ساعة. مانيكان، فعلاً ! اظْهِرِي نفسك للناس كخيال مآتة. ذاك سيكون أكثر ملاءمةً لكِ ‘.

كي تكون مانيكاناً يجب أن تجتاز فترة تلمذة قاسية. و اليوم الأوّل من تلك الفترة يُوازي، في رعبه و مهانته، أوّل يومٍ تُقضيه طفلةٌ ( أو طفلٌ ) في المدرسة ... خارجةً من نفق ٍ طويلٍ مظلمٍ خطت اليزابيث فوق الدّكّة، تحت بُهرة أضواء المصابيح المُقوَّسة. ثمَّ، و هي مقنعةً بأنَّها ’ شَيْنَةٌ ‘ و خائفةً من حدوثِ أسوء مما تتصوّر، توهّجت، بين فتيات الموديل الأُخريات الرَّاقيات الفيروزِيّات [ من ’ فيروز ‘ – المترجم ]، بكلِّ جمالها اللاّ مُستأنس الأجنبيّ
( الحُوْشِيّ ). حدَّقْنَ فيها بحسدٍ، ثمَّ تهامسنَ فيما بينهُنَّ. لكنَّ شيئاً ما فيها منحها حصانةً ضدَّ الاضِّطهاد المعلن فقرّرن أن يَتَجَاهَلْنَها ... وجدت اليزابيث هي انعزالها امتحاناً مؤلماً ... راقبت الأخريات و حاولت أن تُقلّد طريقتَهُنَّ في الانحناء أسفلاً تجاه زبون محتمل و كأنّهنَّ على وشك طلب اعتذارٍ ما منه أمام الملأ ثم إعقابهنّ لذلك، في آخر لحظة، بالاستدارة بعيداً عنه في ازدراء. لكنها ما كانت من النوع المواكب للموضة. لا غرو إذاً أنها قد غَمَّتْهَا القفاطينُ المملة التي جعلوها ترتديها كموديل. صارت بديل أقاثا في المحلِّ.

نمت، تدريجياً، مودّةٌ دافئةٌ – و هي عاطفةٌ ما كانت معروفة، حتى حينذاك، لاليزابيث – بين الفتاتين فاقدتي الأم مُوَحِّدَةً لهما، بذلك، في صداقةٍ برهنت أنها مصيريةٌ لهما معاً. فكلتاهما لا متوافقتان اجتماعياً. تجسدت تلك الصداقة في أنهما ما فوَّتتا أيَّ لحظاتٍ لاجتماعهما معاً قد تنتزعانهما من زمن المودَلَة. آنذاك كانتا تتكوران مسترخيتين، في آبروليهما البيضاوين، على أرائك تنتثر عليهُنَّ فراءات المودَلَة و تتبادلان الكتب و الأسرار الصغيرة و تتصرفان، عموماً، مثل لحنين متمازجي الأساس.

و هكذا بدأت كلُّ العجلات تدور. الأجزاءُ التي ستُجمَع بدأت تنتقل، في تناسقٍ و انسيابٍ، من مرحلةٍ إلى أخرى، إلى غاياتها المقصودة ...... لحظةٌ أخرى مضت و إذا بأقاثا في " الحجرة ".

تمنت اليزابيث، نصفَ تمنٍّ، أن يُسَجِّل بول احتجاجاً على ما حدث. فهي قد كانت حذرته من أن للفتاة اسمٌ غبيٌّ. إلاّ أن بول، على العكس من ذلك، قال إنَّ الاسم " أقاثا " هو اسمٌ جليل. فهو قد خُلِّدَ في أحد أجمل القصائد المكتوبة باللغة الفرنسية.

10

إنَّ ذات النحو الذي جذب به قِيرارد، عبر بول، تجاه اليزابيث هو الآن فاعلٌ، و إن بصورةٍ أقلَّ تستُّراً، في حالة أقاثا، فهو جاذبٌ لها، عبر اليزابيث، تجاه بول الذي كان يحسُّ أنَّ حضورها ’ مزعجٌ ‘. و لأنه ليس متمرساً في فن تحليل الذات فإنه قد صنف أقاثا على أنها " لذيذة " و ما تعمّق في الأمر لأبعد من ذاك الحد.

ما فعله بول، في الواقع، هو أنه قد أضفى على أقاثا ذات المُتَخَيَّلات الفضفاضة الغامضة التي كان قد اصطفاها لدارقِيلوس. هذا الأمر قد صعقه، بقوةِ كشفٍ مذهلةٍ، ذات مساءٍ كانت فيه الفتاتان معاً في
"الحجرة ". كانت " الخزانة " باديةً للعيان فيما اليزابيث شارحةً لأقاثا ما لها من أهمِّيَّةٍ لديها و لدى بول حينما أمسكت أقاثا بصورة دارقِيلوس الفوتوغرافية التي كان متزيناً فيها كرياضيٍّ و صاحت :- ’ هل تحصّلتِ على صورتي الفوتوغرافية ؟ ‘ قالت ذلك، لاليزابيث، بصوتٍ حملت غرابته بول على أن يرفع رأسه عن تابوته الحجريِّ و يبقى متكئاً على مرفقيه على هيئة

’ هذه ليست صورَتُكِ الفوتوغرافية ‘. ردّت اليزابيث على أقاثا.
- ’ لا، أعرفُ الآن أنها ليست لي ‘. قالت أقاثا. ثم استطردت ’ لكن شبهها بصورةٍ فوتوغرافيّةٍ قديمةٍ لي لا يُصدّق. سأجلبها هنا. إنها تماماً كهذه – أنا، أنا ! – الصورة الحيّة لي. لمن هي ؟ ‘
- ’ هذه ليست صورة فتاةٍ، يا بطَّة ! إنها لذلك الشاب الذي أخبرتُكِ عنه؛ ذاك الذي كان يدرس مع بول في نفس المدرسة و الذي قذف كرة الثلج .... إنكِ محقّة تماماً، فهو يُشبِهُكِ. بول، هل هو يُشبه في مرآه مرأى أقاثا ؟

عند هذه الكلمات انطلقت المشابهة عابرةً البرزخ بين لاوعيه و وعيه و لم يفد الجهد الذي بذله، حتى الآن، في تطويقها في دخيلته ... تعرّف قِيرارد على الخطوط البارزة للوجه المصيري. التفتت أقاثا نحو بول و هي ممسكةً إلى الأعلى بمستطيلِ بياضٍ – كان دارقِيلوس هو من رآه بول على خلفيةِ الظِّلالِ و هو يُلوِّح بكرةِ الثلجٍ موشكاً أن يطرحه بها أرضاً. ألقى برأسه إلى الوراء و أجاب بوهنٍ :- ’ لا، يا حبيبتي، لا. فالصورة الفوتوغرافية بها شيءٌ من هيئتك. لكنّكِ لستِ تشبهينها، في الحقيقة، أدنى شبهٍ ‘.

هذه الكذبةُ الصُّراح أقلقت قِيرارد. فالتماثل بين أولئك الشخصين ( أقاثا و دارقِيلوس ) في الملامح يضربُ المرء تماماً على وجهه.

كان بول، في الحقيقة، يُفضِّلُ أن يُبقي على بعضِ مستوياتٍ دفينةٍ من روحه غير ممسوسة؛ فمنجمه غنيٌّ و عميقٌ و مُحَمَّلٌ بكنزٍ مُعجِزٍ للخيال :- إنه يخافُ من خرقه الخاص. ثمَّ أن مصطلحه الجاري " لذيذ " لا ينطبق على أيِّ شيءٍ واقعٍ تحتَ قشرة ذلك البركان الذي تُخدِّرُ أبخرته المتصاعدة للرأس أحاسيسه المُفْتَتِنَة.

منذ تلك الليلة فصاعداً بدأ بول ’ بول – أقاثا ‘ينسجُ صيغةً مُنَمْنَمَةً [ أي نسيجاً بهيئةٍ ’ 7، 8 ‘، كما يقولون في عاميّةِ بعضِ أهلِ السودان – المترجم ]. دارت عجلةُ النصيب دورةً كاملةً. الكبرياءُ قُيِّضَ لها النزول إ^لى أرض الوداعة. فدارقِيلوس المتجبِّر، صاحب القلب الرّخامي، الميّت الإحساس بالحبِّ، قد عانى تحولاً جذرياً. فهو قد انقلب، الآن، إلى فتاةٍ يافعةٍ خجولة بمستطاع بول إخضاعها له كلياً.

حشرت اليزابيث الصورة الفوتوغرافية في داخل الدرج حيث كانت. في الصباح التالي وجدتها على رفِّ الموقد فقطَّبت جبينها. لم تُعلِّق على ذلك، لكن أفكارها تسابقت قُدُمَاً. في ومضةٍ تحقَّقت من أنَّ كلَّ المصقولِين الذي دبَّس بول صورهم الفوتوغرافية على الحوائط – الفتيات اللامعات، الرجال المسلحين، المخبرين، ...... و ما إلى ذلك – قد كانوا نماذجاً أوّليّة من أقاثا و دارقِيلوس – الرِّياضي. خنقها روعٌ مذهلٌ لا اسم له. ’ هذا فائتٌ للحدِّ ‘، خاطبت نفسها، ’ إنه يستغفلُني. إنه يغشّني ‘. قررت أن تكيل له بذات مكياله؛ أن تهب أقاثا اهتماماً خاصاً مُبرزاً على حساب بول فيما هي تتظاهر بتجاهل مُجريات أمورهما.

كانت هالةُ المُشابهةِ حقيقةً ساطعةً في " الحجرة " على نحوٍ لا يقبل شكَّاً. بيد أنها لو أُبينَتْ لبول فإنه كان سيندهش. فاتِّباعه هوى نموذجٍ فيزيائيٍّ معيَّنٍ من النّاس كان شيئاً لا واعياً تماماً. مع ذلك جرَّ افتتانه بذلك
" النوع " من بني الإنسان، ثم الافتتان الذي هو، شخصياً، مُغْدِقُه، بلا تبصُّرٍ، على أخته، خطين مستقيمين خلال فوضى حياتهما؛ خطّين قُضِيَ عليهما، قضاءاً راسخاً، كرسوخِ نظريةٍ إيُوكْلِيْدِيَّةٍ، بأن يلتقيا، مثلهما مثل ذينك الخطين اللذين، بعد أن يبدآ في صورةٍ أنيميّةٍ عند القاعدةِ، يتقاطعا و يُشَكِّلا رأس الجَّمَلَون الكلاسيكي الإغريقي.

أسس كلٌّ من قِيرارد و أقاثا حقهما في الاشتراك في استئجار هذه الغرفة المُخالِفَة أو، على الأرجح، معسكر الغجر هذا. فذاكَ ما هي، تدريجياً، آخذةً في التماثُل معه. الحصانُ – في هذه الغرفة – المعسكر الغجري – مفتقدٌ، لكنَّ الأطفال الرَّثِّين ليسوا كذلك ... اقترحت اليزابيث على أقاثا الإقامة عندهما ( هي و بول ). قالت لها إن بإمكانها السكن في " غرفة ماما " الخالية، و إنَّ ماريَيْتِي تستطيع أن تعدّها لها – غرفة البقاء وحيداً تلك، التذكّر و الانتظار إلى أن تُبتلَعَ كلُّكَ في الظُّلمة. لكن أقاثا ما كانت لها تداعياتٌ سوداويّةٌ كهذه متعلقة بالغرفة إياها. فنظافةٌ شاملةٌ و مصباحٌ أو مصباحان قد يجعلانها غرفةَ نومٍ ظريفةً.

ساعد قِيرارد أقاثا على جلب بعض الحقائب إلى البيت. أما عن عادات آل البيت فقد سبق لها التطبُّع بها فصارت خبيرةً بأوقات و كيفيّاتِ يقظتهما و نومهما و مشاجراتهما، بعاصفاتِ مواقفهما و هادئاتها، بعادات غَشَيانهما للمقهى و ما يأكلان من ساندويتشاته ... و الذي من ذلك.

كلُّ مساءٍ، حيثُ تفرغُ الفتاتان من عملهما، كانتا تجدا قِيرارد في انتظارهما ليأخذهما في فُسْحَةٍ على الأقدام، أو إلى البيت. ماريَيْتِي كانت تُجهِّز، للجميع، ذات العشاء البارد الذي كانوا يأخذونه من على المائدة و يتناولونه كأنهم في نزهةٍ. ثمَّ، في الصباح التالي، تأتي مارييتي لتمسح قشر البيض بعيداً.

كان بول عازماً على الاستفادة، لأقصى مدىً، من دورة عجلة إلهة الحظ المواتي هذه. ما كانت لديه، كدارقِيلوس، درعاً مبطّنةً من الغطرسة كي يعتصم بها. لكن أسلحة مجربة أخرى بقيت في متناول يده. بعبارةٍ أخرى، صارت أقاثا الوديعة ضحيّته. و حينما انبرت اليزابيث للدفاع عنها قلب عليهما الموائد و اتخذ جانب أقاثا كي ينكد شقيقته. كان في ذلك مكاسبَ جمّة للأربعة كلِّهم. فهكذا صار بإمكان اليزابيث أن تُوسِّع نشاطاتها و أُعطِيَ قِيرارد لحظةَ راحةٍ مُرَحَّبَاً بها. أما أقاثا فإنَّ وقاحة بول قد صعقتها كتعويذةِ ساحرٍ. نأتي، أخيراً، لبول فنقول عنه إنه ليس دارقِيلوس، إلا أنه وجد للوقاحة بُهرتها الخاصة. و بتعاون أقاثا و استهداف اليزابيث تبيَّنَ له أنه يستطيع أن يستغلَّها.

عانقت أقاثا دورها المرسوم لها بحميةٍ فاديةٍ و هي تشعر بأنَّ " الحجرة " قد حوت قوة حبٍّ طاغيةً جداً. ذلك رغم أنه لو وجب على تلك القوة التقطّع انفجاراً لما استطاعت تدميرها. قد لسعتها – قوّةُ الحبِّ تلك – بعنفٍ كما تفعل صدمةٌ كهربائيّةٌ. فهي قد كانت عاتيةً عليها، و مع ذلك خلقت فيها أثراً إيجابياً. واهبةً هي كانت للحياة كما ريح الملح الهابة من البحر.

أساء والدا أقاثا، مدمنا المخدذشرات، معاملتها، ثم انتهيا إلى وضعِ رؤوس الجميع في فرنِ غازٍ. أنقذها من الموت مدير بيت أزياء معروف صادف أنه كان عايشاً في نفس مجمّع الشّقق. قدمها إلى رئيس مؤسسته الذي استوعبها هناك كتلميذة مهنيةٍ تحت التدريب ثمَّ، لاحقاً، كمانيكان. و لأنها كانت ذاتَ تجربةٍ مع القبضات المضمومة، مع الحقد و إساءة التعامل، فقد تعرّفت على هذه ’ النُّذر ‘ في " الحجرة "، مع فارقٍ في الأمرِ فيها. هنا – أي في " الحجرة " – كانت هاتيك الأشياء تستدعي الموجة الهدّامة، الريح اللاذعة، الصاعقة التي تسقط عشوائياً فتنزع لحم الراعي عنه في لهوها الخالص.

كان التَّضَادُّ بين الأمرين أساسياً. لكنها ما همّها ذاك التّضاد، فخبرتها مع مدمني المخدّرات قد شرطت وجودها بجانب الحياة الموخوز بالندوب و الغرز، بالأصواتِ المهددة، بالخطوات الضّاجّة، بالأثاث المكسور و بالوجبات الخفيفة الباردة في منتصف الليل. عليه فإنَّ ما كان، عادةً، يُحسبُ سلوكاً تحمرُّ له خدود العذارى فشل في ترويعها. فالمدرسةُ القاسيةُ التي خرجت منها قد خلَّفت أثرها عليها فكمن شيءٌ متوحّشٌ حول عينيها و منخريها و استدعت، بذلك، إلى ذاكرة المرء، من أوّلِ وهلةٍ، دارقِيلوس – قناع ازدرائه ذاك.

صعدت - أقاثا – في داخل " الحجرة " و كأنّما هي صاعدةً في جنّةِ جحيمها. إنها، أخيراً، استطاعت أن تحيا، أن تجذب النَّفَس. لا شيء بعد كان سيهمها، لا خوف اعتورها من أن أصدقاءها الجّدد قد ينقادون إلى تعاطي المخدرات. فإدمانهم لتلك، إن حدث، سيكون، كما علمت، شيئاً طبيعياً و ذاتيّ التّوالد بحيثُ ينتفي فيه أيُّ مؤثّر خارجي.

لكن، بين الفينة و الأخرى، كان يبدو لها أنّ نوعاً من الهذيان قد استحوذ عليهم. ف" الحجرة "، في تلك الأحيان، كان تربو و تتكثّف محمومةً بصورٍ منعكسة على مرايا مشوّهة. ثم كان، إثر ذلك، يسقط عبرها ظلٌّ مظلمٌ. كانت، حينذاك، قد تُسائل نفسها إن لم يكن ذاك الإكسير الذي يشربونه ليس أقلَّ إهلاكاً و تطويعاً لعادات المرء و سوقاً له إلى فرن الغاز من أيِّ مخدِّرٍ آخرٍ محتمل له أن يُودي بمتعاطيه إلى ذاتِ المخاطر. ثم كان قد يحدث، بعد ذلك، شيءٌ من تحوُّلٍ في مكان الصّابورة، شيءٌ من تثبيتٍ لقاعدة السفينة مما يطمئنها و يبدد مخاوفها.

لكنها قد تنبأت بالحقيقة، بأعمالِ مادّةٍ عجيبةٍ فيهم. فالمخدر كان سارياً في تيار دمهم.

تتقدم دورات إدمان المخدرات على مراحل تدريجية. و أيُّ مرحلةٍ فيهنَّ تُنجب ظواهرها المنمازة و تحولاتها. ما كانت الواجهات الأمامية لأنفس هؤلاء قد مُسّت بفعل المخدرات حتى ذاك الوقت. لكن، خلال كلٍّ منهم، قد تمددت أرضٌ ليس لها مالكٌ أُنسيٌّ؛ أرضُ خرابٍ و اضطرابٍ. فقد انفتحت منطقةُ الرُّؤى فيهم بزخمٍ متحوِّلٍ مُشَكِّلَةً ألوانَ مشاهدٍ جديدةٍ هناك.

قليلاً، قليلاً انسحبت " اللُّعبة "، ليس في حياة اليزابيث فحسب بل حتى في حياة بول، عن مركز سطوتها. أما قِيرارد فهو قد ذاب كلياً في اليزابيث فتخلى، بذلك، عنها أيضاً. ثم صارت، من بعد ذلك، أيُّ محاولةٍ بذلها بول و اليزابيث لإعادة النَّفَس إليها إلى نهايةٍ مُزْرِيَةٍ ما نجحت قط إلا في إثارة حفيظتيهما. إنهما لم يعدا مستطيعين أن يكونا كونهما الذي بات ذاهباً. ترنح الحلم، نحُلَ خيطُهُ، ثمَّ انحلَّ. فالحقيقةُ هي أنهما كانا قد إلى مكانٍ آخرٍ. و لأنهما معلِّمَين مُخَضْرَمَيْن في كيفيات الهروب من نفسيهما فإنهما قبلا القوة الجديدة التي دفعتهما باطناً، لكنهما نظرا إليها باعتبارها نوعاً من اللّهوِ أو الانصراف. و حيثما هما سابقاً قد تأرجحا، بهوائيّةٍ، فوق خشبة مسرح تراجيديٍّ، كآلهةٍ و إلهاتٍ، مركّبينَ و مُركَّبات، على سلوكٍ و متأهِّبينَ و مُتأهِّبات لتلقِّي الأمر بالعرض فإنهما الآن قد انغمرا في الحبكةِ الدّرامية ذاتها.

ظلت عروضهما الخاصة قاصرةً عن تمثيلِ كثيرٍ مما قد يُرغب في عرضه. فالتمعُّن في الدَّخيلة – الذي هو مدخل ذلك التمثيل – يتطلّبُ انضباطاً ذاتياً يفتقدانه. فهما كلما حاولا ذلك التمعُّن ما واجها في ذاتيهما سوى ظلامٍ غابرٍ و أشباحِ شعورٍ.

’ اللعنة ! اللعنة ! ‘ صاح بول حانقاً ذاتَ مرة. كلُّهم انتباهٌ إلى الأعلى. ’ اللعنة ! ‘ قد عنت لديه، آنذاك، أنه، لفرط انزعاجه المحتد، قد تقاطع، مع إعداداته للرحيل إلى أرض الظِّلال، بعضُ طيفٍ عابرٍ لأقاثا. كان سبب الكارثة من الوضوح بحيث لم يكن بإمكان بول المستغرق في ذاته، أو شقيقته المراقبة له، التعرّف عليه. أصرَّ بول على أنّ الغلطة هي غلطة أقاثا، ثم جعلها تنوء بثقل ضغط مزاجه العكر. أما اليزابيث، التي كانت حينذاك ساعيةً للنزول من الشاطئ إلى البحر، فقط لكي تصطدم بنتوءاتِ صخرٍ ما كانت، حتى لحظة الاصطدام، موجودةً في خرائطِ خيالها، فقد انتهزت فرصة اصطدامها تلك لتوجِّه انتباهها خارجاً. أساءت تأويل ضغينة بول إذ فكّرت :- ’ إنه قد سئم أقاثا لأنها تُذكّره بدارقِيلوس ‘ ففشلت، بذلك، في تبيّن العاطفة التي استثارتها. إذاً فقد نشبت المبارزة ( المنافسة ) المرة بين هذين الشقيقين – الخصمين – اللذين ما كانا خبيرين في التحليل الذاتي بقدر ما قد كانا، ذات حينٍ، عليمين بتراثِ معرفةِ ’ الذي لا يُعرفْ ‘ – مرةً أخرى، متخذةً أقاثا مقياساً لحجمها و أبعادها.

لكن الصِّياح يُؤدّي إلى التهاب الحنجرة. هدأت المعارك الكلاميّة تدريجياً، ثمَّ توقَّفت. مرَّةً أخرى وجد المُحاربان الحقيقة الفظّة منطبعةً على حلمهما، مزعجةً لوجود الطفولة النباتيِّ و مُشتِّتَةً لكلِّ لُعَبِهِ الحرّة من الأذى.

أيُّ نبضِ بقاءٍ خفيٍّ، أيُّ عصبٍ نفسيٍّ أوقفَ، لحظياً، يد اليزابيث، في ذلك اليوم، الذي أضيفَ فيه دارقِيلوس ( ممثلاً في صورته الفوتوغرافية ) إلى مُقَدَّساتِ " الخِزَانة " ؟ لا شكَّ أنّ أحاسيسها قد انسحبت ذبذباتها مع الغرائز المعقدة التي كان بول يحاول السيطرة عليها، مع نغمةِ صوته الواعية بذاتها، اللاّ تلقائية و اللاَّ مُقنِعَة التي تلبَّسَها سؤاله لها :- ’ هل نحتفظ بها ؟ ‘ [ أي صورة دارقِيلوس الفوتوغرافية - المترجم ] فليكن ذاكَ ما يكون؛ هذا القدرُ كافٍ :- صورة دارقيلوس الفوتوغرافية ما كانت لُعبةً غيرَ ذاتِ بالٍ. فاقتراحه بخصوصها كان قد رُمِيَ به خارجاً في روحِ غفلةٍ مرحةٍ مميِّزَةٍ لامرئٍ ضُبِطَ مُتَلَبِّسَاً. في اليوم إيّاه انساقت اليزابيث، بفقدانِ شهيَّةٍ واضحٍ، وراءَ ما جرى و غادرت الغرفة بهزَّاتِ كتفٍ عارفةٍ و متهكِّمَةٍ عنت بها بول و قِيرارد. فعلت ذلك فقط إبقاءً لنفسها على درب السلامة و إيعازاً لهما بأن يستمرّا في تخمين ما على بالها – فقط كي تُعطيهُما الانطباع بأنه مهما كان مناط لعبتهما الصغيرة داريةً بها و مُواكِبَةً لها منذُ البداية.

بِمُسَارَقَةٍ، بمُخَاتَلَةٍ، فيما قد يبدو، انخرطت سكينةُ الدَّرَجِ على ’ مِعْدَنٍ ‘ الصورة الفوتوغرافيّة باعثةً تمازُجاً مُريباً لمُتَخَيَّلَين مُفتَرِقَين. لا غروَ إذاً إن تهيّأ للمرء أنّه ليس مما يدعو، بالكاد، للدهشةِ كون أنَّ أقاثا، و هي تُمسكُ بصورة دارقِيلوس الفوتوغرافيّة للأعلى، قد بدت و كأنَّها قد حرَّكَت، ليس صورة دارقِيلوس، بل كُرَةَ ثَلْجه.
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

الجُّزء الثَّاني

1
لعدة أيام خيّم على الحجرة جوٌّ ثقيل. عذّبت اليزابيث بول، بإلحاح، بنظراتها الملغزة و إحالاتها المُشفَّرة إلى
" شيءٍ لذيذ " قد لا يُسمح له بالمشاركة فيه. تعاملت هي، آنذاك، مع أقاثا كأمينةِ سرِّها، و مع قِيرارد كمتواطئ معها في ذلك الشيء – السّر، ثم جابهت أيَّ مداخلةٍ مباشرةٍ للموضوع المحرّم بعرض غَمَزَاتٍ عظيمٍ. هذه الأفعال الماكرة نجحت في تحقيق غاياتها إلى حدٍّ فاق حتى آمالها المفرطة ( الفالتة ). تلوى بول و تلفلف في محرقة الفضول. الكبرياء وحدها هي التي منعته من محاولة الإلحاف في سؤال أقاثا أو قِيرارد الذي، من فرط ألمٍ ألمَّ به بسبب تهديد اليزابيث الرهيب له بالانتقام، حلف على الصمت عن الأمر. لكن الفضول الرهيب غلبه على المدى الطويل. و متخذاً له موقعاً على ما لقّبته اليزابيث ب’ باب خشبة المسرح ‘ تجسس بول – إذاً – على المتآمرين و اكتشف أنه ليس فقط قِيرارد و إنما أيضاً سابٌّ يافعٌ قد كان منتظراً لهما ( اليزابيث و أقاثا ) داخل عربة رياضية صغيرة.

المشهد الذي وقع في تلك الليلة كان طَوَفانِياً. فالفتاتان مومستان، مومستان بخستان، و قِيرارد هو وكيلهما الفاسق الخسيس – هذا ما دمغ به بول ثلاثتهم مزبداً بالغضب. قال، إثره، إنه قد يُغادر المنزل و أنهم أحرار، بعد ذلك، في تحويله إلى بيت دعارة. ثم استطرد قائلاً إنّ ذلك ليس سوى ما توقعه فقط، فكل المانيكانات داعرات، بل هنَّ داعرات سافلات و شقيقته فاسقة ذاتَ لهبٍ، فهي قد أفسدت أقاثا. أما قِيرارد فقد قال عنه بول إنه وراء كلّ ما جرى.

بكت أقاثا. فقد قِيرارد تماسكه العاطفي. و رغم نداءات اليزابيث المعتدلة المُكَرَّرَة له من أمثال ’ دعه يا قِيرارد، فهو اعتباطيُّ ‘ فإنه أصرَّ على التوضيح لبول أن الشاب اليافع صديقٌ لخاله اسمه ميشيل، و هو أمريكيٌّ غنيٌّ جدّاً. ثم أضاف لذلك التوضيح أنهم قد كانوا، على كلِّ حالٍ، على وشك الخروج بعلاقتهم معه إلى ضوء النهار و تقديمه لبول. في ردِّ فعله على ذلك الكلام صرخ بول محتجاً بأنه سوف لن يوافق مطلقاً على لقاء ’ اليهودي القذر ‘، و أنه سيأتي إلى مكان اللقاء في ميعاده المحدد ليلطمه على وجهه. ’ هذه خسة متناهية ‘ كانت العبارة التي لخصبها الموقف و عيونه تلتمع. ثم استطرد قائلاً :- ’ أنتِ [ و يعني اليزابيث ] تأخذين فتاةً غرة صغيرة معك إلى الخارج فقط لتبيعينها إلى يهودي. أظنُّ أنَّكِ تأملينَ في منهوبٍ كبيرٍ. ’ كلام فارغ، يا رفيقي العزيز ‘، انبرت له اليزابيث، ’ أنتَ، إنني أُطمئنَك، تنبح فوق الشجرة الخطأ. أنا التي هي موضع اهتمام ميشيل. إنه يريد أن يتزوجني، ثم أنني، فوق ذلك، أريده كثيراً ‘.

’ يتزوجك ؟ يتزوّجك ؟ لا شكَّ أنكِ مجنونة. هل نظرتِ في المرآة مؤخراً ؟ هل لا تعرفين أنكِ وحش ؟ هل تعتقدين حقاً أن هنالك من يرغب في أن يتزوجك، أنتِ، أيتها المتفردة في البله ؟ لا ريب في أنّه يستغفلك ‘. هرج بول بكلِّ هذا، ثم انفجر في ضحكةٍ هستيريّةٍ.

قد أدركت اليزابيث تماماً أنه ليس مهماً إطلاقاً لدى بول، كما لديها، كون أن المرء يهودي أم غير يهودي. شعرت بأنها مفعمة بالدّفء و العافية، في الجسد و الروح. فاض قلبها بإفراط حتى بدا و كأنه مستطيع أن يشقَّ الحوائط. كم هي قد انهمكت في التلذذ بضحكته المفتعلة. ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ كم هو معوجاً عبوساً يتراءى فكه الآن. ‍ حقاً أيُّ هزلٍ هذا الذي يحرضه على كلِّ هذا الهياج! ‍‍‍‍‍‍‍

في الصباح التالي شعر بول بأنه قد جعل من نفسه أضحوكة. إن فعله النزق، كما أقرّ لنفسه خفيةً، قد كان فيه مكابرة لا داعي لها. و ناسياً تماماً أنه قد اشتبه في أن للأمريكي تدابيرَ للاحتيالِ على أقاثا فإنه الآن حدث نفسه بأن اليزابيث هي سيدة نفسها و بأنه ليس له أن " يهتم "، ولو قليلاً، بأمر من قد اختارته زوجاً لها. ثم تساءل عما هو الشيء الخطير، على هذه الأرض، الذي دفعه إلى الانطلاق مُنفَكَّاً عن كُلِّ ’ مَقَابِضِهِ ‘.

بعد فتراتٍ من التَّأبِّي ترك بول نفسه، أخيراً، يُستمال إلى الالتقاء بميشيل. كان ميشيل هو نقيض " الحجرة " على كلِّ سبيل. هذا مُثْبَتٌ في أنّ لا محاولة قد اتخذت مطلقاً لتقديمه إليها. إنه يُشَخِّصُ " العالم الخارجيّ ". و حينما يراه المرء فإنه يدرك، منذ اللمحة الأولى، أنه " عالميٌّ " من هذا العالم. و أنَّ كلَّ قَيِّمَاتِهِ مركوزةٌ على هذه الأرض. أما عن نشوته فإن فرصتها الوحيدة معه قد تسنح له حينما يكون جالساً وراء مِقود سيارة هي لآخر صيحة في عالم العربات الرياضية ذات المحركات عالية القوة و سائقاً لها بسرعة مائة ميلاً في الساعة.

أسرت شخصية ميشيل النجم – سينمائية بول الذي سرعان ما وضع مبادئه جانباً و انسجم معها. سكرانينَ بالسرعة ذهبوا كلُّهمو، سائقاً و مسوقِين، عاصفين عبر الريف في كل الساعات ما خلا هاتيك اللاتي كرّسَهُنَّ ميشيل، بالبساطة كلّها، للنوم.

ما انتقصت طقوسهم السرية قامة ميشيل الغائب. فإنه، في تلك الطقوس، كان يُستَحضَر، يُقَدَّس و يُعادُ خلقُهُ كاملاً. أنّى له العلم، حين يقابلهم، في كل مرة ثانيةٍ، أنّ عصائرَ سحرية قد شُرِّبَتْ ثنايا جفونهم، في الليلةِ الماضية، فجعلتهم يُغدقونهُ، بجنونٍ، بولعهم على طريقةِ " تِيتيَانَا " في " حلمة منتصف ليلة صيف ".

- ’ لماذا لا ينبغي لي أن أتزوج ميشيل ؟ ‘
- ’ لماذا لاينبغي لاليزابيث أن تتزوج ميشيل ؟ ‘

هكذا راحت اليزابيث، وراحوا هم، يوغلون في أسئلةٍ مفتتنة بالاحتمال. في المستقبل – ما تصوروا – ستُضمن لهم حجرات منفصلة. فقدوا رؤوسهم و صمموا خططاً شاطحةً في الخيالية لأشكال و وضعيات الغرف التي ستكون – مشاريعاً بيتية لا تقل طموحاً و غرائبية عن تلك التي أسرَّ بها التوأمان السياميان ذائعا الصيت للمقررين الصحفيين.

فقط قيرارد هو الذي ما قوت معدته على هضم اللعبة فانسحب منها بصمتٍ، إذ هو لم يتُق مطلقاً، لا في الماضي ولا الآن، للاقتران ب ’ الكوبرا المقدسة ‘، ’ العذراء المقدسة ‘ ... هكذا إذاً لم يحتَجْ - للأسف – تدنيس المقام المقدس، عند قيرارد، وحمل صاحبته بعيداً عنه إلى شيءٍ سوى شخصية ميلودرامية سينمائية الطابع؛ سوى سائقِ سباقٍ يافعٍ و جاهلٍ ولا غير.



[رسم 4].


مضت الحجرة في سبيلها و قامت تجهيزات الزفاف على قدم وساق. أثناء ذلك ظلَّ توازنها محفوظاً بقدر قيدِ شعرةٍ فمثّلت وضعيّة مهرج يصعد، خلال استراحات عروضه، خطوةً بعدَ خطوةٍ دائخةٍ، كوم الكراسي المُغثي المتراكم أبداً.

الغثيان، الدّوار، شبع الروح الآن أكثر حداقةً على الفم من شبع الطفولة الفيزيائي القديم؛ ذلك الذي ما احتفل معربداً إلا على السُكَّر الحاف – وجبة إحساسٍ لِنَهِمٍ، خليط من سوء الإدارة، الفوضى.

لكن ميشيل ما كانت له أيُّ فكرة عن هذه الأشياء. قد يكون دُهِشَ إذ اكتشف أنه قد ’ التقط ‘ عذراء بكر لتغدو زوجته المختارة. فهو في حبٍّ مع فتاةٍ يافعةٍ فاتنةٍ و يرغب في الزواج منها. بقلبٍ خفيف هو أتى لها ببيته البهيِّ في باريس، عرباته، ثروته و ألقى بكلِّ أولئكَ ’ بين ‘ ( أمام ) قدميها.

لحجرتها الخاصة استقر مزاج اليزابيث على ديكورٍ من عهد لويس السادس عشر، تاركةً ميشيل ليبقى القاطن الوحيد لغرف الاستقبال، غرفة الموسيقى، غرفة الجُّمباز و حوض السباحة، بجانب نوعٍ من " قاعةِ مدينةٍ " ذات نوافذ على مستوى واحدٍ و قمم الأشجار اعتُبِرَتْ، اعتباطاً، غرفة. تلك الغرفة – تجاوزاً – سدّت مَسَدَّ حجرة المعيشة، حجرة البليارد، و الدِّهليز المُسيَّج. قُيِّضَ لأقاثا أن تعيش معهم. أفردت لها اليزابيث جانباً وُحدةً من الحجرات الصغيرة الواقعة فوق حجرتها.

ذرفت أقاثا، سراً، دموعاً مرة إذ تهيَّأ لها الاندثار المرتأى ل" للحجرة " كارثةً شخصيّةً. ما الذي تؤول إليه هي بدون سحرها المُقتَدِر، بدون ’ الليالي ‘ ؟ بلا بول حاضراً دوماً بجانبها ؟ المعجزة قد اعتمدت على التيار المتبادل التَّحوُّل بين الشقيق و الشقيقة، إلا أنه بدا أنَّ لا أحد منهما قد تأثَّرَ بهذا الاندراس التام، هذا الزلزال ؟ هذه ’ القيامة ‘ ؟ [ في الأصل ، بحرف الكبير في المبتدئ لتوحي بمعنى " القيامة " الدّيني السّماويِّ – المترجم ]. إنهما فقط اندمجا في الفعل و ما عادا منشغلين بالتفكير في نتائجه، مباشرةً كانت أم غير مباشرة، بأكثر من انشغال عملٍ دراميٍّ عظيمٍ بحلقات حبكته المفردة المتوالية، واحدةً إثرَ أُخرى، وصولاً إلى اكتمالها في ذروته. كان قيرارد كله تضحية بالذات. أما أقاثا فقد خضعت، باستسلامٍ، لإلى متع بول الجيِّدة.

’ هذا، بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، سوف يُناسبنا جميعاً ‘، قال بول، ’ آنما يذهب خال قيرارد بعيداً سيكون بوسع قيرارد الإقامة في حجرة أقاثا ‘ ( كفُّوا عن أن يُسمّوها " حجرة ماما " ) ’ و بافتراض أن ميشيل قد ذهب إلى الخارج، أو ما إلى ذلك، فإن الفتاتان تستطيعان، ببساطة، العودة إلى هنا ‘. كانت الطريقة التي تحدث بها عنهما مشيراً إليهما ب " الفتاتين " تنبؤ، بوضوحٍ، عن أيِّ عين حلمِ يقظةٍ كان يرى بها ذاك الزواج، و عن كم هي واهيةً كانت قبضته على المستقبل.

حاول ميشيل إقناع بول بالانتقال إلى البيت الجديد و العيش معهم – هو و اليزابيث و اقاثا – هناك. لكن بول كان قد صمم على وجودٍ مُعتَزِلٍ فأبى على ميشيل ذلك. و هكذا انتهى الأمر إلى تولّي ميشيل مطلق المسؤولية المالية عن ’ آلِ‘ و شؤون البيت القديم في الريو مونتمارتر و إبقائه على ماريَيتِي فيه وكيلةً عنه هناك.

كان حفلُ الزفاف قصيراً. و شاهداه كانا زوجاً من أمينين قد عُيِّنَا لغدارة المسائل المرتبطة بالثروة اللاّ مُتَخَيَّلة التي حُظِيَت بها العروس. ما أن تمَّ ذلك حتى قفز ميشيل، معتقداً أنه بذلك سيُعطي اليزابيث و أقاثا فرصةً للاستقرار بالمقام الجديد، في عربة سباقه ناهباً الطريق إلى إِزٍِي حيث سيقضي أسبوعاً يقابل خلاله المهندس الذي كان، آنذاك، يشرف على بناء فيلا له. سوف – كما كان قد قدر الجميع – تبدأ الحياة البيتية الأليفة الجديدة آن عودته من هناك.

لكن عبقريّة " الحجرة " كانت يقظةً. هل لما قُضِيَ أن يُقالَ في كلماتٍ ؟ على الطريق بين بلدتي كان و نيس لاقى ميشيل موته. كانت عربته من ذلك النوع الذي له هياكل منخفضة. أمسكت الريح بوشاحه الطويل، لفذته حول المِقْوَد، و في ثانيةٍ وحشيّةٍ واحدةٍ خنقتهُ به. ترجرجت العربة، تهاوت، اصطدمت مؤخرتها بشجرةٍ فإذا بها ليست شيئاً سوى كومة حطام دار و زنَّ، مبروماً، أحد إطاراتها كعجلةِ روليتٍ ... أبطأَ، فأبطأَ، فأبطأَ تلاشى ذلك في الصمت.

2
شعرت اليزابيث بأنها عاجزةً كلياً عن مواكبة كل لوازم ترملها القانونية المضجرة :- كلَّ ما قُيِّضَ لها أن تعرفه عن الزواج كان سلسلةً من اللقاءات مع محامين، وثائق للإمضاء، ثم مآتمها كأرملة. و رغم أنهما قد حررا من كلِّ مسؤوليَّاتهما المالية إلاّ أنَّ الطبيب و خال قيرارد وجدا عبئهما أكثر ثقلاً و أقلَّ مدعاةً للشكر عما كان قبلاً. ما وخز اليزابيث ضميرها إذ ألقت بكلِّ شيءٍ في عهدتهما. أنفقا كلَّ وقتهما مع التنفيذيين و هما يفرزان الأوراق و يُركِبَان، طبقاً عن طبقٍ، أعمدةً من الأرقام ممثِّلَةً مبالغ لا تُحصى.

قد سبقت الإشارة إلى الغنى الموروث لاليزابيث و بول – غنىً هو كُلِّيٌّ، مطلقٌ بحيثُ أنَّ لا شيءَ على شاكلة أيِّ ثروةٍ إضافيّةٍ أرضيَّةٍ ( دنيوية ) بمستطيعٍ، و لو احتمالياً، أن يُرْبِيه. في ضوء ذلك باتت وراثتهما للثروة التي ورثاها الآن تحصيلَ حاصلٍ. فما أثّرَ فيهم لم يكن ذاك الحدث، بل بعده الدرامي. إنهما قد كانا مغرَمين بميشيل. الآن، بفعل عرسه الغريب و موته المحير، ارتحل ذلك الشاب، الذي هو بلا سرٍّ، إلى أوغلِ المناطقِ في السِّرِّيّة. فالوشاح الذي قفز، مُتَلَوْلِبَاً، ليُوقفَ نَفَسَهُ الفاني قد مسَّ البابَ و رمى به، ميِّتاً، إلى داخل " الحجرة ".

3
برحيل أقاثا فقد بول كلَّ استلذاذه بالعزلة البيتية. فكرةُ أن يعيش بمفرده كان لها وقعها على نفسه في الماضي حينما كان هو و شقيقته يتصارعان و يتنازعان، بجشعٍ، حول أكياس الحلوى؛ ليس الآن حيثُ السِّنون أعطته رغائبَ أكثر عسراً في الإحاطة بها. ما درى ما الذي فقده بالضبط. لكن طعم العزلة، بعد أن كان مشتهىً ذات مرة، أضحى رماداً على لسانه. مستمالاً باليزابيث اهتبل بول فرصة الوضعية السلبية هذه ليغير رأيه و يجعل له منزلاً معها. أفردت له حجرة ميشيل المفصولة عن حجرتها بحمام مفرط السعة. و لأنّ طاقم الخدمة في المنزل، المكون من أربعة أشخاص " ملوَّنين " بما فيهم كبير الطباخين، قد قدم لهم مذكرة تخلٍّ عن الخدمة، ثم غادر آيباً إلى أمريكا فإن مارييتي قد أبدلته بامرأةٍ من مواطنيها في مقاطعة بريتاني. بقي السائق الخاص معهم.

ما أن استقر بول معهم حتى بدأوا في التجاذب نحو، أو التداعي إلى، حجرةِ نومٍ واحدةٍ. شعرت أقاثا بالفزع من بقائها وحيدةً تماماً بالطابق الأعلى ... ما استطاع بول النوم في مرقده ’ ذي القوائم الأربع ‘ ... ذهب خال قيرارد إلى ألمانيا ليتفقد بعض المصانع ... انتقلت أقاثا، في الحال، إلى الطابق الأرضي لتشارك اليزابيث سريرها فيما جرجر بول مفروشاته حثيثاً إلى الأريكة – العرين حيث سَوَّى لنفسه جحراً. أما قيرارد فقد لفَّ نفسه في شرنقة شالات.

لم يكن ما قد جاء ميشيل ليقيم فيه منذ الكارثة – إذاً – سوى ’ هنا ‘، هذا ’ التجريد ‘، هذه " الحجرة " التي طالما، مجانياً، قد تجمعت أو تفرقت. آهٍ، أيتها العذراء المقدسة ! لقد أصاب قيرارد في ظنه ( حدسه ). ليس لاليزابيث أن تكون له، أو لأيِّ رجلٍ آخرٍ في هذا العالم كله. الحبُّ قد جعله رائياً روحياً ( عرافاً ) فعاين الدائرة اللاّ يمكن اختراقها الفاصلة إياها عن الحب الإنساني و التي ما من أحدٍ بمستطيع انتهاك حرمتها، اللهم إلا إن دفع الحياة نفسها ثمناً لذلك. بلى ! فحتى و لو مُكِّنَ للعذراء أن يتمتّع بها ميشيل الحيُّ لما كان له الموت حتى يبيتُ ظافراً بامتلاكِ مقامها المقدّس.

4
سيتذكر القارئ أن أحد ملامح الدار كان دهليزاً سدَّ مسدَّ، لا أكثر و لا أقل، حجرة المطالعة، حجرة المعيشة و حجرة البليارد. إن قُيِّمَ ذاك الدهليز ( الرُّواق ) من الناحية الهندسية فإنه سيبدو تصميماً شاذاً لا يخدم غرضاً مفهوماً و لا يُؤدِّي إلى أيِّ شيءٍ. في ذاك الرُّواق – الحجرة قد مُدَّ شريطٌ من سجّادِ سلالمٍ فوق مفرش البلاط في أحد جانبيه من بدئه حتى منتهاه. في الجانبي الآخر، تحتَ ’ هيكلِ ‘ ضوءٍ كهربائيٍّ رخيص متدلٍّ من السقف، انتصبت مائدةُ غرفةِ معيشةٍ، بضعةُ كراسٍ و عددٍ من أستارٍ قُدَّت من شرائح خشبٍ رقيقةٍ. تفصلُ الأستارُ ما تُسمّى " حجرة المعيشة " عن ما تُسمّى " حجرة المطالعة " حيثُ وُضِعَت أريكةٌ، كرسيٌّ أو كرسيَّان جلديَّان، درجُ كتبٍ دوّار، ثم مصباحٌ، في شكل كرةٍ أرضيّةٍ، كاشفٌ عن طاولةٍ أخرى مستديرةٍ استدارةً عشوائيّةً – طاولة مهندس معماري ذات قوائم – و مزوَّدةٍ بمصباحِ قراءةٍ يُلقي بشعاع الضوء المركزي الوحيد في كلِّ أرجاءِ الحجرة – الرّواق. بُعَيْدَ هذا، و رغم وجود كرسي دوار أو كرسيين، بدا كلُّ المكان فضاءات ضخام فارغةً. ثم تأتي طاولة البليارد الواقفةَ نصباً تذكارياً في انفرادها. هنا و هناك كانت نوافذٌ طوالٌ تُسقطُ خيوطَ ضوءٍ مائلةً على السقف فَتُحَمِّمُ الديكور في ألقٍ قمريٍّ وهميٍّ. كلُّ ذلك أضفى على الحجرة – الرواق صورةَ خشبة مسرحٍ هُيِّئت لسماع صوت نافذةٍ ذات بُروازٍ دُفِعَ مصراعاها، بحذرٍ، إلى الأعلى؛ للدَّوِيِّ المكتومِ لقفزةٍ متلصِّصَةٍ؛ لوميضِ شرارةِ مِشْعَلٍ في الظَّلامْ.

الصمتُ و اللَّمعانُ الطيفيُّ استدعى غرفةَ جلوسِ الريو مونتمارتر القديمة المعلّقة، بهشاشةٍ، في قفصٍ من ضوءٍ جليديٍّ؛ بل هو استوحى للمرءِ، بتملُّصٍ، حتى مرأى ال" سايتَي مونزايارس " المتقلص المقيد بالجليد آن كانت المعركة على وشك البدء. هنالك ذاتُ إحساس الانعزال، التوقّع، و أيضاً هناك، في النوافذ العالية، مُمَاثَلَةٌ مراوغةٌ و ضعيفةٌ لتلك الحوائط المُصفَرَّة.

الحجرة ( الرُّواق ) بدت، في مجملها، خُلاصةً لأحد أولئك الانحرافات التصورية أو أخطاء الحسابات التي يمكن مقارنتها بحذف مطبخٍ أو مُدَرَّجِ سلالمٍ – مثلاً – في تصميم المهندس المعماريِّ المفصّلِ الأصليِّ.

قد أعاد ميشيل بناء المنزل. لكن مشكلة مواءمة " هذا " الزقاق، الذي بدا أنه كامنٌ في منتهى كلِّ منحنىً، مع بقية التصميم قد استمرت في الاستعصاء عليه. هذا الفشل، على كلٍّ، كان فرصته الإنسانية. ‘نه يؤشِّر إلى النقطة التي تنصاعُ فيها الكفاءةُ الآليّةُ للحياةِ نفسها. هنا، في هذا الزقاق الغالب لكلِّ حيلةٍ معماريةٍ، في هيئةٍ تكادُ، لانحصارها، تفقدُ أيَّ مُتَنَفَّسٍ، و في وجه غلواء بغي الحجر الذي لا حياةَ فيه و المعدن، وقفت الحياةُ على حيادٍ. إنها قد هربت من ذاكَ البغي و اتَّخذت لها حرماً في هذا الشَّرخ الوسيع فجلست فيه القرفصاء مثل أميرة شريدة متوترةَ الروح تُغالبُ، جاهدةً، مكر مطارديها.

محلياً، لم يكن المنزل فاقداً لمن يُعجَبون به. ’ إنك لن تستطيع أن تُسمّيه تفاخُرياً، على أيّةِ حال ‘. هكذا كانوا يقولون. ثم يردفون :- ’ إنه لا بهرجَ فيه. و هذا يُنبئُ ’ شيئاً ‘ عن شابٍّ غنيٍّ غنى كُرَوْيسَسْ. أما عن رفاقه الريفيين، الذين ما كانوا بمنبهرينَ بأيِّ شيءٍ في ذاكَ البيت، فهم، مثلهم مثل ميشيل المسكين، ليس لديهم أدنى فكرة عما كم هو أمريكيٌّ في جوهره. أفضلَ من أيِّ بيوتٍ لها تركيبات مرمرية مترفة و مصوغات حديدٍ مزخرفة يستدعي البيت إياه – في جوهره الحرِّ من البهرجة – نيويورك – الديانات الغريبة الهيئة، كالثِّيوصوفيّة، حركة ’ العلم ‘ المسيحي، كِلُو – كُلُكْسْ – كِلانْ؛ نيويورك المواهب المجنونة، الوارثات غريبات الأطوار، متعهِّدي الدّفن، الجلسات الروحية، عالم إدقار ألان بو السحري. كما و أنه يوحي أيضاً بمنظر غرفة انتظار ما في مستشفى أمراضٍ عقليّةٍ، أو بمرأى دكةٍ أُعدّت لتَشَخُّصِ أرواحٍ راحلةٍ و مُقَدِّمَةٍ – بذاكَ التَّشَخُّص – ’ تقريراً ‘ عن تلاشيها عن دنيانا هذى.

بجانب هذا، لا يخلو الرواق من إيماءةٍ، في هيئته، إلى الذوق اليهودي الباروني [ من " بارون " – المترجم ] المائل لما هو زاهٍ و مُزَوَّق – إلى ذلك النوع من الكاتدرائيات القبطية التي لها سقوف مائلة أسفلاً، ذات الطوابق الأربعين الصاعدة حيثُ النساءُ الصَّواحبُ يذرعن صحونها – الكاتدرائيات – جيئةً و ذهابا، يحرقن الشموع و يلعبن على الأَوْرْقَن. فالطلب على الشموع أكبر في نيويورك منه في لَوْغْدَيْهْ، أو حتى روما ذاتها أو، إن شئنا تعميم الأمر، أي مدينة مقدسة في العالم.

صُمِّمَ هذا الرواق لإفزاع الأطفال اللذين، آن استيقاظهم، يصغون إلى صرير ظلمته، و من ثمَّ لا يجرؤون على اجتياز ممرّاتٍ معينةٍ فيه. فهذا الرواق، هذا الوحش الحوشيّ الخِلقة، هذه الحجرة – سقط المتاع قد كانت عذوبة ميشيل، عِرْقَ شِعْرِهِ، كعبَ أخِيلَهُ [ من " أَخِيل " – المترجم ]. إنها واشيةٌ بخاصيةٍ لازمةٍ لطبيعته، بشيءٍ مغروزٍ في سجيته و ليس مستعاراً من الطفلين، مما يجعله جديراً بهما معاً. أهليّتُهُ، التي قد عرفاها، لأن يُنتَخَبَ ل" الحجرة "، زواجه و مصيره المأساوي قد أُبينا هنا بنبُوئيَّةٍ. هنا تكمن إجابةُ ما قد بدا ملتبساً :- قد اختارته اليزابيث، لا لثروته، لا لطباعه الحركية الحيوانية، لا لحُلَلِهِ الحسنة التفصيل، و لا حتى لجاذبيته الجنسية، بل لموته هي قد اختارته.

كان من طبيعة الحال للطفلين، في بعثرتهما للبيت تنقيباً عساهما يجدا " حجرتهما " التي كانت مرةً أخرى، أن يُسقِطَا الرواق سهواً. قُدَّام و وراءَ هما طوّفا بين حجرتيهما، كروحين معذّبين. ما عادت لياليهما شفَّافةً. ما باتت طيفُ ضوءٍ يتلاشى عند صياح الديك، بل شبحاً مضطرباً متفكّراً حائماً فوقهما. و إذ هما، أخيراً، حازا على حجرتيهما المنفصلتين أضحيا مُصمِّمَين على التشبُّثِ بهما، و من ثم هما إما حبسا نفسيهما فيهما و انكفآ عليهما، أو راحا يتنقلان، بعنادٍ، من حجرةٍ إلى أخرى، زامَّيَّ الشفاه و خناجرَ في عيونهما.

إنهما قد عرفا، نصفَ خائفين أنَّ الرواق غدا مغنياً لهما في صوتِ جِنِّيٍّ. وقفا على عتبته متردِّدَين، مُصغِيَيْن و آخذَيْنَ زاداً. من أحد مميزات الرواق – الحجرة اللافتة – و التي ليس بأقلَّ جاذبيّةً من سواها من مميزاتها – كان شبهها بسفينةٍ راسيةٍ و مربوطةٍ بسلسلةٍ واحدةٍ، متراقصةٍ بحرِّيَّةٍ.

ما أن يخرج المرء من ذلك الرواق – الحجرة حتى يجد أنَّ من المستحيل تماماً عليه تحديد المواقع. فهو – كما يبدو – ما عاد خارجاً من هناك إلا ليُجابه بأنّ كلَّ حجرةٍ أخرى قد انتقلت من موقعها الأصلي. دليله الوحيد في هذا الاختلاط، و ذاكَ واهٍ، ليس إلاّ صوتُ غسيلِ أوانٍ واهنٍ آتٍ من المطبخ.

و كلُّ هذا قد جُمِعَ معاً لينسج تعويذةً، ليستدعي السحر الناعس لعطلات الطفولة القديمة في فنادق سويسرية حين، سكراناً بإثارةِ ركوبِ مركبةِ التّزحلُق على الجبال، يتكئُ المرءُ مسترخياً و محدِّقاً خالصاً و أسفلاً إلى العالم جميعه، و إلى جرف الجليد المقابل – قصرٍ مصنوعٍ من الكريستال، دانياً جداً، دانياً جدّاً ... ( إن كان لكَ أن تنحني – أن تمُدَّ يدكَ خارجاً – فإنّكَ تكادُ تكون لامِسَه ).

دقت الساعة لميشيل ليصير دليلهما، ليلتقط الصولجان الذّهبيَّ، ليترسَّم السّبيل، عبرَ كلِّ الحدود، قائداً لهما إلى المكان المصيريِّ.

5
ذات ليلةٍ، حينما – كالعادة – قوومت بحرونٍ كلُّ محاولات اليزابيث الملحة لمنع بول من الذهاب إلى النوم، قفز بول فجأةً، صفق الباب وراءه، ثم انفلت مسرعاً إلى الرواق. و رغم أنه، بطبيعته، مفتقرٌ إلى قوى الملاحظة إلا أنه منفتحٌ على انبثاقاتٍ يعرف كيف يُطوّعها غريزياً و يُحوِّلُها إلى معيناتٍ على هدفه.

ما أن طُوِىَ في هاتيك المرائي المراوغة، هاتيك اللوحات المتبدلة من الضوء و الظلام؛ ما أن وقع في شرك نُثارةِ هذا الفلم المتهالكة حتى صار قطاً محترساً يقظ الحواس جميعها. بدأت عيناه تلمعان. مضى، هنا و هناك، مكتوم الخطى، واقفاً حيناً، مُتَشَمِّمَاً، ليس مدركاً، بوعيٍ، لتعرُّفٍ ما، غير مستطيع أن يستبين الصور المزدوجة – ال" السايتَي مونزَايَارَاس " المخبأ في الحجرة؛ بلاط الجليد تحت صمت منتصف الليلة هذى – لكن شاعراً، خلل أعصابه كلّها، بالقشعريراتِ التحتية لحياةٍ مدفونةٍ.

جلس بول ليتفحص غرفة المطالعة. نهض مرّةً أخرى. جرجرَ بعضَ ستاراتٍ إليه، لَّمهُنَّ حول كرسيه ذي الذراعين ليجعلهُنَّ مركبةً. رقد أسفلاً. وضع قدميه عالياً. ثم ثنى نفسه، بتجَمُّلٍ، متهيئاً ل" اللُّعبة ". لكن سفينته ذات الثلاث صوارٍ قد جرت على فيضانٍ مُعتَمٍ و تركتهُ على الشَّطِّ. غدا بول مضطرب الفكر. لقد جُرِحَ كبرياؤهُ. فانتقامه من دارقيلوس المتخفّي في هيئة فتاةٍ يافعةٍ قد بات ضربةَ لازبٍ يائسةً :- إنه الآن في عبودية لأقاثا. و بدلاً عن الإقرار بأنه قد أحبّها، بأنَّ طبيعتها الوديعة هي التي طوّعتهُ لها، بأنه ينبغي عليه الاستسلام لها، انبرى منهمكاً في صراعٍ شرسٍ لنفض هذا ’ الكابوس ‘ عنه – فهو قد رآها كذلك – و تجنُّب هذا القضاء الشّرير.

لكي يُفرغ المرء محتويات برميلٍ في برميلٍ آخرٍ خلال امتداد أنبوبٍ مطَّاطيٍّ عليه أن يُمارس عمليةً بسيطةً واحدةً :- إدارةَ سدَّادة.

في اليوم التالي شرع بول في بناء ما يُشبه كوخاً بدائياً لنفسه، بلبا سقفٍ و بستائرٍ حاجزةٍ و مُثَلَّث حوائط، ثمَّ أقامَ هناك. في غرابةِ هيئته الخارجية و في فوضاه الداخلية معاً بدا هذا الحوش اللافت مُصمَّمَاً، بتكاملٍ، ليناسب الوجه اللاّ أرضيَّ للرواق – الحجرة. جلب بول إليه كتباً، صناديقَ فارغةً، خزانةً، و تمثال جبسٍ نصفيٍّ ليؤثثه. بدأ غسيله القذر يتراكم في المكان. كان المنظر منعكساً في مرآةٍ ضخمةٍ. بُدِّلَ ذو الذراعين بسرير معسكراتٍ. اعتَلَت قطعةُ النسيج الصوفيّ مصباح القراءة.

بدأ الأمر باليزابيث و أقاثا وهم يقومون بزيارات رسميّةٍٍ له. لكن، بما أنهم، حالياً، غير مستطيعين مقاومة التعويذة السحريّة لهذا السّهل البرّيّ المفروش هاجروا، في جَسَدٍٍ، إليه على عُقبَى بول.

بدأت الحياة مرةً أخرى. نصبوا معسكراً. كانت شعاعات القمر و الظلال أصحابهما.

في آخرِ أسبوعٍ ما، سدَّت قواريرُ الثَّيرموسات مسدَّ " مقهى شارلس ". ثم مُدّت الستائر الحاجزة لتُشكّل حجرةً واحدةً – جزيرةً صحراويّةً في بحرٍ من فرشِ الكتّان.

كان إحساسُ المضايقة الناجم عن تفرّق حجرتيهما قد دفع بول و اليزابيث إلى أن يستسلما إلى مرحٍ سقيمٍ حامضٍ. عزت أقاثا و عزا قيرارد هذا التغيّر المزعج الذي حدث في مناخ علاقة اليزابيث – بول إلى حضورهما الأجنبيِّ. هذا جعلهما يشعران بأنهما غير مرغوبين؛ تقاربا أكثر و شرعا في الخروج معاً إلى مشاويرهما. ثمةُ ’ علَّةٍ ‘ مشتركةٍ قد شكّلت القاعدة الراسخة لصداقتهما. فأقاثا قد عبدت بول، فيما عبد قيرارد اليزابيث. لم يجرآ على البوح بحبَّيْهِما فعانياهما صامتين. بخشوع هما قد وقفا أمام مذبح مزدوجٍ، فأقاثا قد وقفت في حضرة الفتى المكتسي بالجليد، و قيرارد قد وقف في حضرة ’ العذراء الحديديّة ‘ رافعاً نحوها عيوناً وَلِهة.

ما خطر قط بباليهما أن يطمحا إلى أكثر من أريحيّةٍ مُبهمةٍ في مقابل ذينك الحبَّين. تعجّبا من السّماح الذي مُنِحاه. و إذ هما خائفَين من الظَّنِّ بدوامه أو الفشل في التعامل معه بلباقة و احتراس انسحبا، بمثابرةٍ، من الدائرة اللطيفة، في كلِّ سانحةٍ.

دأبت اليزابيث على نسيان أنَّ لها سيارات عدة تحت خدمتها. لذا شعر سائقها الخاص بأنه ملزمٌ بوكز ذاكرتها. ذاتَ ليلةٍ، حينما ذهبت في جولةٍ، بإحدى تلك السيارات، مع قيرارد و أقاثا تاركينَ بول منغلقاً في جُبِّه الذي اختاره بنفسه، تعثّر بول، فجأةً، بالحقيقة :- إنه واقعٌ في الحبِّ.

إن رأسه لفي دوامة. فهو قد كان محدِّقاً في الصورة الفوتوغرافية، في النسخة المزورة من أقاثا، حينما وقع الاكتشاف عليه كالصاعقة. انزاحت القشور عن عينيه. إنه كامرئٍ رأى فجأةً، إثرَ تأمُّلٍ طويلٍ في نسجِ حروفِ اسمٍ ما، الحروف و هي تبرز بوضوح في هيئةِ ما بدا سابقاً ليس إلا رسماً خالياً من المعنى.

كانت الستائر مثقلةً بكل مقتنياته القديمة التي جمعها في " الريو مونتمارتر " و علقها عليها بذات الطريقة المتّبعة في حجرة لباس ممثّلٍ. حالاً، كمستنقعٍ صينيٍّ مُرصَّعٍ بلوتس ينفجرُ، بعشقٍ، زهراً عند الفجر، نشَّرت الستائر كلَّ وجوهها العديدة. طالعةً من التعدّد – هنا خلال ملامح رجل عصابات؛ هناك خلال ملامح ممثلة – اتخذت الصيغة الأوّليّة شكلاً. في الأول ارتسمت – تلك الصيغة – لبول لقطة عامة لدارقيلوس و هو يجوب خلال مزيجِ عتمةِ و وميض الشوارع العابرةِ مُركِّزَةً، في ذلك، على الستائر المتقصّفة، ثم تبلورت، أخيراً، في هيئةِ أقاثا. كم كانت هنالك من تصميماتٍ حساسةٍ؛ من تخطيطاتٍ خشنةٍ لوجه الحبِّ قبل تمام اللوحة الأخيرة ! ما تخيّل بول نفسه، قبلاً، إلا على أنه مأسور بمشابهةٍ عارضةٍ بين صبيِّ مدرسةٍ و فتاةٍ. لكنه الآن عرف بأيِّ قصديَّةٍ يلتقط ُ
’ القدر ‘ [ في الأصل ، بحرف الكبير في المبتدئ. ينبغي أن أشيرَ هنا إلى أن السياق يتعامل مع هذه الكلمة كاسمٍ مؤنّثٍ مشخّص موحياً، بذلك، باستعماله لها بالمعنى الإغريقيِّ حين كانت ل’ القَدَر‘ إلهةٌ خاصّةٌ به و مُسَمَّيَةٌ باسمه ]، أولاً، سلاحه، يرفعه، يُصوّبه ... ثم يجد القلب. فالآن ليس هنالك من ريبٍ لديه في أنَّ له انجذابٌ سرِّيٌّ نحو نوعٍ من النِّساء :- القدر، و القدر وحده، قد اصطفى أقاثا من بين جميع فتيات العالم كي تصبح صاحبةً لاليزابيث. من يدري ؟ لعلَّ العقدة الأولى لهذا الأمر قد عُقِدَت في ذلك المطبخ الكالح و بقرب موقد الغاز المميت.

تعجَّبَ بول من واقعة تلاقيه و أقاثا. لكن استبصاره المفاجئ كان مقتصراً على مجالٍ واحدٍ
مُفرَدٍ :- مجال الحبِّ. إن ما كان الأمر كذلك فهو قد كان حريّاً بأن يحلَّ به، حلولاً تامّاً، عجبٌ آخرٌ أعظمَ من هذا. ذلك هو، بالاسم، عجبهُ من الإلهة – القدر حائكةَ الأمراس و الخيوط التي هي، لا محالةَ، ناشطةً إذ تُمسكُ، بين ركبتيها، وسادة حياتنا و تحشوها بالدبابيس.

بلا أيِّ موطئٍ صلدٍ واحدٍ تحتَ قدميه، تائه الخُطى في غرفته، حلم بول بالحبِّ. لزمنٍ ظلّت أقاثا فيه هيئةً مجرّدةً، غيرَ مجسَّدَةٍ، فيما هو مُفرَدَاً في نشوته. و إذ نظر الآن إلى المرآة هاله أن يرى أنّ كلَّ التوتُّر الذي كان قد زال عن وجهه فاستحيى من حماقةِ ماضيه و قناعها الحرود. إنه قد كان راغباً في مبادلة الشِّر بالشرِّ. الآن، بكيفيّةٍ ما، صار الشّرُّ خيره. عليه فهو لن يُضَيِّعَ، الآن، لحظةً أخرى دون أن يُبادل خيراً بخيرٍ. هل سينجح في ذلك ؟ لقد كان مُحِبَّاً؛ هذا لا يستتيع أنه قد أحبَّ أو أنّه، أبداً، قد يُحبُّ.

ما حلم قط أن أقاثا ستكنُّ له احتراماً عميقاً. ليس هذا فحسب، بل هو أيضاً أخطأ في تقديرِ شعورها حين ظنّه نفوراً منه. شعوره هو كان عاطفةً إيجابيّةً لا تُشبه إطلاقاً تلك المقاومة العنيدة المتقنّعة بقناع استقلالٍ نشط و التي هي، حتى حينذاك، استثارتها فيه. إنه كان غزواً كليّاً لكينونته؛ جوعاً قارصاً ليس بمستطاعٍ له أن يُسَكَّنَ – شيئاً يستعجلُهُ بلا انقطاعٍ، حاضَّاً له على اتّخاذِ فعلٍ ما ... لكن أيّ فعلٍ ؟ لن يجرأ أبداً على التصريح بحبّهِ. ثم أنَّ الفرصة لذلك قد لا تأتي أبداً. فنمط عقيدتهما – بانشقاقاتها، تماماً كما و بمبادئها المشتركة – يجعل من المستحيل قطعياً عليهما أن يتصرّفا كمحبّين خاصّين. فطريقةُ حياتهما العامة معاً ما كانت لتسمح إلا بالقليل من التواصل الخاص و العيني. ذلك إلى حدِّ أنه حتى و لو استطاع أن يحمل نفسه على البوحِ بذاكَ الحبِّ فإنَّها ما كانت ستتعامل مع ذلك البوحِ تعاملاً جذريّاً.

بدا لبول أنّ رسالةً منه لأقاثا قد تُمثّل الحلَّ الأفضل للمسألة. فالإلهةُ – القدر قد ألقت بفقَّاعةٍ فاهتزَّ الغديرُ الهادئ. الآن هو قد يُلقِي، باتل تبصُّرٍ، فقّاعةً أخرى هناك – قد يجعلها تسقط، بعشوائيّةٍ، في ذاتِ الغديرِ. قد يُسقِط رسالته ( تسليماً خاصّاً ) في الفراغ تاركاً لها لحظِّها. قد تهبط الرسالة، سرِّيَّاً، تحت قدمي أقاثا؛ أو تنزلُ إليها ضاجَّةً تحتَ سمعها و بصرها. في كلا الحالتين ستأتي البقيّةُ، منطِقِيَّاً.

لكي يكتُبَ هذه الرسالةَ سيُخفِي بول، خلال المساء، توفُّز انفعاله و يتظاهر بالارتداد إلى نوباتٍ من العبوسِ فيحفظ، بهذا، ماءَ وجهه، كما و يُحقِّق الخُصوصيّة الضَّروريّة لإنشائها.

6
كان لحاصل استراتيجية بول هذه أن يُغيظ اليزابيث و يُفتِر تماماً حماس أقاثا المسكينة لما بينها و بينه. فهي – أقاثا – قد خشِيَتْ من أنَّ بول قد انقلبَ ضدَّها، و من أنه متجنِّبها عمداً. في اليوم التالي أعلنت أنها مريضة فآبت إلى فراشها، ثم رفضت الظهور عند المائدة حين آن أوان وجبة المساء.

تعشت اليزابيث، وهي في روعٍ، وجهاً لوجه مع قيرارد. ثم صرفته إثرَ ذلك بعد أن زوَّدته بتعليماتٍ بأن يدخل إلى غرفة بول بأيِّ ثمنٍ، ثم يعمل على إجباره على الخروج منها تماماً. في أثناء ذلك ستعتني هي بأقاثا.

وجدت اليزابيث أقاثا طريحةَ الفراش، في فيوضٍ من الدموع و رأسها دفينٌ في الوسادة بينما بدا وجهها خَسِفاً. ثمة روح قلقة في المجال، ليس لها وجه حتى الحين، لكنها أحسّت وعيدها في بعضِ ثنيةٍ غافيةٍ من روحها؛ أحسّت سراً ما، لا مُسمَّىً بعد، لكنها قادرةٌ على الإمساك به فباتت شاغلةً نفسها بفضولٍ قلٍقٍ. و إذ هي آخذةٌ للمخلوقةِ التعيسةِ بين ذراعيها شرعت في هزهزتها على صدرها مُفسحةً لها سبيلاً للإفضاء بمكنونات قلبها.

’ أنا أُحبُّه؛ أنا مغرمةٌ به ‘، نشجت أقاثا، ’ إنه لا يُعرني دقّةَ قلبٍ واحدةً ‘. ’ إذاً ’ هي ‘ عاشقةٌ ... عاشقةٌ، بالطبع، لقيرارد ‘. قالت اليزابيث هذا لنفسها و ابتسمت.

’ أيُّتها الفتاة الحمقاء ‘، قالت اليزابيث لأقاثا، ’ ما الذي يجعلك تفكرين بأنه لا يُعركِ دقةَ قلبٍ واحدةً ؟ هل أخبركِ بذلك ؟ طبعاً لا. حسناً جداً إذاً أنه لا يعرف كم هو محظوظ، ذلك الجحش الأحمق ! إن تُريديه فعليكِ بأن تتزوّجيه. سوف يتعيّن عليه، في تلك الحال، أن يتزوّجك ‘.

مطمئنّةً، ملطّفة الخاطر و مخدّرةً بهذه النتيجة غير المحلوم بها، ببساطة قبول اليزابيث لأمرٍ توقعت منها إزاءه، على أفضل تقدير، هُزءاً و سخرية، تمتمت أقاثا و وجهها متّكئٌ على حضن اليزابيث الأخويّ الفاهم :-
- ’ لِزِي، أنتِ ملاك، لكنني متأكّدة من أنه لا يحبُّني ‘.
- ’ ما الذي يجعلك متأكدةً هكذا ؟ ‘
- ’ إنه لن يستطيع؛ لا يُمكِنُهُ ذلك ‘.
- ’ إنَّ قِيرارد خجولٌ جداً، كما تعلمين ‘.

مضت اليزابيث قائلةً و هي ما زالت مبتلّةً بدموع أقاثا، ما زالت مهزهِزَةً لها و مُسريةً عنها، حينما جلست أقاثا، على حين غرّة، جلسةً منتصبةَ الاستقامة :-
_ ’ لكن ... لِزِي ... أنا ما عنيت قيرارد. قد عنيت بول ! ‘

نهضت اليزابيث على قدميها.

- ’ غُفرانَكِ ‘، تلجلجت أقاثا، ’ أرجو غُفرا... ‘

محدّقةً أمامها و ذراعيها مرخيتين على طول جانبيها رجعت إليها اليزابيث مرةً أخرى و هي شاعرةً بنفسها و قد بدأ كعباها في الترنُّحِ، في التَّعَثُّرِ. و كما حدث مرةً أن صارت أمها، أمام عينيها، امرأةً غير معروفة، ميّتةً نَكِرَةً، كذلك الآن هي قد وُوجهت بقناع الخيانة عينه بدلاً عن وجه أقاثا المعروف و الملطَّخ بالدّموع :- هنالكَ لصٌّ في المنزل.

لكنها – أي اليزابيث – يجب أن تُسيطر على نفسها. يجب أن تعلم بكلِّ شيءٍ عن الأمر. لذا هي عادت و جلست على السرير.

’ بول ! لقد أذهلتِني. ما كانت لديَّ فكرةٌ مطلقاً ... ‘ قالت اليزابيث، ثم أضافت، في نغماتٍ عسَلِيَّاتٍ :- ’ حسناً، كم ذلك غير عادي ! ... إنه يبدو مُخَالِفَاً ... إنه مُذهلِلٌ ... اخبريني بكلِّ شيءٍ عنه ‘.

مرةً أخرى شرعت اليزابيث في استرضائها و تهدئة خواطرها، آملةً أن تُوقِع بها في شرك بعض اعترافاتٍ تخرجُ بها الأمور الخافية، سرباً سِرباً، إلى النور.

جففت أقاثا عينيها. نفخت بأنفها. ما كانت هذه إلا مستعدّةً كلياً لتدع نفسها تُهَدْهَد، مرةً أخرى، نحو الأمان. فُتحت بوّابةُ الفيضان فغدت اليزابيث مستقبلةً لآمالٍ و أشواقٍ أكثرَ حتى من ذاك الذي ما جرأت الفتاة المريضة بالحبِّ على الجّهرِ به لنفسها باطنياً.

ممسكةً بأقاثا بشدةٍ تجاه عنقها و كتفها أصغت شقيقة بول لصوت الحب، لصوتِ حبٍّ غريرٍ و لا محدودٍ، و لئن رأت المتحدثة، قريباً جداً فوقها، فوق تمسيد اليد الأوتوماتيكي لشعرها، وجه العدل الصّلد ( الماسّيّ ) المنحوت هذا لكانت قد صُعِقَتْ خرساً.

نهضت اليزابيث و قالت، بابتسامةٍ :- ’ اصغِ إليَّ الآن. فقط استرخي. لا تنزعجي. هذا أمرٌ بسيطٌ تماماً. سأتحدث مع بول ‘ ... ’ لا، لا ‘، صاحت أقاثا و هي تحدق في فزعٍ إلى الأعلى، ’ لا ينبغي أبداً لبول أن يُخمّن هذا ! أستحلفكِ بالله أن تعديني بألآّ تنبُسي له ببنتِ شفةٍ ... ‘ قالت اليزابيث في ردها على ذلك :- ’ قِرِّي عيناً، حبيبتي، قِرِّي عيناً. أنتِ في حبٍّ مع بول. إن هو قد بادلكِ الحبَّ فكلُّ شيءٍ سيكون على ما يُرام. أنا لن أشي بكِ إليه و أعدكِ بذلك. أنا فقط سأتحسّس أمره بطريقةٍ عارضةٍ و سأطَّلعُ على ما به قريباً. أنتِ تدرينَ أنَّكِ تستطيعين الوثوق بي. اذهبِي لتنامي الآن. لا تُغادري حجرتك ‘. نزلت اليزابيث مقدار مدرّج سُلَّمٍ واحدٍ. كانت تلبس رداء استحمام مشدود حول خصرها بربطةِ عنقٍ. كان طويلاً و مُعرقِلاً لسيرها. لكنها كانت تمشي، ليس بمحض اختيارها الخاص، بل و كأنها مسيّرةً ميكانيكياً و من ثمَّ مجبرةً على الالتفات يساراً، يميناً، على فتح الأبواب و إغلاقها بدقّة دون أن يؤدّي أيٌّ من ذلك إلى تعثُّرِ طرفِ رداء استحمامها بنعليها المتحركين. شعرت بأنها أصبحت إنساناً مضبوطاً على أداء إيماءاتٍ معيّنةٍ بحيثُ لو أنّه حيدَ عن مساراتها سيتساقط قطعةً فقطعةً. قلبُها كان يكزُها بالضّربات، ثقيلةً، رتيبةً قُبالةَ ضلوعها كفأسٍ نازلةٍ على خشبٍ. كان هنالك غناءٌ في أذنيها؛ لم يُجِبْ مخّها بأيِّ صدىً لزحفها الأماميِّ السّريع. الأحلام ترتجع أصواتها، أحياناً، مع وقع الخطى اللاّ عقل لها و الهادفة – مع ذلك – كخطاها. فالأحلامُ تهبنا مشيةً أخفَّ من الطّيران المجَنَّح، خطوةً قادرةً على الجّمعِ بين ثقل تمثال الرخام اللاّ عضوي و الحرية التّحت – مائية لغاطسٍ في بحرٍ عميقٍ.


[رسم 5].

خاويةً، باهتةَ الروح، خفيفةً، تقدمت اليزابيث عبر الممر و لباسها الأبيض يتموّج حول رسغى قدميها فيبدو طافياً بها قُدُمَاً كسحابةٍ :- أحدُ أولئك السحب ذوات الوسائد السحابية المزبدة و اللاتي أنشأهُنَّ الرسّامون البدائيون كي يُحَمِّلُوهُنَّ بعضَ ’ كينونة‘ [ في الأصل ، بحرف الكبير في المبتدئ ، مما يؤشر إلى أن المراد بها هو " الكينونة " في كلّيتها و ليس مجرد كينونة أو ( كينونات) الكائنات المفردة – المترجم ] النظام الملائكي. فقط دندنةٌ واهنةٌ ثابرت على التردد في رأسها. أما صدرها فما عاد به شيءٌ سوى فأسٍ تُطرقِعُ خارجاً ضرباته الفانية.

منذ آنذاك و بعده ما كان لاليزابيث أن تنظر أبداً إلى الخلف. فعبقرية " الحجرة " قد أنبأتها تماماً بمقاصدها منها. إنّها قد كانت متَمَلَّكَةً بها كرجال الفعل – كقباطين البحر، مثلاً، أو الماليين – الذين هم، في لحظات الضرورة القصوى، قد يصبحون فجأةً مُتَمَلَّكِينَ بروحٍ ما فيعرفون، إلهامياً، أيَّ فعلٍ، أيَّ كلمةٍ، أيَّ إيماءةٍ ستُنقذ سفنهم من الصخور، أو حظوظهم من الفقد؛ أو كمجرمٍ يبرقُ له، في وميضِ حدسٍ خاطفٍ للبصر، البرهانُ الجَّلِيُّ و الدّليلُ الموقنُ من أنه سيُنجِيه من حبل المشنقة.

ساقتها قدماها إلى قعر السُّلَّم المدرّج الصغير المؤدّي إلى الرُّواق، ظهر لها قيرارد قرب مدخله ذي الباب.

- ’ كنتُ أبحثُ عنكِ ‘، قال لها،’فبول الآن في حالةٍ جدَّ غير مألوفة. قد سألني أن ائتِهِ بكِ. كيف حال العليلة ؟ ‘
- ’ قد واتاها صداعٌ مُمِضٌّ. إنها تُحاولُ أن تنام و لا تُريدُ أن تُزعجَ ‘.
- ’ إنني فقط سأتفقدها ‘.
- ’ لا تفعل. إنها يجب أن يُبقى عليها هادئةً. اذهبْ إلى حجرتي. أنا ذاهبةً لأرى بول ‘.

مطمئنةً إلى معرفتها بطاعة قيرارد المطلقة لها، صرفت اليزابيث الأخير و تقدّمت إلى داخل الرواق – الحجرة. للحظةٍ واحدةٍ نفضت اليزابيث العجوز عنها مسوحها الشمعية الكفنية و تمثلت في نفسها الصورة الغير أصلية الماثلة أمامها لضوء قمرٍ متذكّرٍ، لجليدٍ مُتَذَكَّرٍ، لوميض مفرش كتّانٍ. ثم تمثّلت، بعد، الأشكال الظِّلِّيّة للأثاث منعكسةً على سطحه المصقول. و في المركز، وراء متاريسه العالية النحيفة، تهيَّأ لاليزابيث، أخيراً، الفناء المقدس للمدينة الصينيّة.

مشت اليزابيث حول كلِّ تلك المتاريس. أزاحت جانباً لوحاً عن الستائر فوجدت بول جالساً على البلاط و رأسه و يديه مرتميين على كومة خرق :- كان يُبكي. ما كانت دموعه كدموعِ أقاثا. كما و ما كنَّ أيضاً كهاتيك الدموع اللواتي ذرفهُنَّ مرةً على صداقةٍ تحطَّمت. واحدةً إثر الأخرى كنَّ يتشكّلنَ بين جفنيه، فائضاتٍ، مالئاتٍ حافَّتيهما، مندلقاتٍ على خديه، مجتمعاتٍ على قرب ركن شفته، ثم نازلاتٍ، مرةً أخرى، ببطءٍ، قطرةً ثقيلةً إثرَ أخرى. لا بد أن آثار رسالته قد كانت عنيفة. فالخطابُ ما كان بمستطاعه أن يفشل في الوصول إلى أقاثا. هذا الخواء، هذا التأجيل كان قاتله. ليس بمقدوره بعد أن يتحمّل كَبَد ضبط النّفس و الصّمت. عليه، بأيِّ ثمنٍ، أن يعرف، أن يَسْلَم من اللاّ يقين؛ عليه أن يسأل اليزابيث عمّا جرى. فهي قد أتت اللحظة من عند أقاثا.

- ’ أيُّ رسالة ؟ ‘ كان ذلك ردُّ فعل اليزابيث المنطوق على تساؤله.

إن لم تكن قد أنذِرت مسبقاً فإنها كانت ستكون استفزازية معه. حينذاك كانت قد تندلع مباراة ملاسنة قذعة قد تسفر فيها اليزابيث تماماً عن وجهها الحقيقيِّ فيما هو، بول، قد يمسك لسانه. لكن، بدلاً عن غريمٍ لاذع الكلام، وجد بول نفسه في مواجهةِ قاضٍ – قاضٍ رحيم – فاعترف. دلقَ خارجاً كلَّ شيءٍ – التحوّل الذي داخَلَ قلبه و عدم مقدرته على التعامل معه و من ثم كتابته الرسالة كحلٍّ أو مخرجٍ أخير – ثم توسّل اليزابيث أن تُخبره إن كانت أقاثا حريَّةً برفضِ دعواه.

دفقات العمق المتوالية هذه قد خدمت فقط في إطلاق نشاطها، أوتوماتيكياً، عبر دربٍ آخرٍ. فهي قد أُفزِعَتْ لسماعها عن الرسالة الخاصة. لنفترض أن أقاثا قد كانت متكتِّمَةً، بتحفُّظٍ، حين كنتُ معها، على أمرِ هذه ’ الورقة الرابحة ‘. لنفترض أنها قد كانت لاعبةً لها ... أم هي قد وضعتها جانباً غير مفتوحة ثم، فجأةً، تعرفت على خط اليد ففتحتها بعنفٍ و لهوجةٍ ؟ هي قد شرعت الآن في فتحها؛ في هذه اللحظة بالذات ؟ هل هي الآن في طريقها إلى بول ؟ جرت كلُّ هذه الخواطر المتسائلة في بال اليزابيث حينذاك.

’ فقط لحظة يا عزيزي ‘، قالت اليزابيث لبول، ’ انتظر. لديَّ أشياء مهمة سأخبركَ بها. لم تقل أقاثا مطلقاً أيَّ كلمة عنه رسالتك الخاصة. ليس بمستطاع تلك الرسالة أن تكون قد ’ طارت ‘ منها بعيداً. إنها، ببساطةٍ، يجب أن يُعثر عليها. أنا ذاهبةً توّاً إلى الطابق الأعلى. سأرجع
حالاً ‘.

هرعت بعيداً. فجأةً طرأ على بالها أنَّ الرسالة ربما ما تزالُ بالدهليز. فقنوط أقاثا، حينما اعتبرته على نحوٍ استرجاعيٍّ، بدا لها أصيلاً أصالةً مؤكّدةً. لم يذهب أحدٌ إلى الخارج، و قيرارد لم يهتم مطلقاً بتفقد الرسائل. لذا إن تُركت الرسالةُ في الطابق الأرضي فإنها قد تكون ما تزالُ هناك.

إنها – فعلاً – ما زالت هناك بمظروفها الأصفر المجعّد الذي له أذني كلب و الراقد، كورقةِ شجرٍ ميِّتَةٍ، على طبق الرّسائل.

أدارت اليزابيث مفتاح النور. تعرفت، بالنظر، على خط بول – خط يد صبيِّ المدرسة، خط أخرق و مشخبط؛ كماو تبين أن الاسم المكتوب على الظرف كان اسمه. فبول قد كتب رسالةً إلى نفسه ! مزقت الظرف ففتحته.

إنّ هذا المنزل قد كان خالياً من ورق الكتابة. فأيُّ نُتفَةِ ورقٍ عجيبةٍ فيه قد كانت تستعمل لخربشة الرسائل. و بول قد مزق صفحةً من كراسةٍ مدرسيةٍ ليكتب عليها. أفردت اليزابيث الرسالة و قرأت :-
" لا تغضبي يا أقاثا. أحبُّكِ. كنتُ غبياً. قد ظننتُ بأنّكِ عدوّتي. اكتشفتُ الآن أنني أُحبُّكِ، و أنني إن ما أحبَبْتِنِي فسأموت. أنا راكعٌ الحينَ على ركبتي متوسلاً منكِ رداً. لن أُبرح الرّواق ‘.

هزت اليزابيث كتفها و عبست بتشفٍّ. فبول، وهو يخط على الورق عنوانه، قد سبقه، ميكانيكياً، و هو في غمرة يأسه، باسمه كذلك. هذا كان يُشبهُهُ تماماً. فهو ما كان سيتغيّر أبداً.

لنفترض أن تلك الرسالة قد عادت إليه هارعةً كزانةٍ ( بسطونةٍ )، بدلاً عن رقادها عاجزةً على منضدة الدهليز ؟ إن حدث ذلك فإنه قد يخيب قلبه، يفقد الرجاء، ثم يحطمها و هو مستذلٌّ تماماً بشرود ذهنه. إنها ستُنجيه من ذاك.

انفردت اليزابيث بنفسها في حجرة مشاجب معاطف الرجال في دورة المياه. مزقت الرسالة إلى نتفٍ، ثم فتحت سدَّاد المياه عليهم. بعد ذلك رجعت حالاً إلى أخيها تعيس الحظ و أخبرته أنَّ أقاثا غارقةً في النوم. ثم أردفت أنه قد كانت هناك رسالةٌ خاصةٌ موضوعةٌ على المنضدة المجاورة لسريرها و أنها قد رأتها بمظروفها الأصفر و بصفحة ورقتها المسطرة البارزة خارجه. ثم قالت إنها قد تعرفت على تلك الورقة لكونها، كما هو واضح، إحدى أوراق كتاب تعليم الكتابة الموضوع على منضدة بول.
- ’ هل لم تُشر أقاثا إلى الرسالة أبداً حينما كانت تتكلم معك ؟ ‘
- ’ لا. أنا أُحبّذ ألاّ تعرف أبداً أنِّي قد رأيتها. لذا يجب علينا أن نكون حذرين و ألاّ نبدو، خاصَّةً، أننا نجري تحقيقاً عنها. حينذاك قد نتأكد من أنها ستقول إنها لا تعرف شيئاً مما نتكلم عنه ‘.

لم يتمكن بول أبداً من تصور العواقب الفعلية لرسالته. فالتفكير الرّغبي قد أماله نحو التفاؤلية. و الشيء الذي ما توقعه مطلقاً هو هذه الهوّة، هذا الفراغ. سالت الدموع على وجهه المتصلب.

[رسم 6].

كانت اليزابيث مسرفةً في كلمات التسرية اللاتي بذرت بينهنَّ سرداً دقيقاً لوقائع حديثِ قلبٍ لقلبٍ أوهمت بول بأنه قد جرى بينها و أقاثا مؤخراً. قالت له إن الفتاة الحبيبة قد فقدت تماسكها – خلال ذلك الحديث – و أخبرتها بكل شيء :- كيف أنها قد أحبت قيرارد، و كيف أنه قد بادلها ذاك الحبَّ، و كيف أنهما قد انتويا الزواج. ’ من العجيب ‘، مضت قائلةً، ’ أن قيرارد لك يقل لكَ أيَّ شيءٍ عن هذا. أعلم أنه يخشاني. يبدو أنني أجمده فزعاً. لكن الأمر يختلف معك. أظنُّ أنه لم يخطرك به لاعتقاده أنك لن تأخذه على محمل الجدِّ ‘.

أُخرسَ بول إذ غدا شارباً لهذه الكأس اللاّ متصوّرة و المرة. مضت اليزابيث في توسيع مضمون حديثها :- لا بدَّ أنَّ بول مجنون ! فأقاثا فتاةٌ بسيطةٌ و قيرارد فتى جدّ لطيف. خالُ قيرارد يتقدم الآن في العمر؛ قد يصير قيرارد قريباً ذا مالٍ؛ قد يصبح حراً في أن يتزوج أقاثا و يؤسس عائلةً برجوازيةً محترمة. لا يبدو أنّ هناك أيُّ عائقٍ في سبيل سعادتهما. لذا سيكون قبيحاً، بل إجرامياً، بلى، إجرامياً، من المرء إن رمى ملقطاً في طريقهما؛ إن هو سبب متاعباً لهما فكدّر أقاثا و قلقل قيرارد، إن هو سمم مستقبلهما. لا يستطيع بول، بل يجب ألاّ ، يفعل هذا. فغرامه بأقاثا ما هو إلا وهمٌ عابرٌ لا يلبث أن يزول إن هو تأمّلهُ بنفسه مليّاً. آنذاكَ قد يتحقق من أنّ وهماً طائشاً كهذا ينبغي عليه أن يفسح المجال لحبٍّ أصيلٍ متبادلٍ.

لساعةٍ كاملةٍ ما انفكّت اليزابيث متحدثةً، متحدثةً و مقدمةً لمحاضرةٍ عن واجب بول الملزم. شعرت بنفسها ملهمةً و متغذِّيَةً على فيضِ طعامِ خطابتها الخاصة. نشجت. حنى بول رأسه باستسلام و وضع نفسه، بلا تحفّظ، بين يديها. كان واضحاً من صمت أقاثا أنها قد قررت أن تنسى أمر الرسالة؛ أن تُهوّن من شأنها؛ أن تغفر له. ذلك، طبعاً، قد يكون باعثاً لارتباكٍ صغيرٍ بينها و بول الآن. و إن لاحظ قيرارد شيئاً منه فلن يكون ذاكَ أبداً أمراً حسناً لسير الأمور. لكن قيرارد و أقاثا قد ينشغلان بتطلعهما لزفافهما عما عداه – هذا قد يستغرقهما. و تواً قد يغادران هما إلى حيثُ يقضيان شهر عسلهما و الماضيات قد تغدو ماضيات.

جففت اليزابيث دموع بول. قبّلتهُ. ثم سوّتهُ على سريره و دَعَتْهُ في قلعته. ثمة عملٍ كان له أن يُنجز. أنبأتها غريزةُ القاتل أن تُتْبِع اللكمة اللكمة دون أن تتوقف أبداً لتُفكّر. و كعنكبوتٍ ناسجٍ ليلاً مضت، خفيفةً بارعةً و قاصدةً، في سبيلها و هي جارّةً خيطها وراءها بهوادةٍ و معلِّقَةً له على أركان الليلة الأربع.

ذهبت إلى حجرتها الخاصة حيثُ وجدت قيرارد يحومُ، بتوقُّعٍ، في جنباتها.

’ ما الأخبار ؟ ‘ سألها بلهفةٍ. جمدته بنظرةٍ خاطفةٍ. ثم انثنت قائلةً :- ’ كم من مرة قد أخبرتك بألا تصيح هكذا ؟ إنها واحدةٌ من عاداتك الرديئة. حسناً. الأخبار هي أنَّ بول مريض. ما كان له الحس ليتحقق من ذلك. أنا أعرف ذاكَ من هيئة عينيه،من حالة لسانه. حرارته مرتفعة و الطبيب هو الذي سيطلعنا على ما إذا كان الأمر انتكاساً في حالته أو مجرد نوبة انفلونزا. و حتى يتم جلاء هذا فإني قد آليتُ على نفسي إبقاءه على سريره و عدم السماح له بلقاء أيِّ زُوَّار. أنت تستطيع استعمال السرير الكائن في غرفته القديمة ‘.
- ’ لا، من الأفضل لي أن أذهب إليه ‘.
- ’ لا تذهب. أريدُ أن أتحدّث معك ‘.
قالت هذا بصوتٍ مستطيرٍ.

[رسم 7].

بعد أن دعته لاتخاذ مقعد خطت إلى الأمام و الخلف قُدَّامه، ثم استفسرت، حالاً، عما هو مقترحاً فعله بخصوص أقاثا.
- ’ أفعلُ ماذا ؟ ... لماذا ؟ ‘ سأل.
- ’ ما الذي تعنيه ب" لماذا " ؟ ‘ أجابته.
ثم أخبرته، بنبراتِ صوتٍ حادّاتٍ و باتراتٍ، أنه ما كان بمستطاعه أن يُخرجَ نفسه من الأمر دون تبِعاتٍ ما – فهو عالمٌ، تمام العلم، أن أقاثا مُحبّةٌ له و أنها راجيةٌ له أن يتقدم لخطبتها و أنها غير مستطيعة أن تفهم ما هو لاعباً عليه.

سقط فكُّ قيرارد. حدق فيها منبهتاً.
- ’ أقاثا ... ‘، تلجلجَ بالقول، ’ أقاثا ... ‘
- ’ نعم، أقاثا ! ‘ لذعته بلهيبِ ردِّها.

إنه حقاً قد كان عبيطاً. فنزهاته مع أقاثا قد كنَّ خليقاتٍ بأن يُسرّبنَ له دلالةً ما على ما بها. خاطبت اليزابيث قيرارد هكذا ثم، تدريجياً، بنت صورةً لأقاثا، ليس كرفيقةٍ و أُختٍ، بل كزوجةٍ مرتقبةٍ فملأت الكانفاس بثروةٍ من التواريخ و البراهين حتى هُزَّ قيرارد إلى لُبِّهِ. مضت قائلةً إن أقاثا قد كانت في كربٍ عظيمٍ إذ صوّرت لها خواطرها أنَّ قيرارد قد أحبّها هي، اليزابيث، و ذاك – لعمرها – شيءٌ باعثٌ للهزء، كما و أنه، على كلٍّ، لا محلَّ له من الإمكان إن اعتبر المرء مكانتها المالية المتفوقة.

ودَّ قيرارد لو أنَّ الأرض انفتحت و بلعته بطوله. فقد جرّحهُ عميقاً سماعها و هي تُسَفِّلُ نفسها – و نفسه – هكذا بهذا الكلام سيئ الصفة، هذا الكلام المبتذل عن المال. حينذاكَ هي قد رأت فرصتها فاستمسكت بها، ثم كالته لطمةً فاتكةً إثرَ لطمةٍ فاتكةٍ :- حرّمت عليها أن يتوقَ إليها أيَّ توقٍ جديد؛ أمرته أن يتزوج أقاثا و ألاّ يبوح أبداً بسرِّ دورها كطرفٍ ثالثٍ بينهما. قالت إنها قد غُصِبَتْ على التدخل في هذا الشأن بسبب بلادته. ثم قالت أيضاً إنه لا ينبغي لأقاثا أن تشعر أبداً أنها مدينةٌ لها بسعادتها الزوجية – فذاكَ شيءٌ لن تسمح به هي، اليزابيث، و لو أنها مُلِّكت، لأجله، الدنيا كلُّها.

’ حسناً، الآن ‘، ختمت اليزابيث حديثها، ’ فإننا قد تقدمنا خطوةً كبيرةً إلى الأمام. اذهبْ إلى فراشك الآن. أنا سأهرعُ، حالاً، إلى أقاثا و أبُثَّها النبأ بلطفٍ. ’ أنتَ ‘ على حبٍّ معها. إنك قد كنتَ عايشاً في عالم حلمٍ فحملتك أحلامك فوق مرتبتك. أَفِقْ. فكّر في كيف أنتَ محظوظ. اعْطِنِي قبلةً و دعنِي أسمع منكَ قولك أنك أسعد رجلٍ حيٍّ.

و لأنه الآن بات أكثر ذهولاً من أن يُبدي أيَّ مقاومةٍ أكبر، ثغا قيرارد ببعض توكيدٍ غامضٍ. وجهته اليزابيث إلى غرفة بول و أغلقت الباب عليه. ثمَّ صعدت، كأراشني التي لا تنام، السّلالم إلى غرفة أقاثا.
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

7
قد عرف عن القتلة أنهم وجدوا الفتيات الصغيرات مسببات متاعب لهم أكثر من أيِّ شخصٍ آخرٍ. فرغم أن أقاثا قد ترنحت تحت اللكمات إلا أنها ما انكسرت. فعقب معركة يائسة مضت اليزابيث خلالها في الإصرار على أن بول غير قادر على الحبِّ، و على أنه ما كان قد أحبها لأنه لا يستطيع أن يُحَبَّ أيَّ شخصٍ، فشخص محطم لذاته و أناني أنانية وحشية كما كان هو لن يستطيع أن يفشل في تحطيم أيّ امرأة سلّمت أمرها له، و على أن قيرارد، من الناحية الأخرى، كائنٌ فريدٌ، رجلٌ وفيٌّ و معتمدٌ عليه بما يُكفي لضمان سعادة مستقبل امرأة، انهارت الفتاة المسكينة في النهاية على كل؛ أُجهدت، ثم أخلت سبيل آخر رسوم حلمها. و طريحةً نحت هيئة اليزابيث الفاحصة رقدت أقاثا خامدةً، غير مستورة، راميةً الرأس خلفاً و ملتصقاً شعرها الرطب على جبينها، إحدى يديها كانت مضغوطةً على قلبها و كأنها موقفةً نزيف الجرح – اليد الأخرى كانت مرتميةً حجراً ميّتاً على البلاط.

[رسم 8].


أنهضت اليزابيث أقاثا إلى وسائدها، مسحت وجهها بمسحوقٍ، ثم طمأنتها إلى أن بول لم يكن – و لن يكن – لديه أدنى لمحةٍ من علمٍ بمشاعرها نحوه. عليه ليس لها، بعد، إلا أن تتخذ وجهاً بشوشاً و تخبره أنها بسيل الزواج من قيرارد.

- ’ شكراً لك ... شكراً لك ... إنكِ لَعَاطِفَةً ... ‘، قالت أقاثا و هي لاهثةً، بتقطِّعِ بين هنهناتها.
- ’ لا تشكريني. اذهبي لتنامي ‘، قالت اليزابيث، ثم غادرت الغرفة.

صمتت اليزابيث ثانيةً. شعرت بأنها رائقةٌ، مستقلّةٌ و منزاحٌ عنها عبءٌ ثقيل. فقط حين بلغت السلم المدرج بدأ قلبها يضرب. سمعت وقع خطوات. ثم، بعد لحظةٍ، رأت بول وهو قادماً نحوها.

بدا بول مضيء الهيئة برداء حمّامه الطويل. أدركت اليزابيث، في ومضةٍ، أنه كان ماشياً خلال نومه، كما قد فعل كثيراً في أيام " الريو مونتمارتر " الماضية تحت ضغطِ شَدائدٍ ما. اتّكأت على قوائم السُّلّم المدرج و هي معلقةً قدماً في الفراغ دون أن تجرأ على تحريك عضلةٍ واحدةٍ لئلا يستيقظ بول – أقلّه – و يُسائلها. لكنه ما رآها حيثُ وقفت خافقةَ الأعضاء و متهيّئةً للفرار – كانت تحديقته موجهةً للسلم المدرج. قد تكون قَدِرَت – في موقفها ذاك – على أن تغدو امرأةً قُدَّت من البرونز ممسكةً مصباحاً تنيرُ به تقدُّمَهُ الصاعد. بات صوتُ طرقعاتِ فأسِ قلبها من العلوِّ في أذنيها الخاصتين بحيثُ فكرت، في هلعٍ، أنه قد يسمعه هو أيضاً.

وقف بول بلا حراك لهنيهاتٍ قليلةٍ، ثم استدار بعيداً ببطء و اختفى في السكينة. لبثت مصغيةً لوقع خطواته المتراجعة؛ تركت ثقلها يسقط، مرةً أخرى، على قدمها الخدرى، ثم انسرقت بعيداً.

هنالك، في حجرتها الخاصة، ما استطاعت سماع أيّ شيءٍ صادرٍ عن الباب المجاور. هل كان قيرارد نائماً ؟ وقفت طويلاً أمام المرآة في حمامها. فُتِنَت بالصورةِ التي رأت. حنت رأسها. غسلت يديها المُفزعَتَين.

8
شاعراً بدنو نهايته و قلقاً على رؤية الزوجين الشابين اليافعين مستقرّين بأسرعِ وقتٍ، عجل خال قيرارد بتجهيزات الزفاف. لعبت الشخصيات أدوارها المخصصة في جوٍّ من البشاشة الزائفة و التنافس في الكرم. فوراء أجيج و عجيج المراسم المستكينة كمن الثقل الفاتك للاّ مُتَحَدَّثٍ.

ثَقُلَت، كرصاصٍ، بهجة بول، أقاثا و قيرارد المصطنعة على قلب اليزابيث. عبثاً هي قد حدثت نفسها بأن يقظتها قد أنقذتهم جميعاً من الهلاك؛ بأنه لولاها لما قُيِّضَ لأقاثا أن تُصانَ من بول و من كلّ جموحه، و لبول أن يُصانَ من متوسِّطِيَّتِها ( عاديَّتِها ). عبثاً هي قد رجّعت على نفسها حديثها الذّاتيَّ الباطنيَّ:- إن قيرارد و أقاثا لَشخصَين من طينةٍ واحدةٍ. إنهما " مُلزمان " بأن يبقيا معاً. و ما أنا ( و ’ بول ‘ ) إلا شفيعتهما ( ’ شفيعيهما‘ ) في ذلك. بعد عامٍ من الآن سيكون هنالك طفلٌ و سيُباركاني. حاولت أن تنسى دورها كمشرعة خلال ليلةِ السّخط فَنَازَعَتْهُ عنها كحلمٍ ولَّدته بعضُ غيبةٍ أو انذهالةٌ صارعةٌ. عبثاً هي قد نفت أيّ صفة شخصية عن الأمر كله عساها تصرفهُ عنها على أنه تدبيرُ قدرةٍ إلهيةٍ كلِّيّة العلم. فهي ما زالت تحس تعباً في حضرة الثلاثي الأسيان، و لو أنها ما جرأت يوماً على التخلي عنهم خوفاً من العواقب الوخيمة لذلك.

ليس هنالك أحدٌ منهم ما وثقت فيه. فإن أمكن لم أبداً أن تعنَّ لهم مقارنةُ السجلاّت لكانوا قد وجدوا سبباً للاشتباه بها كحاقدة و من ثم أرغموها على مجابهةٍ نهائيّةٍ بينها و بينهم. لكنهم كانوا، في منبتهم، أكثر شرفاً من ذلك. حاقدة ؟ حاقدة لماذا ؟ و لماذا ينبغي عليها أن تُريدَ أذيّتهم ؟ شجّعها أنها لم تجد أن بمستطاعها أن تأتي بإجاباتٍ على هذه الأسئلة. إنها قد أحبتهم كلّهم، الأعزّاء المساكين. إنهم قد كطانوا شغل حياتها؛ رسالتها. فهي قد جمعتهم تحت جناحها، آوتهم، حملت عبء حماقاتهم الكامل على كتفيها، ثم تدبرت تجنب الرزايا الأكيدة التي، لولاها، لكانت قد بذلت لهم – كما يجب – دماً و دموعاً. و هذا ما كان له أن يكون.

مضت اليزابيث محدثةً نفسها أن ما قد كان قد كان فشَبُهَتْ، في ذلك، جرَّاحاً سُمعتَهُ رهينةً بتشخيصٍ شديدِ الأهميّة. الخنجر الذي أمسكت به كان مِبضَعَه. و مُواجَهَةً، في برهةٍ وجيزةٍ، بضرورةٍ ملحّةٍ ما كان لديها خيارٌ سوى أن تُعطي العليلةَ المخدّرَ و تُنجز العملية. شكراً لمهارتها، فالعليلةُ قد بدأت تتعافى. ثم هي، إذ تسمع صوت ضحكة أقاثا المتعبة و يُطالعها مرأى وجه بول المخطوف و تكشيرة قيرارد المصطنعة، قد تُجفلُ يقظةً فتغدو، مرةً أخرى، مُلازَمَةً بالشِّكوك و المُرعِبات، فارّةً من شائعةِ ( شُبْهَةِ ) الطِّراد خلفها و عارفةً أنَّ " إلهات الانتقام " [ في الأصل Furies، بحرف الكبير في المبتدئ، مما يرينا أن المعنيات بالكلمة هنَّ " إلهات الانتقام " في أساطير اليونان القديمة – المترجم ] جاهدات سعياً على عقبيها.

خلّفَ شهرُ العسل الشقيق و شقيقته وحيدين معاً. كان بول تائقاً، توقاً صريحاً، إلى أقاثا. انتقلت اليزابيث إلى ما وراء المتاريس. جلست معه. مارضَتْهُ نهاراً و ليلاً. بُهِتَ الطبيبُ بهذه الانتكاسة الغامضة. لكن كلّ مرض بول قد كان، دوماً، غير أرثوذوكسي. استاء من كوخ الخيزران فنصح بنقل العليل إلى حجرةٍ مريحةٍ. رفض بول، الذي كان، باستمرارٍ، ملفوفاً في عشٍّ من الشَّالات، مغادرة كوخه. سقط ضوءٌ منكتمٌ على هيئة اليزابيث الجالسة المنحنية قدماً و ساندةً ذقنها على يديها و محدقةً في الفراغ باليةً همّاً و مُستَهْلَكَةً بأفكارٍ مُغِمَّةٍ. و كما تخيّل قيرارد، ذات مرةٍ ، إذ رأى وجه بول يتضرّج ببهاء لألاء آلة إطفاء النار، أنّ بول قد بدأ في التعافي من علّته، كذلك هي الآن قد رأت ذات الوجه يُزهر في انعكاس الضوء من نسيج صوف الرايات القرمزي. و لأنَّ الرجاءات الخُلَّب قد باتت الآن غذاءها الوحيد فإنها قد حدثت نفسها بأن ذلك الوهج المحمر قد كان، و يجب أن يكون، وهج العافية.

أعاد موت خال قيرارد الزوجين مسرعين إلى البيت. وضعت اليزابيث طابقاً كاملاً من الضّيعةِ تحت تصرفهما. لكن، رغم إصرارها، ردّا عرضها إليها و اتّخذا من " الرّيو لا فايتِي " مقاماً لهما. هذا بدا لها واعداً بمستقبلٍ حسنٍ لهما معاً. فهما، كما هو واضحٌ، بسبيل الاستقرار القانع على ألفةٍ بيتيّةٍ رتيبةٍ ( هي أغلب ما هما قد كانا جديرين به ) قررا، من أجلها، صدَّ مجال تأثير صديقيهما الفوضوي فيهما عنهما. حينما سمع بول بقرارهما تنفس مرةً أخرى. فهو قد فَزِعَ استئنافاً ممكناً لحميميّتهما السابقة.

’ إننا سَنُلْقَى جانباً ‘، أعلنت اليزابيث، ’ فكلانا غير مرغوبين تماماً. قيرارد لم يُداوِر في هذا الأمر. قال إننا ضاران لأقاثا. نعم، بصراحة ! إنك قد لا تتعرف عليه إن قابلته الآن. فهو قد تحول – الآن – إلى خاله. قد أذهلني حقاً شأنه. في البدء فكرت بأنه كان لاغياً لي – فكرت، آنذاك، بأنه ما كان إلاّ محاولاً إثارةَ غيظي ‘.

من وقتٍ لآخرٍ كان قيرارد و أقاثا يأتيان إلى المنزل لوجبة الضحى أو للغداء. حينذاك قد يُغادر بول سريره لتلك المناسبة و ينضمُّ إلى الآخرين في غرفةِ المعيشةِ فيبتلعون، جميعُهُمو، الوجبة بمرافقة ثرثرةٍ قاصفةٍ و تحتَ عين مارييتِي المراقبة – عينٌ سوداويَّةٌ لبريتانيَّةٍ داهيةٍ؛ عينُ فلاّحةٍ رائيةٍ للأسى الذي سيُجيء.

9
ذات يومٍ، و بالذات في وقت جلوسهم لوجبة الضحى، قال قيرارد بخفّة :-
- ’ خمِّنُوا من صادفتُ اليوم ؟ ‘
أجابه بول بهزة كتفٍ مستفهمة.
- ’ دارقيلوس ‘، قال قيرارد.
- ’ أليس ذلكَ حقاً ؟ ‘
- ’ نعم، حقاً، يا رفيقي العزيز ‘.

مضى قيرارد ليقول إنه قد كاد أن يُدهَسَ بعربةٍ صغيرةٍ حينما كان عابراً الشارع. ثم توقفت العربة و كان دارقيلوس – على عهدة رواية قيرارد – هو سائقها. عرف قيرارد، بعد ذلك، من دارقيلوس أنه قد سمع مسبقاً بوراثة قيرارد لممتلكات خاله و أنه يُديرُ، حالياً، مصانعه. ثم أبدى الأخيرُ انشغالاً بأن يريه قيرارد أحد تلك المصانع. من الواضح أنه قد نصبَ عينه على هذه الفرصة الكبرى.

أراد بول أن يعرف إن كان دارقيلوس قد تغيّر ... إنه ما يزال، إلى حدٍّ بعيدٍ، كما كان؛ فقط لونه بات أخفَّ قليلاً مما في السابق ... هو يُشبه أقاثا شبهاً غير عادي – قد يُظَنُّ أنه شقيقُها. ثم هو حاضراً، على العكس تماماً من دارقيلوس الأيام الماضية ذي القُبُّعة العالية، جدَّ، جدَّ ودودٍ. قد عمل وكيلاً لشركة سيارات و أنفق وقته مسافراً بين فرنسا و الهند الصينيّة. و حينما التقى قيرارد دعاه إلى فندقه و سأله إن كان قد رأى، و لو وجيزاً، شابَّ كرة الثّلج ذاك ؟

’ ثم ماذا ؟ ‘ تساءل بول في رد فعله على الحكاية. ’ قد أخبرته ‘، أجاب قيرارد، " بأنني قد رأيتُكَ – و أراكَ – على الدّوام. ثم سألني بعد :- ’ هل لا يزال يحبُّ السُّمَّ ؟ ‘ " أجفلت أقاثا ثم صاحت مصعوقةً :- ’ السُّمَّ ؟ ‘ ... ’ بالتأكيد ‘، قال بول بصوتٍ عالٍ، عُدوانيٍّ، ’ فالسُّمُّ شيءٌ مجيدٌ ! قد تحرّقتُ دوماً إلى اقتناء شيءٍ منه حينما كنتُ في المدرسة ( قد نكون أكثر دقّة لو قلنا إن دارقيلوس كان مهووساً بالسموم و أنه، بول، قد فلد دارقيلوس في ذلك ).

’ ما الذي يمكن أن يكون هدف ذلك ؟ ‘ سألت أقاثا. ’ لا هدف إطلاقاً ‘، قال بول مجيباً، ’ لأنني قد بغيتُ السّمَّ أردتُ أن أحصلَ علي بعضٍ منه. إنه لمجيد. أريدُ أن أقتنيه بذات الطريقة التي أريدُ بها أن أقتني حيّةً خرافيّةً أو لُفاحَاً، بذات الطريقة التي أريدُ بها أن أقتني مسدساً دوّاراً. فهو شيءٌ أنت تملكه حين تملكه. ستعرف – حينذاك – أنكَ تملكه و أنه حاضرٌ هناك أمامك كي تنظر إليه. إنه السُّم. يا للمجد ! ‘

وافقته اليزابيث. كانت تلك فرصتها كي تزدري أقاثا و كي تُظهر تضامنها القديم مع سحر " الحجرة ". أعلنت أنها مغرمة بالسم. ففي أيام " الريو مونتمارتر " هي قد اعتادت أن تتلاعب بتخمير السموم، بتعبئتها و ختمها، ثم بإلصاقِ لوائح كالحة عليها تصنع، أو تضع، عليها أسماءَ منذرةً شؤماً.

- ’ كم ذلك مفزع يا قيرارد. إنهما مجنونان ! أعرف أنهما سينتهيا إلى السجن ‘.

ابتهجت اليزابيث لانفجار أقاثا العفوي هذا. فهو، بتعضيده للمقام البرجوازي الذي أضفتهُ على الزوجين الشابين، يُعفيها من اتخاذ أيِّ موقفِ سوء طويّة متعمّد إزاءهما. لاقت عيناها عين بول فغمزت له.

مضى قيرارد في حكايته عن دارقيلوس فقال :- ’ دارقيلوس أراني كلَّ مجموعته السُّمِّيّة :- سموم من الهند، الصين، المكسيك، جزر الهند الغربية؛ سموم لسنان السهام؛ سموم للموت البطيء بالتعذيب؛ سموم ثاراتٍ مرّة و طويلة؛ سموم طقوس قرابين و نُذُر. ثم أضاف ( دارقيلوس ) هازلاً :- ’ قُل ل" كرة الثلج " أنني لم أتغيّر. فقد كنتُ دائماً راغباً في جمع السموم. الآن أنا أفعل ذلك. هاكَ هذا " الشَّيء " منِّي له ليلعب به ‘ ... "

تحت عيون اليزابيث و بول المبحلقة تحسس قيرارد جيبه من الداخل و نزع خارجاً رُزمةً ملفوفةً في رقعةٍ من صحيفةٍ. أدارت أقاثا ظهرها لهذه " الإجراءات ".

فتحوا الحزمة فوجدوا بداخلها كتلةَ شيءٍ مُدَوَّرٍ و مُظلمٍ في حجمِ قبضةِ يدٍ موضوعاً في غلافِ ورقةٍ متَّسِخَةٍ. كان – ذلك الشيء – في لون الأرض و له نسيجٌ ليس بعيداً عن الشبه بنسيجِ شوكولاتةٍ دسمةٍ و غامقةِ اللون، باستثناء أن به جرحٌ مسحوجٌ محمرٌّ. أما فوحه الذي نشر فقد كان مثل فوح طينٍ محفورٍ، كذلك مثل نفحة رائحة بصلٍ و نفحةِ رائحةِ زيت الخُبَّيْزَى الإفرنجيّة [ نباتٌ بقليٌّ و عشبيٌّ شُهر بزراعته آل جنوب إفريقيا الأصليين – المترجم] الحريفَتَين.

لا أحد تحدث. وقفوا مجمّدين إزاء هذا " الشيء " الذي جذبهم و نفّرهم معاً و كأنَّ كتلةً متناسقةً لحيوانٍ زاحفٍ قد نشّرت نفسها، فجأةً، أمام أعينهم فأبرزت اثني عشرة رأساً ثعبانياً. إنه الحضور المُطلق للموتِ، ذاكَ الذي جابههم.

’ هذا مخدر ‘، قال بول، ’ ينبغي أن بكون هو مدمن مخدرات فليس له أن يستغني عن هذا " الشيء " هكذا إن كا سماً ‘. ثم مدَّ إحدى يديه.

’ لا تمسّه ‘، أنذره قيرارد و دفع يده بعيداً، ’ مهما يكون هذا الشيء فإنه هدية لكَ من دارقيلوس الذي قال لي إنّكَ، مهما حدث، لا يجب أن تَمَسّه. عليه أنا لن أسمح لكَ، و لو في الحلم، بأن تحتفظ بالشيء الوحشي – إنكَ متهوّرٌ كثيراً جدّاً ‘.

فقد بول تماسكه. و آخذاً ضوءاً أخضراً من اليزابيث أخبر قيرارد بألاّ يكون منتفخاً هكذا، فمن يعتقد أنه قد كان ؟ فخاله العزيز الراحل ... الخ ... الخ ؟ ... ’ مُتهوِّرَيْنَ، ألسنا ؟ ‘ قالت اليزابيث بازدراء، ’ فقط انتظرْ ! ‘

و خامشةً للحزمة إلى فوقٍ شرعت اليزابيث في مطاردة شقيقها حول المنضدة ( المائدة ) مراراً و هي تصيح :-
’ أقدِمْ و كُلْ هذه، كُلْ هذه ! ‘

فرت أقاثا. قفز بول على منضدةٍ و خبّأ وجهه بين يديه. لهثت اليزابيث وراءه هازئةً :- ’ هنالك فتىً مِقدام ! انظُروا كم هو مُتهوِّرٌ ! ‘ ... ’ كُلِيْهَا أنتِ، أيتها الغبية ‘، رد عليها بول. أكملت اليزابيث حديثه فقالت :- " ’ و من ثم مُوْتِي بسببها ‘، أفترض أنك ستقول. فهذا يُناسبُكَ تماماً. أليسَ كذلك ؟ ( شكراً، أنا أقترح أن نُودِعَ " سُمَّنا " الخزانة ".

- ’ إنّ رائحته مطلقة القوّة ‘، قال قيرارد.
- ’ ينبغي أن يضعه المرء في صفيحة ‘، ردت عليه اليزابيث.

لفت اليزابيث الحزمة جيداً و قذفت بها إلى داخل صفيحةِ بسكويتٍ فارغةٍ، ثمَّ اختفت من الحجرة. كانت ممتلكاتها المختلفة متناثرةً على سطحِ صندوقِ الخزانة :- مسدَّسٌ دوَّارٌ، كُتُبٌ، التمثالُ النِّصفيُّ المرسوم عليه شارباً. فتحت اليزابيث درجاً و وضعت الصفيحة فوق " دارقيلوس ". ثم، بحذرٍ و احتياطاتٍ لا متناهية، أنزلتها أسفلاً بتجهُّمِ تركيزِ فتاةِ مدرسةٍ، بشيءٍ من جوِّ، من إيماءاتِ، امرأةٍ تخزُ صورةَ شمعٍ، مُصوِّبَةً، أوّلاً، دبُّوسها بإحكامٍ، ثمَّ ضاغطةً إياه إلى مستَقَرٍّ له.

رأى بول نفسه في المدرسة مرةً أخرى مقلِّداً، كقردٍ، دارقيلوس و مهووساً بالعنفِ و بطقوسٍ بربريّةٍ، حالماً بسهامٍ مسمومةٍ و راجياً إحداث اختراعٍ خاصٍّ به يخلقُ انطباعاً قوياً لدى بطله. تمثَّلَ له ذلك الاختراع، بالذّات، في مشروعِ قتلٍ جماعيٍّ تكون وسيلته صمغٌ مسمومٌ مُثبَّتٌ على طوابع بريد. ثم، متجبِّراً بكُلِّيَّتِهِ و غير مكترثٍ لدلالاتِ السُّمِّ الفاتكة و لا لأيِّ أمرٍ قُصِدَ به نيلاً لرضائه المبهر – هو ذلك الصعلوك، قد يهزُّ دارقيلوس كتفيه و يستديرُ بعيداً، بعيداً و مُحَقِّرَاً لبول و مشروعه ذاك و كأنَّ بول ليس إلا فتاةٌ حمقاء.

ما نسي دارقيلوس ذلك المولى الذليل الذي علّقه، مرَّةً، اسماً على شفتيه. فهديّةُ السُّمِّ هذه كانت قد كانت الضربة المتوجة لهزئه به.

ملأ الوعدُ الخفيُّ لتلك الهديّة الشقيق و الشقيقة بزهوٍ غريبٍ. صارت " الحجرةُ " أثرى ببُعْدٍ إضافيٍّ لا يُقاس. فهي قد احتوت على قابليّات مؤامرةٍ فوضويَّةٍ و كأنَّ شُحنةَ ديناميتٍ إنسانيٍّ قد طُمِرَتْ فيها و سينفَكُّ عنها فتيلُها في ميعادٍ بعينه فتنفجرُ في الدَّمِ، بجلالٍ، و تسيلُ في سماوات الحبِّ الشَّعشاعة.

كذلك كان بول مستغرقاً في موكبِ غرابةِ الأطوارِ هذا و الذي رغب قيرارد – في عُرفِ اليزابيث – أن يحمي أقاثا منه – هذا شيءٌ كان له أن يُوَجِّه صفعةً إلى قيرارد، و أيضاً إلى زوجته.

أما اليزابيث فقد أشعرها كلُّ هذا بالظّفر. فهي قد شَهِدَت بول القديم عائداً إلى دربِ الحربِ، واطئاً تحته العرف، قابضاً على الخطر القارص و غيوراً، كما هو أبداً، على الخزانة المُقدّسة.

أضفت اليزابيث على السّمِّ صفات رمزية :- كان هو التّرياق ضدَّ الهامشيّة و محدوديّة الأفق الذي سيؤدي، بل و يجب أن يؤدي – بالتّأكيد – إلى الاندحار النِّهائي لأقاثا.

لكن بول قد فشل في الاستجابة للعلاج بالكهانة. لم تتحسّن شهيّتُهُ فمضى غافلاً، لا مكترثاً، في توقه و ضياعه و منحدراً، في مراحلٍ بطيئةٍ، إلى اضمحلالٍ.

10
كان " الأحدُ " يوم عطلةٍ معلومةٍ لكل أفراد المنزل. ذلك وفقاً للتقليد الأنجلو- ساكسوني الذي اعتمد خلال عهد حياة ميشيل. و فيه كانت مارييتي تملأ قنينات الثيرموس، تقطع الساندويتشات، ثم تغادر المنزل مع الخادمة. أما السائق الخاص، و الذي اشتملت واجباته على مدِّ يد العون – بالداخل – في أعمال النظافة، فقد اقترض إحدى العربات و أنفق وقته – بطريقةٍ رابحةٍ – متصيّداً بها راكبين عابرين لإيجارها لهم.

في ذات هذا " الأحد" تساقط الجليد. و طبقاً لتعليمات الطبيب ذهبت اليزابيث إلى حجرتها الخاصة لترقد و أسدلت ستائرها. كانت الساعة هي الخامسة، وكان بول غافياً منذ الظّهر – كان قد ألحَّ عليها – قبلاً – أن تتركه وحده و توسّل إليها أن تُصغي إلى إرشادات الطبيب. هي – الآن – نائمةً و حالمةً؛ حالمةً ببول ميِّتاً. في ذاك الحلم كانت ماشيةً عبر غابةٍ قد كانت، في ذات الوقت، رُواق المنزل. تعرّفت عليها على أنها " الرُّواق " من النور الساقط بين جذوع الأشجار و خلل نوافذ عالية منصوبة في شرائحِ عتمةٍ مُتَقَطِّعَةً بالظُّلمةِ. ثم وصلت – في حلمها – إلى فسحةٍ مؤثثةٍ رأت فيها طاولة البليارد، بعض كراسٍ، ثم منضدةً أخرى أو اثنتين. فكّرت :- ’ يجب أن أعرج على الأَكِمة ‘. في حلمها عرفت أن كلمة " أَكمة " معناها طاولة البليارد. في خطواتٍ طويلةٍ، أحياناً بالكاد طافيةً فوق الأرض، هرعت إليها خفيفةً، لكنها ما وصلت إلى هناك. رقدت منهكةً فغلبها النوم. فجأةً أيقظها بول فصاحت :- ’ بول، آهٍ يا بول ! إذاً أنتَ لستَ بميِّتٍ ؟ ‘ أجابها بول :- ’ نعم أنا ميّت، لكن كذلك أنتِ. إنكِ قد مِتِّ قبل برهةٍ فحسب. لذا أنتِ قادرةٌ – الآن – على رؤيتي. ستعيشين معي إلى الأبد، إلى الأبد ‘.

مضيا في الحديث. وصلا، بعد زمنٍ طويلٍ، إلى ’ الأكمة ‘. ’ اصغ ‘، قال بول وهو يضع إصبعاً على المُرَقِّمَة الأوتوماتيكيّة، ’ اصغ إلى الرنين العابر لجرس الجّناز ‘. بدأت المُرَقِّمَة في الخريرِ بخَبَلٍ. بدأت الفَسَحَةُ في الهمهمة ... أعلى ... فأعلى؛ صوتٌ مثلُ أزيز سلوك التلغراف ...

استيقظت اليزابيث فزعةً لتجد نفسها جالسةً منتصبةَ الاستقامة و مبللة رشحاً. ثمةُ جرسٍ كان يرنُّ. تذكرت أن الخدم جميعهم قد خرجوا. و فيما هي ما تزالُ في قبضة الكابوس جرت أسفل السّلّم المدرج و فتحت الباب الأمامي. على زوبعةٍ انفلتت أقاثا داخلةً مهوّشةَ الشّعر و صائحةً عالياً :- ’ أين بول ؟ ‘

قد أفاقت اليزابيث من كابوسها و هي، الآن، تنفض عنها آخر خيوط الحلم العالقة بها. ’ ماذا تعني ؟ ‘، قالت لأقاثا، ’ ما شأنك ؟ ‘ ... ’ بول، كما أعتقد، نائم كالعادة. قال إنه لا يريد أن يُزعج ‘. ’ اسرعي، اسرعي ‘، لهثت أقاثا، ’ اجرِ، يجب أن نُسرع. أنا لديَّ رسالةٌ منه. و هو قد قال فيها لي إنني، حين أستلمها، سيكون الوقت جدَّ متأخّر ... السّم ... إنه قد تجرّع السُّم ... قد قال إنه سيُبقيكِ بعيداً عن غرفته ثم يتناوله ‘. أمسكت باليزابيث، دفعتها و جذبتها مُحاوِلَةً حثها على المُضِيِّ قُدُماً. كانت مارييتي قد تركت مذكرة في شقة الزوجين الشابين في الرابعة مساءاً.

وقفت اليزابيث جامدةً. ’ إنه الحلم ‘، حدثت نفسها، ’ إنها ينبغي أن تكون ما تزالُ نائمةً ‘. حوِّلَت إلى حجر. ثم جرت – هي و هذه الفتاة الأخرى. جريتا، جريتا. الآن هي قد وصلت إلى الرواق. لكن ما يزال ذلك حادثاً لها في الحلم. في فَسَحَةٍ ( سهلٍ ) طيفية ( طيفيّ ) من ريحٍ تزأر و ظلام، من أشجارٍ، في الفضاءات البين بين، ضُرِبَتْ لوناً أبيضاً. و هنالكَ – على البعد، ما زالت ’ الأكمةُ ‘ قائمةً، طاولةُ البليارد ما زالت قائمةً، ثم – ما زالت قائمةً أيضاً – بقيّةُ الزلزال الحقيقية و الكابوسية تلك.

- ’ بول ! بول ! تحدَّث إلينا ! ... أيا بول ! ‘

لا حياةَ لمن تُنادي. ما أجابهما الفناء الملتمع بشيءٍ سوى بعضِ نَفَسِ جسدٍ و عظامٍ. اقتحمتا المكان فأصابتهما، حالاً، الكارثة. بكل أثرها كانت الحجرة مثخنةً بعبقٍ مشؤومٍ. استبانتاه :- مركّبَ عبقِ شوكولاتةٍ دسمةٍ و غامقةِ اللونِ، بصلٍ و روحِ زيت الخُبَّيْزى الإفرنجية، محمراً، أسوداً، نافذاً كان قد شرع، مسبقاً، في غزو الرُّواق. بمقلتين بارزتين من محجريهما، بوجهٍ جاوز تشوهه مدى التعرف عليه، رقد بول هامداً و عليه رداء حمّام يُشبه، بالضبط، رداء أخته. شتت ضوء مصباحٍ كهربائيٍّ، معتماً بالجليد و منسرباً خلل النوافذ العالية، نفحاتٍ من ظلٍّ مرتحلٍ عبر القناع المسود الزرقة فمسَّ الأنف و عظام الخد بعافيةٍ واهنةٍ. بجانب بول انبسطت على الكرسيِّ، لاكزةً إحداها الأخرى، بقيّةُ السّم، زجاجة ماء و صورة دارقيلوس الفوتوغرافيَّة.

إن المآسي الفعلية للحياة لا تنطوين على علاقةٍ بأفكارِ المرء المسبقة عنهنَّ. فعند وقوعهنَّ يؤخذ المرء دائماً ببساطتهُنَّ، بفخامةِ تصميمهُنَّ، و بعنصر العجائبيّة الذي يبدو مورَّثاً فيهُنَّ. ما وجدته الفتاتان، في البدء، مستحيلاً قد علّق الآن عدم تصديقهما الطبيعي. فهما، الحين، ملزمتان بأن تقبلا، بأن ترضَيا باللاّ مسموح به، بأن تتعرّفا، في هذه الهيئة المجهولة، على شخص بول.


[رسم 9].


و منبريةً قُدُماً ارتمت اليزابيث على ركبتيها بقربه و قربت وجهها من وجهه فاكتشفت أنه لم يكف عن التنفس. وثبت بداخلها خفقةُ رجاء.
- ’ لِزِي ‘، قالت أقاثا مستحثّةً، ’ لا تقفي هكذا دون أن تفعلي شيئاً. انهضي و البسي. ربما يكون بول مخدّراً فحسب – هذا الشيء المفزع قد لا يكون سماً مميتاً. ائتِنِي بقُنّينةِ ثيرموس. اجرِ و استدعِ الطبيب ‘.
- ’ الطبيبُ بعيدٌ. إنه قد ذهب في رحلةِ رمايةٍ في عطلةِ نهاية الأسبوع الذي انقضى ‘، تأتأت الفتاة التعيسة، ’ ليس هنالكَ أحد ... ليس هنالكَ أحد ... ‘
- ’ بسرعةٍ، بسرعةٍ ائتني بثيرموس ! إنه يتنفس. إنه باردٌ كالثلجِ. ينبغي له أن يُسعفَ بزجاجةِ ماءٍ حارٍّ. يجب أن نُمَرِّر بعضَ قهوةٍ حارّةٍ أسفل حلقه ‘.

أذهل حضور ذهن أقاثا اليزابيث. كيف استطاعت أن تُمكِّنَ نفسها من الحديث و لمس بول، و كيف استطاعت أن تُنَشِّط نفسها هكذا ؟ كيف عرفت أنه بحاجةٍ إلى زجاجةِ ماءٍ حارٍّ ؟ ما الذي جعلها تفكر بأنها مستطيعةٌ التغلّب، بحسّها العامِّ، على قضاءي الجليد و الموت اللذان لا يُردَّان ؟

فجأةً جذبت أطراف نفسها معاً و تذكّرت أنّ قنينات الثيرموس موجودةٌ في حجرةِ نومها. هرُعت لتجمعهم و هي تنادي فوق كتفها :- ’ غَطِّيهِ ! ‘

ما زال بول يتنفس. فمنذ ابتلاعه ما أرسله دارقيلوس له قد عانى أربع ساعاتٍ من أحاسيسٍ جعلتهُ شدَّةُ فرادتها يتساءل عما إذا كان ما ابتلعه لا يعدو، في غايةِ الأمرِ، كونه مخدراً و ليس سُمّاً و عما إذا كان هو، و الحال كهذه، قد تعاطى جرعةً منه كافيةً لقتله. لكن الآن قد انقضى أسوأ ما في الامتحان. كفّت أعضاؤه عن الوجود. إنه سابحٌ في الفضاء و قد أوشَكَ أن يعاود الإمساك بحسِّهِ القديم بالطّلاقة. لكن لعابه قد توقف كلياً عن الجريان. لذا فقد ضرَّسَ لسانه الجاف حلقه مثل صنفرة. و فيما عدا حيثُ كلّ الشعور قد صار مستنفذاً زحف جلده الملفوح زحفاً لا يُطاق. قد حاول أن يشرب فمد يداً واجفةً تتحسس، بلا جدوى، موقع زجاجة الماء. لكن الآن كلّ ساقيه و ذراعيه بِتْنَ مشلولين فتوقف عن الحركة.

آنما أغلق عينيه عاودت ذات الصور الظهور أمامه :- رأسُ حملٍ عملاق بضفائرِ امرأةٍ رماديات و طويلات؛ بعضُ جنودٍ موتى و عميٌ زاحفين، في موكبٍ عسكريٍّ صلبٍ، مرة ببطءٍ، ثم أسرع فأسرع حولَ، ثم حولَ، حرشٍ :- رأى – حين رأى – أن أقدامهم قد كانت على هيئة فروع شجر ذلك الحرش. اهتزت ياياتُ السرير و رنّت تحته مع خفق قلبه الوحشي . انتفخت العروق و تصلبت في ذراعيه. نما اللحاء حولهم. صارت ذراعاه فروع شجرة. تحلق الجنود حول ذراعيه – ثم ابتدأ الفعل كلّه مرةً أخرى.

غاص في غفوةٍ فعاد إلى وقت الجليد ، إلى أيام " اللعبة " القديمة، فإذا به في التاكسي مع قيرارد آيبين إلى البيت. سمع أقاثا ناشجةً :- ’ بول ! بول ! افتحْ عينيك، تحدّث إليَّ ... ‘

كان قد شعر بفمه مثقلاً بالمرارة. صاغت شفتاه المُصَمَّغَتان المرتخيتان كلمةً واحدةً فقط :-
’ شراباً ... ‘
- ’ حاوِلْ أن تكون صبوراً ... ذهبت اليزابيث لتأتي بالثيرموس. ستحضر معها زجاجةَ ماءٍ حارٍّ ‘.
- ’ شراباً ... ‘، قال مرةً أخرى ....

رطّبت أقاثا شفتيه بماءٍ. أخذت رسالته من حقيبة يدها، أبرزتها له، ثم توسلته أن يحاول إنباءها أيّ جنونٍ قد أدركه.

[رسم 10].


- ’ إنها غلطتك يا أقاثا ‘.
- ’ غلطتي ؟ ‘

مقطعاً فمقطعاً شرع في الهمس. تلجلج بالحقيقة. قاطعته باحتجاجات و تعجّبات. كُشِفَ عن " الشرك البشريّ " في كل براءته المعذِّبة. معاً مسّه و قلَّبه الرجل المحتضر و المرأة الشّابّة ففكا تركيب الحيلة الشيطانية قطعةً فقطعةً. تولّدت عن كلماتهما اليزابيثَ عنيدةً، غادرةً و مجرمة فُضِحَت، أخيراً، تدابيرها في تلك الليلة.
- ’ يجب ألاّ تموت ! ‘ صاحت أقاثا.
- ’ فاتَ الأوان ‘، أجابها نائحاً.

في تلك اللحظة، خائفةً من تركهما وحدهما لزمنٍ طويلٍ كهذا، أسرعت اليزابيث عائدةً بالثيرموس و زجاجة الماء الحار. تلت ذلك لحظةٌ من صمتٍ لا دنيويٍّ – ثم لا شيء بعد سوى رائحة الموت الشاملة. حينها كانت اليزابيث مديرةً ظهرها لهما و منهمكةً في التّصَيُّد وسط الصناديق بحثاً عن قدحٍ، و إذ وجدته ملأته قهوةً و هي ما زالت غير دارية أنّ كلَّ الأمر قد اكتُشف. تقدمت نحو ضحيتها. لاحظت أنهما كانا يراقبانها فوقفت ميِّتَةً. كان بول، بجهدٍ متوحِّشٍ و خارقٍ، قد رفع نفسه نصفياً وسط الوسائد مسنوداً، في ذلك، بذراعي أقاثا الملتفّين حوله بحيث أنَّ أحد خدّيها قد التصق بأحد خديه. اندلع لهيب كراهية مميتة من وجهيهما معاً. مدت القهوة نحوه، لكن صرخةٌ من أقاثا أوقفتها :- ’ لا تَمَسَّها يا بول ! ‘
- ’ إنّك مجنونة ‘، غمغمت اليزابيث، ’ أنا لستُ مُحَاوِلةً تسميمه ‘.
- ’ أنا لا أستبعِدُ منكِ ذلك ‘.

هذا كان أكثر من الموت :- إنه موت القلب. تمايلت اليزابيث على قدميها. فتحت فمها، لكن لم تصدر عنها أيُّ كلماتٍ.

- ’ الشّيطانة ! الشّيطانة القذرة ! ‘

هذه الكلمات الآتية من بول وثّقت أسوأ ظنونها و سحقتها تحت ثقلٍ إضافيٍّ من الرّعبِ :- ما حلمت قطّ بأنّ له القدرة على الكلام.

’ قذرة، شيطانة وسخة ! ‘
كرّةً، ثمّ كرّةً أخرى أيضاً، بصق بول هذه الكلمات نحوها بِنَفَسِهِ المحتَضَر و هو يقلقها بتحديقته الزرقاء، بشواظ نارٍ أخيرٍ و طويل المدى منبعث من الشقّين الزرقاوين بين جفنيه. شفتاه، تلكما اللتان كانتا جميلتين جداً، انفتلتا و انشدّتا بتشنّجٍ، و من البئر المنشَّفة لما قد كان قلبه ما ارتفع شيءٌ سوى وميضٌ بلا دمعٍ، فسفورٌ ذئبيٌّ.

مضت العاصفة الجليدية صافعةً للنوافذ.

قالت اليزابيث منكمشةً :- ’ نعم، أنتَ على صوابٍ، فما قلته حقٌّ. كنتُ غيورةً. ما أردتُ أن أفقدك. أنا أبغض أقاثا. ما كان لي أن أدعها تأخذكَ بعيداً ‘.

ومنزوعاً عنها، أخيراً، ستر تنكرها اتخذت اليزابيث من الحقيقة لباساً فاستطالت قامتها. ضفائرها تناثرت خلفاً و كأنما نُفخْنَ بعاصفةٍ. حوّم جبينها الصغير الشرس تياهاً، مجرداً، فوق العينين الملتمعتين. صمدت بجانب " الحجرة ". وقفت ضدَّهم جميعاً متحدِّيَةً أقاثا، قيرارد، بول و العالم كلّه.

سحبت اليزابيث المسدّس الدّوّار بسرعةٍ من صندوق الأدراج.

’ إنها ستُطلقُ الرّصاص ! إنها ستَقتُلُني ! ‘ زعقت أقاثا ثم استمسكت ببول، إلاّ أنه كان قد غادر جانبها و مضى تائهاً.

لم يكن لدى اليزابيث أيّةَ أفكارٍ عن جعل أقاثا هدفاً لرصاصها. فهي قد قبضت على المسدس الدّوّار ليس لتُصيب به امرأةَ اللحم و الدم الشابة الأنيقة هذه، بل بالإيماءة الأخيرة لجاسوسةٍ منكشفةٍ، بظهرٍ مستندٍ على الحائط و بغريزةٍ أساسيّةٍ جُلّها تصميماً على بيعِ حياتها بثمنٍ عزيزٍ ما استطاعت إلى ذلكَ سبيلا.

لكن الإيماءة تلك قد كانت خُسارةً على مشاهدين كهذين. ما الذي يُستطاعُ أن يُجنى من تمثُّلِ عظمةٍ إزاءَ رجلٍ مُحتَضَرٍ و امرأةٍ شابّةٍ هستيريّةٍ ؟

هو ذا ما رأته أقاثا فجأةً :- مخبولةً في فعلِ تفكُّكها أمام عينيها هي بالذّات، واقفةً أمام المرآة، ماسحةً و حاشَّةً، سائلة اللعاب، حولاء العينين، ممزِّقَةً لشعرها من جذوره. فاليزابيث قد استسلمت لمصيرها :- ما عادت قادرةً على تحمّل هذا التّباطئ في مسير تدهورها. إنها تحاول حلَّ توترها الداخلي بترك نفسها تنهار. هي تُكافحُ، بوسيلةِ هذا التمثيل العجيب للعجز، كي تردَّ الحياة إلى عبثيّتها القُصوى، كي تدفع خلفاً تخومَ ما قد يزال مقضيّاً له أن يُعانَى، كي تبلغ لحظةَ حين الدّراما تكون قد قضت، أخيراً، عليها و لسوفَ تلفظها خارجاً.

’ إنها قد جُنّت ! النجدة ! النّجدة ! ‘ صاحت أقاثا.

فعلت كلمة " مجنونة " ( و معنى كلمة " مجنونة " ) فعلَ كابحٍ لها. بجهدٍ سيطرت على نفسها. ستكون رزينةً الآن. إنّها قابضةٌ على سلاحين بيديها المرتعشتين :- الموت و المتاه. برأسٍ محنيٍّ وقفت منتصبةً.

عرفت اليزابيث أنّ " الحجرة " قد كانت منجرفةً رأساً، أسفلَ منزَلَقٍ دائخٍ، صوبَ نهايتها. لكن النهاية ظلّت غير آتيةٍ، فهي يجب أن تُعانَى حتى أمدها الأقصى :- ينبغي ألاَّ يكون هنالك إرخاءَ للتوتُّر. بضعٌ من جداولِ الضّربِ مضت عاصفةً خلال رأسها؛ نتفٌ و نُثاراتٌ من حساباتٍ، تواريخٍ و أرقامِ شوارعٍ :- هي قد أضافتهم جميعاً معاً و قسَّمَتْهُمْ قِسَمَاً بغيرِ ما اعتبارٍ لغايةٍ ما – ثم شرعت معيدةً لهذه العملية كلّها مرةً أخرى ...... فجأةً تذكّرت أصل ’ الأَكِمَة ‘. فكلمةُ ’ أكِمَة ‘ – كما استبان لها – هي الكلمة التي عنت ’ جبلاً ‘ في رواية بول و فرجيني.
تفكّرت :- جزيرتهما ( بول و فرجيني ) ... أيُّ جزيرةٍ هي قد كانت يا تُرى ؟ هل هي كانت جزيرة " إلِي دِي فرَانْسْ " ؟ بدأت أسماء الجزر تطفو عبر ذهنها :- إِلى دي فرانس، موريشس، إِلى سينت لويس. رتّلت تلك الأسماء. قلّبتهم في خاطرها. مازجتهم. ألغتهم فأنشأت، في المنتهى، فراغاً تخلّقت فيه الدّوّامةُ.

شعر بول بوطأة سكينة اليزابيث. فتح عينيه. نظرت إليه فجابهتها منه تحديقةٌ هائلةٌ، لكنها متمعِّنة. و إذ خلت تلك التحديقة – الآن – من الكراهيّة فإنها قد بدأت تتعمّق، سرّيّاً، بالفضول. رأت هي فيه ذلك فشعرت ببادرة انبثاق ظفرٍ – عرفت أن العقدة التي ربطتهما ما زالت مُوثَقَةَ العروة. و مُثَبِّتَةً عينيها، بلا كللٍ، في عينيهِ، ناسجةً خيطَ الغيبةِ نحوه، مضيفةً وطارحةً أرقاماً بصورةٍ ميكانيكيّةٍ، مُنشِئَةً قوائمَ أسماءٍ و أماكنٍ، نشَّرَت الشَّبَكةَ، ببطءٍ، حوله جاذبةً له – قطعاً – خلفاً إلى داخل " اللُّعبة "، إلى داخلِ عالمهما ذي الضوء و الهواء :- حجرتهما.

بالبصارةِ الفوق – طبيعية للحمّي نفذت اليزابيث إلى دخيلة أكثر المناطق سرّيّةً. أطاعتها الظّلال. ما صاغته حتى الآن بدون أيِّ تدبُّرٍ ذهنيٍّ – مل بنته كما يبني النحل مساكنه – و هي، بعد، غير مدركة لدافعه أو اتجاهه بأفضل مما قد يعي ذلك مريضٌ غارقٌ في نومٍ مغناطيسيٍّ عميق هي، حاضراً، قد خلّقَتْهُ و وجَّهَتْهُ بوعيٍ. و كامرئٍ نهضَ، بفعلِ صدمةٍ عنيفةٍ مفاجئةٍ، من شللٍ طويلٍ و مشى تحركت هي و أخذت بناصيةِ أمرها. هي – اليزابيث – الآن جاذبةً بول وراءها و بول مُتَّبِعَاً لها :- لا شكَّ في هذا. اليقينُ كان هو الصّخرة التي أسَّس عليها بناءه الذّهنيّ اللاّ متصوّر.

زمّرت، زمَّرَت فأبهجتهُ و تمايل على نغمها. قد سبق لها العلم أنه ما عاد شاعراً بأقاثا متعلِّقَةً بعنقه. فهو قد باتَ أصمّاً عن نواحاتها. كيف لاليزابيث و بول أن يكونا قد سمعاها ؟ فصرخاتها قد دُرِّجَت صوتياً فس مستوىً منخفضٍ كثيراً عن مستوى المفتاح الموسيقي الذي انتقياه لترنيمتهما الجّنائزيّة. الآن هما يصعدان؛ معاً يصعدان. اليزابيث تحملُ – الآن – فريستها بعيداً. يرتديان أزياء العصر الهيليني و يُخلِّفان مجالي كائنات العالم السّفلي وراءهما. العلم الإلهيُّ الكلّيُّ سوف لن يكفي ( أو يتّسع ) لسماع اعترافهما و غفرانه. إنهما يجب أن يضعا ثقتهما في تقلب خواطر " الخالِدِين " الإلهية. شجاعةٌ يستمسكان بها للحظةٍ قصيرةٍ أخرى سوف توردهما حيث الجسد ينحلُّ، حيثُ الأرواحُ تتعانق، حيثُ سِفاحُ ذوي القُربَى لا يعود كامناً لهما في الزّوايا.


[رسم 11].


ترددت صرخاتُ أقاثا من عهدٍ آخرٍ، مكانٍ آخرٍ. لاليزابيث و بول كنَّ أقلَّ أهمّيّةً من العاصفةِ الثلجيّةِ العظيمةِ الضاربة على النوافذ. تراجع الغسق أمام بُهرة المصباح الشَّرِسَة. اليزابيث وحدها ظلّت بمنأىً عن محيطها و في باطن ظلِّ منديلها الأحمر كالدّمِ؛ رداءاً من أُرجُوانها قد كسا اليزابيث التي كانت ناسجةً الفراغ و ساحبةً بول، عبر التّخوم، من أقاليم الضّياء إلى جوفِ أقاليمِ الظَّلامِ.

كان بول غاطساً و منحسراً نحو اليزابيث، نحو الجليد، نحو " اللّعبة "، نحو " الحجرة "، نحو طفولتهما. ما زالت الإلهةُ العذراء ممسكةً به، عبرَ خيطِ نورٍ مفرَدٍ، خارج الظلمة، فجسده الحجري ما ظلَّ مُختَرَقَاً بفكرةٍ حياتيّةٍ واحدةٍ، أخيرةٍ وكلّيّة النّفاذ. ما زالت عيناه واقعتان على شقيقته – لكنها ما عادت شيئاً سوى هيئةٍ طويلةٍ ليست لها هويّة ومناديةً باسمه. اليزابيث، بإصبعٍ على زنادِ المسدّسِ الدّوّار، كامرأةٍ ضامّةً محبوبها إليها في فعل الحبِّ، ما برُحَت مراقبةً و منتظرةً له، إرضاءاً لرغبته، و صائحةً فيه أن يُعجِّل بتشنُّجِهِ الفنائيِّ، أن يُرافقها في اللحظة النهائية للنشوةِ و الامتلاك المتبادَلَين، للموت المشترك.

الآن هو قد استُهلِكَ، فرأسهُ قد سقط خلفاً. اعتقدت هي أنّ النهاية قد قدمت فوضعت المسدس الدوار على صدغها و جذبت الزّناد. بقعقعةٍ دائرةٍ تحطمت فوقها إحدى الستائر حينما هوت. خُرِقَت الحوائطُ، افتُضِحَت سرّيّة المقام المقدّس فباتَ مشهداً عاماً، عارياً، منتهكاً و نهباً للعيون المراقبة لبول من النوافذ الملفّعة بالجّليد.

رأى بول تلك العيون ناظرةً أسفلاً إليه.

و فيما وقفت أقاثا خرساء و منشدهةً بالرعب و محملقةً إلى الجثة الملطخة بالدم التي كانت اليزابيث، رآهم بول متناثرين في زجاج النوافذ المغطّى بالصّقيع؛ رآهم و هم محتشدين، مُنكَبِّينَ أماماً :- اللاعبين لكرة الثلج – أنوفهم، خدودهم و أياديهم الحمراء. تعرف على ملامحهم، على قُبَّعاتهم و أوشحتهم الصوفية. بحث عن دارقيلوس فما استطاع أن يجده. كلُّ ما استطاع أن يراه كان تلك الإيماءة الرّحبة من ذراع دارقيلوس المرفوعة.

- ’ بول ! بول ! النجدة ! النّجدة ! ‘

لكن من هي [ تلكَ ال" أقاثا " الصائحة – المترجم ] حتى تناديه باسمه ؟ أيُّ قِسمةٍ أو نصيبٍ لها فيه ؟ عيناهُ منطفئتان – الخيطُ منقطِعٌ. طارت " الحجرةُ ". كلُّ ما بقِيَ هو رائحةُ السّمِّ العطنة و هيئةٌ صغيرةٌ منشَطِحَةٌ، هيئةُ امرأةٍ ما متلاشيةً، ذابلةً، ثمَّ مُختَفِيَةً في المسافةْ.



هامش:-

[تمت الترجمة خلال النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي].
أضف رد جديد